وهذه السياسة التركية تبدو غير دارجة لدولة إسلامية يلعب الدين المحرك الأول لتحديد توجهاتها السياسية. (1) فعلي وقع الشد والجذب بين الضاربين لدفوف الحرب، ورافعي أغصان الزيتون، تتأرجح منطقة الشرق الأوسط انتظاراً للحسم، إلا أن بقاء الوضع الراهن "لا سلم - لا حرب" لن يدوم طويلا .. ليبقي السؤال: هل ما قامت به إسرائيل من بلطجة ضد أسطول "الحرية" يعد رسالة رمزية لخصومها في المنطقة، مفادها تذكيرهم بامتلاكها واحدة من أكثر آلات القتل والدمار في العالم.. أم أنها مصادفة وجريمة كاشفة لإرهاب دولة تجسده الدولة الإسرائيلية منذ نشأتها؟ وعلي صعيد العلاقات التركية - الإسرائيلية، فقد تحدثت مصادر دبلوماسية تركية، عن تباشير أزمة جديدة في العلاقات بينهما مرشحة لمزيد من التدهور علي خلفية "مجزرة الحرية"، خاصة بعد إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية "بنيامين نتنياهو"، رفضه الاعتذار لأنقرة عن مقتل مواطنيها في الهجوم الذي شنته علي سفن الأسطول. وأكدت تلك المصادر - حسبما أفادت وكالات الأنباء العالمية - أن أنقرة ستوسع من قرار منع الطائرات العسكرية من عبور مجالها الجوي، ليشمل حركة الطيران المدني .. في إشارة منها إلي أنه رغم اللقاء الذي جمع وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، ووزير الصناعة والعمل الإسرائيلي، بنيامين بن إليعازر، الذي جاء في إطار التخفيف من حدة الاضطرابات بين البلدين، فإن تأكيد نتانياهو علي أن إسرائيل لا يمكنها الاعتذار زاد من حدة التوتر بين البلدين، مما حدا بأنقرة لتحذير إسرائيل بأنها ستوسع الحظر الجوي الذي تفرضه علي الطائرات العسكرية التركية ليشمل الطائرات التجارية، حال عدم استجابة تل أبيب للشروط التركية الخمسة، وهي: الاعتذار عن الهجوم علي أسطول الحرية، والتعويض عن الضحايا، وإعادة السفن، وتشكيل لجنة تحقيق دولية، ورفع الحصار عن غزة. (2) إيجمن باجيس، وزير الدولة التركي وكبير المفاوضين الأتراك في محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي، قال: إن مستقبل العلاقات التركية - الإسرائيلية متوقّف علي الخطوات التي ستقوم بها إسرائيل. ونقلت وكالة أنباء الأناضول قوله: "علي إسرائيل أن تفكر فيما إذا كانت تريد أن تخسر تركيا أم لا؟".. مؤكدًا أن بلاده لا تريد أن تخسر إسرائيل .. كما لفت إلي أنه لا أحد يريد أن تقع هجمات علي مجموعات تعمل في مجال حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية.. وقال إنه أحياناً يتساءل: ما إذا كانت إسرائيل حقاً تريد السلام أم لا؟ وأشار إلي أن الدول لا يمكنها أن تحقق السلام من خلال "إذلال الناس"، وقال باجيس إن عائلات الأتراك الستة الذين قتلوا في الهجوم الإسرائيلي يتوقعون اعتذاراً من إسرائيل، وأن تركيا تريد أن تضمن عدم تعرض السفن المدنية للهجوم في المياه الدولية، وقال: إن الحصار علي قطاع غزة غير قانوني، مضيفاً أنه لا يوجد قرار أممي بهذا الشأن. إذن.. المشهد غير مطمئن إذ يزداد اشتعالاً، لا سيما بعد الكشف عن أن بنيامين بن إليعازر، وزير التجارة الإسرائيلي، التقي سرا أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي - بناء علي ضغط من الرئيس الأمريكي باراك أوباما - في محاولة لتحسين العلاقات بين البلدين، التي وصلت حاليا إلي أدني مستوي لها، وأكد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو اللقاء، وقال: إنه سمح بعقد مثل هذا اللقاء، وأثار الاجتماع غضب أفيجدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي، الذي احتج بقوة، وقال إن اللقاء جري بدون علمه. (3) إن العلاقات التركية - الإسرائيلية ارتقت في مرحلة من المراحل، ولوقت قريب، إلي مستوي التحالف الاستراتيجي، بدءاً من المناورات العسكرية المشتركة وعقود التسلح وتبادل المعلومات، حتي جاء العدوان علي الأسطول، الذي يحمل علم تركيا في المياه الدولية ليضع نقطة اللا عودة في العلاقات، التي لن تعود إلي سابق عهدها، لكنها لن تصل إلي مرحلة العداوة. ورغم الهجوم الكلامي العنيف الذي شنه رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوجان، علي قادة إسرائيل، واتهامه لهم بالإرهاب والدموية والقرصنة الدولية، فإن وزارة الخارجية التركية اكتفت باستدعاء السفير الإسرائيلي، وتوجيه اللوم له ولحكومته، دون رد عملي قوي بطرد السفير - مثلا - أو علي أقل تقدير استدعاء سفير تركيا في تل أبيب. الأمر الذي يؤكد أن تركيا ليست مستعدة لتصعيد قوي علي المستوي الدبلوماسي مع إسرائيل، وجاء بيان مجلس الأمن - أحد الأثافي - ليقضي علي الآمال العربية، في إمكانية ظهور دولة في منطقة الشرق الأوسط، قادرة علي تحجيم الهيمنة والعدوان الإسرائيلي، إذ وافقت تركيا علي بيان مخفف - بصياغة أمريكية - يدين مقتل مدنيين في عملية القرصنة علي الأسطول، ويكتفي بالمطالبة بالإفراج الفوري عن المعتقلين. إن المراقب للوضع الحالي، يتراءي له التدخل الأمريكي الدائم لمساومة الجانب التركي - أو غيره - علي مصالح خاصة، لضمان الحماية التامة للكيان الإسرائيلي من آثار أي عدوان أو تطرف.. لتتحقق الرغبة الأمريكية في عدم السماح لأي دولة في المنطقة العربية، بالوقوف في وجه إسرائيل (!). (4) ورغم مظاهر التوتر الواضحة، التي اتسم بها الخطاب السياسي التركي، فإن الوضع لن يصل إلي حد التفكير في قطع علاقاتها بإسرائيل، لما في ذلك من تداعيات سلبية علي علاقات تركيا بالولايات المتحدةالأمريكية وأوروبا•• إضافة إلي هدف تركيا الاستراتيجي في تأكيد دورها الإقليمي، مما سيحدو بالجانب التركي إلي إعادة صياغة العلاقة مع إسرائيل، وفق أسس ومعايير جديدة، ليظل عامل المصلحة المشتركة المقننة هو العامل الحاسم في تلك العلاقات خلال هذه المرحلة. وستتوقف - بطبيعة الحال- عملية إعادة تقييم العلاقات التركية - الإسرائيلية علي الدور الأمريكي المؤثر في العلاقات بين كلا الطرفين، خاصة والعلاقات بينهما يحكمها التنافس في الدور الإقليمي وفق منظومة إقليمية تضم قوي أخري - منها: إيران بالطبع - تربطها علاقات عدائية بإسرائيل، إلي جانب أن الموقف العربي "مغيب" علي الساحة الدبلوماسية والسياسية، ويدعم هذا توتر العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية وتباينها، الذي بدأ يعلو العلاقات الاستراتيجية والتحالفية بينهما. (5) إن محاولات إسرائيل لإشعال المنطقة، لن تتوقف عند تركيا فحسب، بل ستعاود - ولا شك- إشعال الأوضاع في قطاع غزة، المحاصر، سواء بمعاودة قصفه بشكل منتظم لاستفزاز الفصائل الفلسطينية، أو عبر القرصنة، كالتي مارستها ضد أسطول "الحرية" لكسر الحصار، في الفترة الأخيرة، وهو ما أعاد إلي الواجهة مأساة أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون تحت "وطأة الحصار"، رغم الإجماع الدولي علي عدم قانونيته وتحذيرهم من آثاره العكسية - بعيدا عن سوريا ولبنان وغزة.