هَلْ مِن أَجْلِ هذَا القَبْرِ نَامَتْ مِصْرُ فِي الوَادِي، كَأنَّ القَبْرَ سَيِّدُهَا ؟ بِلادٌ كَلَّمَا عَانَقْتُهَا فَرَّتْ مِن الأضْلاعِ، لَكِنْ كُلَّمَا حَاوَلْتُ أنْ أنْجُو من النِّسْيَانِ فيهَاٌ طارَدَتْ روحِي .. الأبيات السابقة من قصيدة الشاعر المنتمي لقضية بلاده محمود درويش بعنوان : رحلة المتنبي إلى مصر ، طارت أبياتها من ديوانه لتستقر برأسي وأنا أقلب مشهدين من مشاهد المحروسة بعيني ، المشهد الأول حينما رأيت مبدعي مصر وفنانيها الحقيقيين وهم يعيدون رسم ما سطروه وخطوه من فن الجرافيتي على جدران القاهرة تحديدا بميدان التحرير وشارع محمد محمود . وكأن النظام السياسي يأبى أن يكون لمصر تاريخ استثنائي غير الموجود بكتب المناهج الدراسية الوزارية أو الكتب المشوهة التي تقدم بالمدارس الربحية وكلتاهما يعصفان بمستقبل الأمة وينسف ماضيها نسفاً. وربما تلك الرسومات هي التي أكدت بالفعل فشل وتدني وتدهور مستوى كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية بمصر، ففي الوقت الذي اتجهت فيه هذه الكليات إلى التنظير والتقعير والنفسنة وممارسة مركبات النقص على المجتمع الجاهل بالضرورة من وجة نظرهم لأنه لا يفهم أعمالهم الخالدة الفريدة.. اتجهت أيادي الفنانين المصريين الأصليين إلى تخليد يومياتهم الحاسمة والمحمومة عن طريق الرسم الجداري. وهذا لا يعد جديداً ، فالفراعنة ومن تبعهم قاموا بتجسيد مظاهر حياتهم واحتفالاتهم على جدران الشوارع والمعابد ، لكن أن يأتي النظام السياسي الحالي متمثلاً في حكومته التي تبدو كل يوم وليلة عاجزة عن تحقيق مطالب شعبها وتقرر تجميل وتنظيف الميادين وعلى رأسها الميدان التاريخي التحرير ، وتقوم مشكورة بإزالة تلك الرسومات فهي بحق تسعى لتدمير ذاكرة هذه الأمة ، وكأنها تتحالف مع نظام مبارك الذي استهدف تشويه ماضي الوطن وحاضره ولكن هيهات أتت الرياح بما لم تشتهيه سفنه المتكسرة. واليوم ونحن نطالع حالات الكر والفن بين الفن وبيروقراطية الحكومة ، أي بين إعادة الرسومات الاختزالية لحراك مصر السياسي الذي قرره سباب هذا الوطن وبين قرارات إدارية غير مدروسة وغير مخططة ولا أفطن مفادها اللهم سوى تصريحات المسئولين عن التجميل والتشجير والنظافة. ولو تعامل المسئولون بهذه العقلية التدميرية مع الفن الراقي الذي لا يدعو للعهر وإثارة الغرائز فإنه يسعى بجدية لتقويض وطن جميل كمصر. وإذا كانت الحكومة النشيطة الغائبة عن المشهد السياسي والاجتماعي وإضرابات العمال بطول وعرض مصر قد قررت أن تجمل وتزين وتعيد الحياة بميادين مصر فإن مصر نفسها أرادت أن تبعث للحكومة رسائل قصيرة جداً لاختراعات وابتكارات الحكومة الجليلة أبرزها أن الثورة التي أتت بحكومة وقيادة ومؤسسات إخوانية هي وحدها القادرة على تشكيل وجدان مصر وهويتها وأن الثورة التي لا تزال مستمرة هي أكبر دليل على أن الأنظمة السياسية تشيخ ولو كانت في المهد صبية ، لكن الثورة نفسها لا تهرم ولا تشيخ لأنها قامت على الحب ، وليت القائمين على إدارة هذا الوطن يفطنون إلى حقيقة أن أهل الحب أحياء. المشهد الثاني الذي استرعى انتباهي هو ما تفعله وزارة الأوقاف متمثلة في وزيرها الدكتور طلعت عفيفي مع الطرق الصوفية ومريديها وأنصارها ومحبيها. فربما لم يدرك الوزير أنه فتح النار على نفسه وعلى وزارته بل وعلى جماعته التي صعدته لسدة الوزارة بسبب تصريحاته الاستفزازية والمضطربة بعض الشئ ضد الصوفيين وهم الفئة التي لم تزأر بعد لأن زئيرها جلل. فالوزير أعلن باختصار منع إقامة أية حضرات للذكر داخل المساجد التي هي في الأصل بيوت الرحمن وليست ملكاً للوزارة إلا بورقة تستطيع قوى الثورة أن تمزقها مائة قطعة صغيرة ، ولم يكتف الوزير بذلك ، بل وصل الأمر به إلى تحريم الصلاة في المساجد التي بها قبول أولياء الله الصالحين أو ما اتفق على تسميتهم بأهل الحب وهو حب الله تعالى .وكأنه بذلك يحاول استرضاء التيارات الدينية المتشددة التي حرمت من قبل الصلاة أو حتى مجرد الجلوس في تلك المساجد التي هي في الأصل بيوت للعبادة. وربما أن الوزير لم يدرك حتى كتابة هذه السطور أنه بفعلته تلك يحدث فتنة كبيرة داخل أنساق المجتمع الذي هو في أمس الحاجة إلى التكاتف والتعاطف بين أهله وجماعاته ، بجانب أن فكرة توحيد الصف باتت من أجل الرؤى المطروحة لإعمار مصر لا لتخريبها أو تشجيع المخربين على هذا . وربما أن امتناع وزير الأوقاف عن حضور المناسبات الدينية التي تقيمها الطرق الصوفية في مصر لهو مدعاة لمزيد من الامتقاع والغضب من جانب أقطاب ومريدي هذه الطرق والوزارة بأسرها وليس الوزير فحسب. المدهش في الأمر أن بعضاً من زعماء هذه الطرق أصدروا تصريحات مفادها أن حضور الوزير من عدمه لا ولن يزيد من الأمر شيئاً ، ولكن محاولات الكر المتعددة تلك تجاه الطرق الصوفية تعيدنا إلى حقيقة الهجوم الخفي غير المعلن ضد الطرق الصوفية في مصر ، فبالرغم من أن التصوف يتمتع بمكانة وأهمية ، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يرى غير ذلك ، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه أنصاره ومريديه ، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام ، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام. وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة والعارفين بالله يفوق الحصر ، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية ، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم .على العكس تماما من الخطاب الديني لدى جماعة الإخوان المسلمين ، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفية كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته ، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من خصائص دعوته أنها حقيقة صوفية . وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلى منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفية ، فكثير ما كان هذا الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة ، وهو نفس الخطاب والطرح الصوفي القديم والمعاصر ، فالتجربة الصوفية تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشرية التي عقدتها الحياة الاصطناعية وطبيعة المجتمع المركب . لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه ، فإذا كان التصوف يدعو إلى قطع العبد بعلائق الدنيا ، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد ، والبلد ، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره . وليس هذه السطور دفاعاً عن التصوف والصوفية في مصر بقدر ما هي إلا تذكير وتبصره للوزير المنوط برأب الصدع بدلاً من تشتيت البلاد وجرها إلى شر فتنة مستطيرة.