أنواعها، والمزايدات والمساومات• في الأيام القليلة الماضية كانت أثيرت اعلاميا قضية مباراة منتخب مصر والجزائر، في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 0102 المزمع استضافتها في جنوب أفريقيا ، وشهدت الساحة الإعلامية والصحفية إثارة وتحريضاً هائلاً فوق طاقة الحدث وفوق حجمه، فالفضائيات جندت نفسها برامجها، ضيوفها، حتي إعلاناتها للحدث الجليل• بين مؤيد لمنتخب مصر وآخر مؤيد لمنتخب الجزائر، فكثرت الكتابات والتحاليل والحوارات والافتراءات والشتائم أيضاً ، فعلي مدار ما يقرب من شهر قامت وسائل الإعلام (المصرية والجزائرية) خاصة، والعربية عامة، بتعبئة نفسية للجماهير وتوظيف للطاقة الإعلامية سواء كانت مطبوع ومقروءة أو مسموعة أو مرئية، شارك فيها إعلاميون وفنانون مشاركة في الشحن والتعبئة• الإعلام المصري والجزائري تلاعبا بالإثارة وقلب الحقائق وإعطائها أكثر من حجمها، والمتاجرة بأخبار المبارة واستفزاز الجماهير ، وصنع الاكاذيب ، وإيقاظ النزعة الإقليمة، القبلية، لمجرد أن يفوز فريق رياضي علي آخر• من يطالع الصحف والفضائيات ومواقع الإنترنت، يستشعر أنها أصبحت بمثابة منتديات، كل من هب ودب يدلي برأيه، دون مراعاة لقيم وأخلاق ، ورفع منسوب الشد العصبي لدرجة تدخل الحكومات ودعوة مشجعي كرة القدم للهدوء، واعتبارها مباراة رياضية لا يجب أن تنعكس علي علاقة الشعبين!! وأحيا الشحن الإعلامي تحرشات الجمهورين المصري والجزائري ببعضها بعضاً علي مواقع الإنترنت والصحف الإلكترونية بإحياء أحداث قديمة من الصراع بين المنتخبين يعود إلي أحداث الشغب التي رافقت مباراتها في تصفيات كأس العالم 9891وأعد مشجعون جزائريون أغنية علي الإنترنت تقو ل"اسمعوا أيها الفراعنة• لقد حلت عليكم اللعنة"• ووصل إلي أن الأغنية تعيد تذكير مصر بهزيمتها في حربها مع إسرائيل في يونيو 7691 "لقد هزمتكم إسرائيل في ستة أيام عام 7691 فلسنا من باع فلسطين إلي اليهود" • بينما يرد مشجعون مصريون علي موقع "يوتيوب"•• "كلماتكم ليست مهمة ولا تؤثر فينا، تحدثوا إلينا بالفرنسية لأن لغتكم العربية غير سليمة"• وتقول كلمات أغنية أخري لمشجعين مصريين: " لقد حررناكم عندما كانت فرنسا تعاملكم كالعبيد" في إشارة إلي دعم مصر والرئيس جمال عبدالناصر لثورة الجزائر في الخمسنييات والستينيات• وألهبت المباراة الصحف المصرية الرياضية فطبعت آلاف النسخ ، وعلي صدر صفحات الأولي تصريحات ساخنة•• وأحياناً كلمات نابية• فجريدة ( الخبر ) ضاعفت أعداد نسخها المطبوعة لتزيد عن مليون ومائة ألف نسخة، وجريدة ( الشروق ) طبعت نحو مليون ونصف نسخة• أما جريدة ( النهار الجديدة ) فطبعت ما يزيد عن الأربع مائة ألف نسخة، وذلك خلال الثلاثة أيام التي سبقت المباراة وهذه الأرقام لم تعرفها الصحافة الجزائرية عبر تاريخها ، وازدهرت تجارة بيع أشرطة الكاسيت التي تحوي الأغاني الوطنية وأغاني النصر وبيع القمصان والأعلام• حتي المدارس لم تبتعد عن حملة التعبئة المنظمة والمحرضة• وضمن حملة المساندة الشعبية، دشنت شركات السيارات الأجرة حملة تحت شعار "شجع مصر" مع إعطائها "وصل" وقود مجاناً لتطوف السيارات حاملة علم المنتخب المصري• وكأن الدولتين العربيتين تدخلان الحرب التي تحرر أرضها أو تنال كرامتها بها، وليست مثل أي مباراة رياضية فيها فائز وفيها خاسر• كرة القدم تحولت لتجارة في المنابر الإعلامية واستثمرت سياسياً لتخديرنا عن مشاكلنا وهمومنا، فما رأيناه من تعصب وتشنج كان صناعة إعلامية تجعلنا ندرك خطر الإعلام في صناعة الرأي العام وتغيير الأفكار وتوجيهها فالإعلام قادر بتوظيفه علي تغييب الناس والترويج لكل ما هو مخدر للوعي يتحكم في حياة الناس ويغير مسار علاقة الإنسان مع نفسه ومع مجتمعه• نعم•• في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا الصحافة سلطة رابعة، فهي سلاح ذو حدين بإمكانها صناعة شخصيات ونجوم وأحداث وبإمكانها الإطاحة بالأشخاص والنجوم وتزوير الأحداث ، وإذا كانت الصحافة الغربية تعيش أزمة سطوة المال والتنافس بين الورقي والإلكتروني فإننا نعيش أزمة تتعلق بآداب المهنة وأخلاقها وأهدافها النبيلة، فمعظم مواثيق الشرف الصحفية والإعلامية في العالم تركز علي مسئولية الصحافة أمام الناس أي أمام المجتمع، ومسئوليتها أمام المصادر كما ركزت كذلك علي دورها في حماية النزاهة والشفافية كذلك العمل علي حماية مكانة المهنة وتأثيرها الإيجابي في المجتمع• الصحافة قبل أي شيء مؤسسة اجتماعية أخلاقية، تربوية، وهذا يتطلب من أصحاب المهنة ألا يقيسوا المادة الصحفية بمدي جدواها في المبيعات والإعلانات ، إن جميع المؤسسات الإعلامية في العالم تعكس حال المجتمع الذي تعيش فيه، هذا المجتمع بمختلف أبعاده القيمية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهذه الأبعاد تمثل المجال الحيوي الذي تتنفس من خلاله الصحافة• فهل التحريض والاستفزاز الصحفي كان هدفه النصر الرياضي فقط؟ إذا سلمنا بهذا فهذا تسليم سطحي•• علينا أن نتذكر مثلاً الشعب الأمريكي بشكل خاص والرأي العام العالمي بصفة عامة• إن الصحفي ديفيد بروك david Brork الذي كان وراء بداية خيط ملاحقة الإعلام الأمريكي للرئيس بيل كلينتون في علاقته الجنسية بمونيكا لونيسكي ، قد اعترف علانية في حديث نشرته مجلة أسكوار Esquire أن أهدافه لم تكن أبداً في الكشف عن حياة الرئيس الغرامية، ولم يكن ذلك بهدف حرية الصحافة ولا الإعلام الأمريكي، ولا حق الشعب في معرفة الحقيقة، بل كان هدفه سياسياً وهو تحطيم الرئيس لا أكثر ولا أقل• وهذا يعني أن أحد روافد الحرية والديمقراطية الأمريكية وهي الصحافة قد انحرفت عن طريها الصحيح• حرية الصحافة وحرية التعبير مسئولية اجتماعية وإنسانية بالدرجة الأولي وخدمة العام، وليس لتهييج الرأي العام والقفز علي الثوابت القيمية والإساءة للآخرين والنيل منهم بالشتائم والسباب والمس بكرامتهم، والمسئولية الصحفية تنبع من داخل الصحف أولاً قبل الاحتكام لأي قانون أو تشريع• نحن بحاجة لصحافة الشفافية والمسئولية بعيداً عن صحافة الإثارة والتغييب واغتيال الوعي، وهذا لا يخدم إلا أصحاب المصلحة في ذلك، أليس كذلك؟! نحن دائماً نقف موقف رد الفعل..ولا نبادر أبداً