تدخل التيارات الإسلامية الانتخابات البرلمانية الحالية بأكبر قدر من الشَّراهة والطمع والرغبة فى الحصول على المقعد البرلمانى، ولن نبالغ إن قلنا إنها الفصيل السياسى الأكثر رغبة فى التهام هذه الكعكة السياسية، التى قد تسد رمقًا جائعًا منذ عشرينيات القرن الماضى إلى السلطة، ما يعنى أنها قد لا تكون الأصلح فى دخول برلمان الثورة، تلك التى - وكالعادة دائمًا - يموت فيها الأبطال ليفوز ببرلمانها الانتهازيون، ولكم فى الثورة الإيرانية عبرة يا أولى الألباب. لقد تمزَّق الإسلام السياسى بعد الثورة إلى أكثر من اثنتين وسبعين فرقة، لا أستطيع أنا أو غيرى أن يقول إن واحدةً منها ناجية، على الأقل فى هذه الانتخابات، لأن حسابات السياسة تختلف كثيرًا عن حسابات الدين، الذى اختلط على التيار الإسلامى كله، لدرجة أنه أصبح لا يستطيع أن يستوعب فكرة أن الخريطة السياسية لهذا البلد لن تبقى على حالها بعد هذه الانتخابات، لأن أى عملية استقطاب سياسى فى التاريخ الحديث لن تنتهى لصالح الإسلاميين أبدًا، إلا فى حالة واحدة، هى أن تكون الولاياتالمتحدة وقوى الغرب الرأسمالى راضيةً عنهم، خصوصًا عن موافقتهم تجاه "العدو" إسرائيل، وبالتالى ربما يكتشف الكثيرون ذات يوم أن الثورة التى أطاحت مبارك وعددًا من رجاله، أبقت أغلب صفقاتهم قيد التنفيذ بعد الثورة. طبعًا، كلنا يعرف أن جماعة الإخوان المسلمين هى التيار الإسلامى الأكبر، وهى تدخل هذا البرلمان بصدر واسع، عبر حزبها الوليد "الحرية والعدالة"، أحد أوائل الأحزاب التى أنجبتها الثورة، فى الشهور الأولى من الحمل، وهى تنفق ببزخ لتنافس على عدد هائل من المقاعد، يصل فى بعض التقديرات إلى نحو 75%. الأمر الذى يجعلها تتصرف وكأن نصف البرلمان المقبل فى جيب سُترتها اليمين، رأينا كيف صار القيادى فى الجماعة والحزب أحمد أبو بركة يشبه إلى حد كبير القيادى فى الحزب الوطنى "المنحل" امبراطور الحديد المسجون أحمد عز، فى طريقة الكلام والاهتمام المفرط بلون وتسريحة ولمعان شعر الرأس، رأينا كيف تركت الجماعة ثوار التحرير عراة أمام "صيادى العيون" من رجال الداخلية، معرضة سمعتها ومستقبلها السياسى كله للخطر، إذ إن الغضب المتزايد على الجماعة أوصلها إلى حالة من الانقسام، بين جيل الشيوخ الذى يحكم باختبارات "الطاعة والولاء" وجيل الشباب الذى بات يحلم بالتخلص من حكامه، ربما تأسيًا بثوار التحرير. فضلاً عن ذلك، شهدت انتخابات اليوم الأول من المرحلة الأولى والتى شملت تسع محافظات، هى القاهرة والاسكندرية وأسيوط والاقصر والبحر الأحمر والفيوم وبورسعيد وكفر الشيخ ودمياط، تجاوزات عدة من جانب مرشحى الجماعة، وعلى الرغم من أنها أحداث بدت فردية وغير مرتبطة بعمل منظم إلا أنها تضمنت توزيع دعايا انتخابية داخل عدد محدود من اللجان، وسيطرت أفراد من الجماعة على صناديق الاقتراع، وتوزيع أموال بغرض الرشاوى الانتخابية، إلا أن قيادات الجماعة والحزب كانوا حريصين على نفى ذلك، الأمر الذى يضعنا على حقيقة أن الإخوان يحاولون السيطرة بقوة وكثرة أعدادهم على اللجان. ولا ننسى أن حزب "الحرية والعدالة" اختار أولاً التحالف انتخابيًا مع القوى غير الإسلامية، لكى يرسل للغرب رسالة مزدوجة الهدف، أنه يستطيع أن يتحالف مع الشيطان لقاء الحصول على مكسب صغير من ناحية، وليعطى الإيحاء للجميع أن البديل الإسلامى "السلفيون" طبعًا لا يعنى الفوضى، لأنهم فى حقيقة الأمر يرفعون شعارات تناقض بشكل حاد مع أبسط مفاهيم الدولة المدنية. ومن جانب آخر، واختار الإخوان ثانية استرضاء المجلس العسكرى، والابتعاد عن القضايا الخلافية معه، فلم يعد أحد يسمعهم يتحدثون عن تصدير الغاز بأسعار متدنية، إلى إسرائيل، بل سمعنا كلامًا كثيرًا عن صفقات جمعتهم مع الأمريكان، ستصدقه الأيام المقبلة وحدها، أو تكذبه، وهو ما يجعل فرص عدد من مرشحيها قد تتضاءل فى بعض الدوائر، لأن الشارع السياسى لا يستطيع أن يدافع عن مواقف الجماعة وحزبها، فى الشهور الأخيرة قبل الانتخابات. الأمر يختلف كلية بالنسبة للسلفيين، أولاً لأنهم انخرطوا فى السياسة مؤخرًا جدًا، بعد سنوات طويلة من الاهتمام بالشرع والفقه والبحث عن الدلائل الشرعية، فهم بعد سنوات أمضوها فى السجون، صاروا من مواليد الحياة السياسية التى أفرزتها الثورة، وثانيًا لأن السلفيين –على عكس الإخوان- ينقسمون إلى تيارات وفرق وتحالفات، تجعل إمكانية نجاح كثير من مرشحيهم ضعيفة جدًا، وهم يخوضون الانتخابات عبر "تحالف من أجل مصر" الذى يتكون من أحزاب (النور والأصالة والبناء والتنمية والإصلاح "تحت التأسيس") معتمدين ربما على قاعدة واسعة من الإسلاميين أبناء المنهج السلفى، الذين تجمعهم تشكيلة كبيرة من الجماعات والجمعيات الإسلامية أبرزها: "الدعوة السلفية" مدرسة الإسكندرية، والجماعة الإسلامية، وجمعية أنصار السنة، والجمعية الشرعية والسلفية الحركية. وبنظرة عامة، يعتبر كثيرون أن "الدعوة السلفية" التى تتخذ من الإسكندرية مركزًا ومنطلقًا تعتبر الكيان الأوسع انتشارًا والأقوى بين السلفيين فى مصر، صحيح أنها لم تكن تؤمن منذ نشأتها بالعمل التنظيمى، إلا أنه بالإمكان الرهان على توحيد أهدافها التصويتية، لكن فى القاهرة والجيزة هناك "السلفية الحركية"، التى يقودها د. محمد عبد المقصود، وهو التيار الذى انشغل قديمًا بالسياسة، فأسس فى أعقاب ثورة يناير اللواء عادل عبد المقصود عفيفى شقيق الشيخ محمد عبد المقصود حزب "الأصالة"، فكان خروجه أشبه بالذراع السياسية لهذا الفصيل، ومؤخرًا دخل "الأصالة" فى تحالف مع حزب "النور" السلفى، وينتظر أن يكون دعم السلفية الحركية قويًا لهذا التحالف السياسى والانتخابى، خاصة أن وجوده الأقوى يتمثل فى محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية. أما حزب "البناء والتنمية" الذراع السياسية للجماعة الإسلامية –أحد أضلاع التحالف الإسلامى السلفى الأن "تحالف من أجل مصر"- فيعوَّل عليه كثير من قادة السلفيين والتحالف فى تغطية محافظات الصعيد، المنيا والفيوم وأسيوط، فضلاً عما يمثله وجوده فى محافظات أخرى مثل القاهرة والجيزة والقليوبية، من دعم للتحالف بشكل عام، فيما تستمر جماعة "التبليغ والدعوة" فى تمسكها بقرارها البعد عن أى عمل سياسى وإعلامى، حيث لم تغير فيها الثورة كثيرًا أو قليلاً، بل بقيت على عهدها غير مستعدة لأن تتحول عن الدعوة الإسلامية الهادئة بعيدًا عن صخب الواقع السياسى بجميع تفاصيله، لكن كل التقديرات تؤكد أن أعضاء الجماعة لا يمانعون فى المشاركة بالتصويت لدعم المرشحين الإسلاميين من جميع الاتجاهات. ونظرًا إلى أن المشهد الانتخابى فى المحافظات التسع التى جرت فيها الانتخابات يتسم بأجواء نهوض من عثرة حضارية، فإن توقعات كثير من المراقبين أشارت إلى الإخوان ربما يمثلون خطرًا أكبر من السلفيين، وإن كانت بعض الآراء ألمحت إلى أن التيارات الإسلامية ستكون ممثلة جميعًا فى البرلمان المقبل، وإن بأعداد محدودة بالنسبة للقوى السلفية، التى باتت مستبعدة من قبل الناخب العادى، بمعنى أن قدرة التيار السلفى على الحشد تتركز فقط فى السلفيين أنفسهم، وأن قدرتهم على اجتذاب أصوات من خارجهم لا تزال محدودة جدًا، فيما تستطيع الكتل والتيارات السياسية الأخرى، خصوصًا الليبرالية منها أن تستقطب عددًا أكبر من الكتل غير المسيسة والباحثة فى الوقت نفسه عن مرشحين يتميزون بطهارة اليد، الأمر الذى يجعل فرص السلفيين بمختلف تياراتهم –فى المحصلة- فى أدنى درجاتها، وإن كانت كلها ستصبح ممثلة ولو بأعداد قليلة. تبدو الخريطة السياسية لمصر بعد هذه الانتخابات مختلفة شكلاً وموضوعًا عنها قبل الثورة والانتخابات، سواء فى القاهرة أو فى المحافظات، بينما يجب انتظار المرحلة المقبلة لاكتشاف تأثير الكتلة التصويتية للتيارات الإسلامية على الشارع المصرى، الذى بات قادرًا على حسن الاختيار وإفراز الغث من السمين خصوصًا فى عالم السياسة.