تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات الحقوق المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    بالصور.. افتتاح مقر حزب الجبهة الوطنية بالقاهرة الجديدة    رئيس جامعة المنيا يتفقد قيد الطلاب الجدد بالجامعة الأهلية    متحدث الزراعة يكشف فوائد مشروع "البتلو" لخفض أسعار اللحوم    لربط التعليم بالصناعة.. تعاون بين "فنون بنها" و"صناع الأثاث" (صور)    الدقهلية.. غلق مطعم شهير بالمنصورة بسبب مخالفة الاشتراطات الصحية    الرئيس اللبناني يجدد رفض بلاده توطين الفلسطينيين في لبنان    سوريا.. مقتل انتحاري إثر تفجير حزام ناسف في حلب    منتخب ألمانيا يتوج بلقب مونديال الشباب لكرة اليد بعد الفوز على إسبانيا في النهائي    كهربا يقترب من العودة للدوري المصري.. الغندور يكشف التفاصيل    تقارير: ليفربول يوافق على رحيل كوناتي إلى ريال مدريد    "خنقتها بحتة قماش عشان شاكك فيها".. ليلة مقتل ربة منزل على يد زوجها في عين شمس    تامر أمين: حادث سيارة الفتيات بالواحات يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة في المجتمع    إنقاذ سيدة حاولت إلقاء نفسها أمام القطار بمحطة مترو الدقى    بحضور نجوم الفن.. 18 صورة من عزاء تيمور تيمور    طموح ونرجسي.. مميزات وعيوب برج الجدي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    تقديم 4 ملايين خدمة صحية مجانية بالإسكندرية ضمن «100 يوم صحة» (صور)    حلوى المولد النبوي.. طريقة عمل النوجا في المنزل بسهولة    مصور واقعة "مطاردة فتيات الواحات" يكشف كواليس لم ترصدها كاميرا هاتفه    الهباش: قرار وقف الحرب بيد الإدارة الأمريكية وإسرائيل تهدد استقرار المنطقة    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    صور | «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف بالأردن في مجالات الزراعة    الرئيس.. من «جمهورية الخوف» إلى «وطن الاستقرار»    وزيرا خارجية السعودية والإمارات يبحثان هاتفيا المستجدات الإقليمية    تحصين 41.829 من رؤوس الماشية ضد الحمى القلاعية بالإسماعيلية    بعد الانخفاض الأخير.. سعر الذهب اليوم الأحد 17-8-2025 وعيار 21 الآن في الصاغة    إغلاق 8 مراكز غير مرخصة لعلاج الإدمان والطب النفسي بالجيزة (تفاصيل)    جولات تفقدية لرئيس مياه الشرب والصرف بأسوان لمتابعة المحطات والروافع في ظل ارتفاع الحرارة    عبد اللطيف منيع يعود للقاهرة بعد معسكر مكثف بالصين استعدادًا لبطولة العالم المقبلة    «البترول» تواصل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر أغسطس 2025    التشكيل الرسمي لمواجهة تشيلسي وكريستال بالاس في الدوري الإنجليزي    7 أسباب تجعلك تشتهي المخللات فجأة.. خطر على صحتك    الأمن يقترب أكثر من المواطنين.. تدشين قسم شرطة زهراء أكتوبر 2| صور    المفتي السابق يحسم جدل شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    محافظ الجيزة يطمئن على الحالة الصحية لشهاب عبد العزيز بطل واقعة فتاة المنيب    رد فعل شتوتغارت على أداء فولتماد أمام بايرن    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    توجيهات حاسمة من السيسي لوزيري الداخلية والاتصالات    الثقافة تعلن إطلاق المؤتمر الوطني حول الذكاء الاصطناعي والإبداع    وزير السياحة: ضوابط جديدة للمكاتب الصحية بالفنادق.. وافتتاح تاريخي للمتحف المصري الكبير نوفمبر المقبل    رجيم صحي سريع لإنقاص الوزن 10 كيلو في شهر بدون حرمان    اللواء محمد إبراهيم الدويري: أوهام «إسرائيل الكبرى» لن تتحقق وتصريحات نتنياهو تدق ناقوس الخطر عربياً    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    توافد الفنانين وأحباء تيمور تيمور على مسجد المشير طنطاوي لتشييع جثمانه| صور    إنفانتينو عن واقعة ليفربول وبورنموث: لا مكان للعنصرية في كرة القدم    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    مقتل 3 وإصابة 8 آخرين في إطلاق نار بحي بروكلين بولاية نيويورك الأمريكية    قبل انطلاق الدوري.. الزمالك يدعم صفوفه في الكرة النسائية بعدة صفقات جديدة    مصطفى محمد يتصدر غلاف "ليكيب" قبل مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان    متحدث الأوقاف: 998 قافلة دعوية تستهدف الشباب فى مراكزهم لتصحيح المفاهيم    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الطائر الملون" التوحش والهشاشة يسيطران على عالم الرواية
نشر في صوت البلد يوم 02 - 11 - 2020

الحرب تدفعُ بأسوأ ما في الطبيعة البشرية إلى السطح، وتلوث البراءة ويسود في أجوائها منطق القوة. والبحثُ عن الفريسة هو ما يشغل الجميعَ في زمن الحرب. وطبعاً يقعُ الاختيارُ على الضعيفِ دائماً. ويكونُ التنكيل به علامة لتفاقم التوحش.
من هنا نفهمُ لماذا اختار الكاتب البولندي جيرزي كوزنسكي طفلاً لدور البطولة في عمله المعنون ب "الطائر الملون" وفوضه بمهمة السرد. إذ يتابعُ القاريءُ من موقع صبي ذي ست سنواتٍ مشاهدَ مشحونة بالعنف. وما يردُ على لسان الراوي لا يخالفُ مستوى إدراكهِ ومدار وعيه. فهو يشيرُ إلى الطرفين المُتحاربين بالكلمات والعبارات التي يسمعها من أهالي القرى والمناطق التي يمرُ بها حيثُ ينقلُ ما يدور من الشائعات عن المتحاربين وسلوكياتهم التي تكشف عن الخلفية الأيدولوجية، فالبيضُ وهم الألمان، يتركون ملاكي الأراضي على حالهم فيما الحمر المدعومون من الروس يقاتلون من أجل الإصلاح الزراعي.
في عالم هذه الرواية يتجاور الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت
وترافق التحولُ في موازين القوة حملات الانتقام من أنصار الطرف المعادي. وغالباً ما يكون هؤلاء الضحايا من المزارعين القرويين. لا يتوغلُ السردُ في مناخ الحرب إنما يرصدُ ما يبحثُ عنه الإنسان من المسارب لتصريف غريزة القتل والتوحش عندما يكون واقعاً بين تقاطع الصراع المتحدم. إذاً لا تنشأُ الصور الصادمة في هذا النص جراء ضراوة القتال في الجبهات وتراكم الجثث فحسب بل التصرفات العدائية التي تبدرُ من الشخص العادي تصدم المتلقي. وبهذا يتداعي العنفُ على مفاصل الرواية، دون أن تطغى قصص مكابدات وخسائر الحرب. ما يعني أنَّ النص يتنفسُ بعيداً عن التنميط وتدوير المُستهلك. والأهمُ من ذلك هو ما يضمرهُ خطاب الرواية من الأسئلة بشأن مفهوم الهوية وموجهات تكوينها. الأمر الذي تراه بوضوح في رفض الصبي للعودة إلى والديه.
طاقة البساطة
هوية النص الروائي هي حصيلة ما يتبعهُ المؤلفُ على المستوى الشكلي من ترتيب المادة المسرودة، والآلية التي يطبخُ من خلالها خطاب الرواية. على الرغم من احتشاد رواية "الطائر الملون" بشخصيات وأحداث صاخبة ولفحة الغرائبية في أجوائها غيرَ أنَّ ما يتأسسُ عليه أسلوبُ صاحب "أن تكون هناك" هو البساطة في التعبير والإنسيابية في حركة السرد. إذ يتكفلُ الراوي العليم بالإخبار عن لحظة إنفصال الصبي من والديه لافتاً إلى التاريخ الذي يكونُ علامة فارقة في حياة الشعوب حيثُ ينقسمُ العالمُ على أثر قيام الحرب العالمية الثانية في خريف 1939 ويحرمُ الصبي منذ ذاك التوقيت من التمتع بحياة هادئة على كنف أسرته. إذ يتمُ إرساله مثل آلاف الأطفال الآخرين إلى قرية بعيدة ويقطع حبله السري عن المدينة. وما يمضي كثيرُ من الوقت حتى يحلُ المتكلم بالضمير الأول مكان الراوي العليم.
ومن المعلوم أنَّ استبدال الضمير في الرواية ليس مجردَ مناورةٍ في الصياغة، بل يؤشرُ إلى التحول في مصير الصبي، وانخراطه في عالمٍ ملغمٍ باللامتوقع كلما تفادى الوقوع في المصائد يكتسبُ مزيداً من الذكاء.
تجارب مؤلمة
تبدأُ الحلقة الأولى من السلسلة السردية بما يرويه الصبي عن الأيام يمضيها في كوخ مارتا متوقعاً قدوم والديه وهما يبحثان عنه لكن تطولُ به الإقامة إلى أن يتعودَ معايشة امرأة كان يخافُ منها، ويحترز منها الاقتراب ومن ثمَّ يراها أقل خطورةً ويطيبُ له الإصغاء إلى حكاياتها. هكذا، تضيقُ الهوة بين الصبي وبيئته الجديدة وتلفت نظره مظاهر الحياة التي لا تنفصل عن الطبيعة، مراقباً أشكال الصراع في طوره البدائي، وقساوة الإنسان مع الكائنات الأخرى. حيثُ شاهد كيف التذَّ الأطفال بإحراق السنجاب. وأغرب ما وقع عليه نظره هو مشهد خروج الثعبان من جلده مكتسياً آخر جديداً ويسمعُ من مارتا عن الفوائد للجلد المسلوخ. لا ترتاح صاحبة الكوخ بما يقوله الصبي عن تخبط السنجاب مشتعلاً. كما توجست مارتا من أن يلتقط أي شخص ما يتساقط من شعرها.
ينتهي هذا الفصل من حياة الصبي باشتعال النار في كوخ مارتا وموت الأخيرة. وبينما كان يتابعُ الصبي اللهيب الذي أتى على مربيته تذكر كلامها عما ينتظره إذا أمسكَ به أهل القرية لذا ينهبُ الأرض هارباً إلى أن تبنتهُ أولجا. قبل ذلك قد عاش تجربة قاسية حينَ كان يوسعه صاحبُ المزرعة ضرباً ويتوافد الناس لرؤيته وهو يتعذب.
ينفتحُ السردُ على مزيدٍ من القصص مع ما يمرُ به الصبي من المغامرات، وما يعيشهُ من التجارب المؤلمة، ويصاحبُ لاك الصياد ويشهدُ على علاقته الجسدية مع لينا التي أثارت غضب نساء القرية بإغوائها للرجال.
احتفال العنف
لا تختلفُ آلية السرد في رواية "الطائر الملون" وتنظيم محتوياتها عن طريقة القص في الحكايات الشعبية والتراثية، وهذا ما يضاعفُ من التشويق على المستوى الأسلوبي إذ تنضوي سلسلة من القصص تحت عنوانٍ يؤشرُ إلى شخصية تنزلُ ضمن صنف الشخصيات النامية. كما أنَّ المشترك بين هذه المحتويات القصصية هو العنف بحيثُ يبدو أنه ثيمة أساسية في النص، وما يغلفُ الأجواء بالغرائبية أنَّ العنفَ يأتي من أشخاص لا توحي بساطة نمط حياتهم بالشراسة والتوحش. فالطحان الذي يقلع عيني المزارع لأنه قد غازل زوجته يبدو لك ودوداً في البداية، كذلك فإنَّ حفلة العنف التي تقيمها نساء القرية لتمزيق جسد لينا موغلة في العنف، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تزدادُ حدة الغرائبية مع تزاحم الجرذان على بطن النجار عندما يقع من العلية في جوف مشجب الأسلحة كما يتعمقُ الحس الغرائبي في قصة الجمجمة التي تخرجُ من القبر متدحرجة تحت حوافر أحصنة ما يؤدى الى انقلاب العربة ومقتل السائق الذي كانت تحوم حوله شبهة في نهاية أخيه ليرث أملاك الوالد.
وما كان سائق العربة سوى شقيق صاحب الجمجمة. ولا يفوت الراوي الإشارة إلى الضحايا المركونة على أطراف سكة الحديد فكانت غالبية هؤلاء من اليهود المنساقين إلى معسكرات الإعتقال. لا ينفصل العنفُ المقيم في العالم عن المرارات التي يتذوقها الصبي الذي يعنفه غاريوس بأقصى درجات سادية. ويتوسلُ الراوي لدرء العنف بشعائر كهنوتية، لكن اللعنة تلاحقه إلى أن ينضجَ إدراكه بقساوة الواقع الإنساني كما تحركُ تجربته مع إوكا رغبته الإيروسية ويتفاجأُ بحفلة ماجنة تبادلت فيها إوكا الحب مع الجدي أمام أهلها.
ينفتحُ الراوي أكثر غوايات الجسد وما يعنيه التجوس في مكامن اللذة في كوخ المرأة الفاتنة لابينا. لكن التحول الأكبر في حياة الصبي يبدأُ عندما ينتصر الجيش الأحمر ويكتسبُ المعرفة من خلال معاشرته للجنود ويكون غافريلا بمثابة معلمه لتثقيفه بمباديء الشيوعية وقادة الحزب.
ربما يفهم القاريء من بعض مقاطع الرواية بأنَّ المؤلف منحاز للشيوعية غير أنَّ الإحساس لا يدوم ما أن يتمَّ فك شفرات المرحلة التي يسلكُ فيها الصبي طريقه نحو حياة المدينة.
يذكرُ هذا العمل الروائي في خطوطه الرئيسة بثلاثية أغوتا كريستوف، فأبطال روايتها أيضاً هم الأطفال الذين يتشكل وعيهم بحيثيات الحياة على مرأى القاريء، لذا فإنَّ الزمن ينتظمُ على نسق متتابع ونادراً ما تومض لحظات من الماضي في ذهن الشخصيات. وهذا ملمحُ لافت في رواية "الطائر الملون" ويستمدُ منه النص الخفة على رغم احتشاده بالأحداث والشخصيات.
يتجاور في عالم هذه الرواية الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت إذ قدر له مصاحبة شخصيات مختلفة في الطبائع والاهتمامات. كما شاهد المظاهر التي تؤكد هشاشة الإنسان وقساوته إلى حد التوحش في آن واحد.
الحرب تدفعُ بأسوأ ما في الطبيعة البشرية إلى السطح، وتلوث البراءة ويسود في أجوائها منطق القوة. والبحثُ عن الفريسة هو ما يشغل الجميعَ في زمن الحرب. وطبعاً يقعُ الاختيارُ على الضعيفِ دائماً. ويكونُ التنكيل به علامة لتفاقم التوحش.
من هنا نفهمُ لماذا اختار الكاتب البولندي جيرزي كوزنسكي طفلاً لدور البطولة في عمله المعنون ب "الطائر الملون" وفوضه بمهمة السرد. إذ يتابعُ القاريءُ من موقع صبي ذي ست سنواتٍ مشاهدَ مشحونة بالعنف. وما يردُ على لسان الراوي لا يخالفُ مستوى إدراكهِ ومدار وعيه. فهو يشيرُ إلى الطرفين المُتحاربين بالكلمات والعبارات التي يسمعها من أهالي القرى والمناطق التي يمرُ بها حيثُ ينقلُ ما يدور من الشائعات عن المتحاربين وسلوكياتهم التي تكشف عن الخلفية الأيدولوجية، فالبيضُ وهم الألمان، يتركون ملاكي الأراضي على حالهم فيما الحمر المدعومون من الروس يقاتلون من أجل الإصلاح الزراعي.
في عالم هذه الرواية يتجاور الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت
وترافق التحولُ في موازين القوة حملات الانتقام من أنصار الطرف المعادي. وغالباً ما يكون هؤلاء الضحايا من المزارعين القرويين. لا يتوغلُ السردُ في مناخ الحرب إنما يرصدُ ما يبحثُ عنه الإنسان من المسارب لتصريف غريزة القتل والتوحش عندما يكون واقعاً بين تقاطع الصراع المتحدم. إذاً لا تنشأُ الصور الصادمة في هذا النص جراء ضراوة القتال في الجبهات وتراكم الجثث فحسب بل التصرفات العدائية التي تبدرُ من الشخص العادي تصدم المتلقي. وبهذا يتداعي العنفُ على مفاصل الرواية، دون أن تطغى قصص مكابدات وخسائر الحرب. ما يعني أنَّ النص يتنفسُ بعيداً عن التنميط وتدوير المُستهلك. والأهمُ من ذلك هو ما يضمرهُ خطاب الرواية من الأسئلة بشأن مفهوم الهوية وموجهات تكوينها. الأمر الذي تراه بوضوح في رفض الصبي للعودة إلى والديه.
طاقة البساطة
هوية النص الروائي هي حصيلة ما يتبعهُ المؤلفُ على المستوى الشكلي من ترتيب المادة المسرودة، والآلية التي يطبخُ من خلالها خطاب الرواية. على الرغم من احتشاد رواية "الطائر الملون" بشخصيات وأحداث صاخبة ولفحة الغرائبية في أجوائها غيرَ أنَّ ما يتأسسُ عليه أسلوبُ صاحب "أن تكون هناك" هو البساطة في التعبير والإنسيابية في حركة السرد. إذ يتكفلُ الراوي العليم بالإخبار عن لحظة إنفصال الصبي من والديه لافتاً إلى التاريخ الذي يكونُ علامة فارقة في حياة الشعوب حيثُ ينقسمُ العالمُ على أثر قيام الحرب العالمية الثانية في خريف 1939 ويحرمُ الصبي منذ ذاك التوقيت من التمتع بحياة هادئة على كنف أسرته. إذ يتمُ إرساله مثل آلاف الأطفال الآخرين إلى قرية بعيدة ويقطع حبله السري عن المدينة. وما يمضي كثيرُ من الوقت حتى يحلُ المتكلم بالضمير الأول مكان الراوي العليم.
ومن المعلوم أنَّ استبدال الضمير في الرواية ليس مجردَ مناورةٍ في الصياغة، بل يؤشرُ إلى التحول في مصير الصبي، وانخراطه في عالمٍ ملغمٍ باللامتوقع كلما تفادى الوقوع في المصائد يكتسبُ مزيداً من الذكاء.
تجارب مؤلمة
تبدأُ الحلقة الأولى من السلسلة السردية بما يرويه الصبي عن الأيام يمضيها في كوخ مارتا متوقعاً قدوم والديه وهما يبحثان عنه لكن تطولُ به الإقامة إلى أن يتعودَ معايشة امرأة كان يخافُ منها، ويحترز منها الاقتراب ومن ثمَّ يراها أقل خطورةً ويطيبُ له الإصغاء إلى حكاياتها. هكذا، تضيقُ الهوة بين الصبي وبيئته الجديدة وتلفت نظره مظاهر الحياة التي لا تنفصل عن الطبيعة، مراقباً أشكال الصراع في طوره البدائي، وقساوة الإنسان مع الكائنات الأخرى. حيثُ شاهد كيف التذَّ الأطفال بإحراق السنجاب. وأغرب ما وقع عليه نظره هو مشهد خروج الثعبان من جلده مكتسياً آخر جديداً ويسمعُ من مارتا عن الفوائد للجلد المسلوخ. لا ترتاح صاحبة الكوخ بما يقوله الصبي عن تخبط السنجاب مشتعلاً. كما توجست مارتا من أن يلتقط أي شخص ما يتساقط من شعرها.
ينتهي هذا الفصل من حياة الصبي باشتعال النار في كوخ مارتا وموت الأخيرة. وبينما كان يتابعُ الصبي اللهيب الذي أتى على مربيته تذكر كلامها عما ينتظره إذا أمسكَ به أهل القرية لذا ينهبُ الأرض هارباً إلى أن تبنتهُ أولجا. قبل ذلك قد عاش تجربة قاسية حينَ كان يوسعه صاحبُ المزرعة ضرباً ويتوافد الناس لرؤيته وهو يتعذب.
ينفتحُ السردُ على مزيدٍ من القصص مع ما يمرُ به الصبي من المغامرات، وما يعيشهُ من التجارب المؤلمة، ويصاحبُ لاك الصياد ويشهدُ على علاقته الجسدية مع لينا التي أثارت غضب نساء القرية بإغوائها للرجال.
احتفال العنف
لا تختلفُ آلية السرد في رواية "الطائر الملون" وتنظيم محتوياتها عن طريقة القص في الحكايات الشعبية والتراثية، وهذا ما يضاعفُ من التشويق على المستوى الأسلوبي إذ تنضوي سلسلة من القصص تحت عنوانٍ يؤشرُ إلى شخصية تنزلُ ضمن صنف الشخصيات النامية. كما أنَّ المشترك بين هذه المحتويات القصصية هو العنف بحيثُ يبدو أنه ثيمة أساسية في النص، وما يغلفُ الأجواء بالغرائبية أنَّ العنفَ يأتي من أشخاص لا توحي بساطة نمط حياتهم بالشراسة والتوحش. فالطحان الذي يقلع عيني المزارع لأنه قد غازل زوجته يبدو لك ودوداً في البداية، كذلك فإنَّ حفلة العنف التي تقيمها نساء القرية لتمزيق جسد لينا موغلة في العنف، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تزدادُ حدة الغرائبية مع تزاحم الجرذان على بطن النجار عندما يقع من العلية في جوف مشجب الأسلحة كما يتعمقُ الحس الغرائبي في قصة الجمجمة التي تخرجُ من القبر متدحرجة تحت حوافر أحصنة ما يؤدى الى انقلاب العربة ومقتل السائق الذي كانت تحوم حوله شبهة في نهاية أخيه ليرث أملاك الوالد.
وما كان سائق العربة سوى شقيق صاحب الجمجمة. ولا يفوت الراوي الإشارة إلى الضحايا المركونة على أطراف سكة الحديد فكانت غالبية هؤلاء من اليهود المنساقين إلى معسكرات الإعتقال. لا ينفصل العنفُ المقيم في العالم عن المرارات التي يتذوقها الصبي الذي يعنفه غاريوس بأقصى درجات سادية. ويتوسلُ الراوي لدرء العنف بشعائر كهنوتية، لكن اللعنة تلاحقه إلى أن ينضجَ إدراكه بقساوة الواقع الإنساني كما تحركُ تجربته مع إوكا رغبته الإيروسية ويتفاجأُ بحفلة ماجنة تبادلت فيها إوكا الحب مع الجدي أمام أهلها.
ينفتحُ الراوي أكثر غوايات الجسد وما يعنيه التجوس في مكامن اللذة في كوخ المرأة الفاتنة لابينا. لكن التحول الأكبر في حياة الصبي يبدأُ عندما ينتصر الجيش الأحمر ويكتسبُ المعرفة من خلال معاشرته للجنود ويكون غافريلا بمثابة معلمه لتثقيفه بمباديء الشيوعية وقادة الحزب.
ربما يفهم القاريء من بعض مقاطع الرواية بأنَّ المؤلف منحاز للشيوعية غير أنَّ الإحساس لا يدوم ما أن يتمَّ فك شفرات المرحلة التي يسلكُ فيها الصبي طريقه نحو حياة المدينة.
يذكرُ هذا العمل الروائي في خطوطه الرئيسة بثلاثية أغوتا كريستوف، فأبطال روايتها أيضاً هم الأطفال الذين يتشكل وعيهم بحيثيات الحياة على مرأى القاريء، لذا فإنَّ الزمن ينتظمُ على نسق متتابع ونادراً ما تومض لحظات من الماضي في ذهن الشخصيات. وهذا ملمحُ لافت في رواية "الطائر الملون" ويستمدُ منه النص الخفة على رغم احتشاده بالأحداث والشخصيات.
يتجاور في عالم هذه الرواية الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت إذ قدر له مصاحبة شخصيات مختلفة في الطبائع والاهتمامات. كما شاهد المظاهر التي تؤكد هشاشة الإنسان وقساوته إلى حد التوحش في آن واحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.