موعد أذان الفجر اليوم في القاهرة وجميع المحافظات للصائمين يوم عرفة    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 5 يونيو 2025    المصرية للاتصالات WE تعلن الإطلاق الرسمي لخدمات الجيل الخامس في مصر    إعلام فلسطيني: الاحتلال يقصف بكثافة خيام نازحين في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة    جماهير الأهلي تطالب بمحاسبة هاني شكري.. وتحرك قانوني عاجل    «وكمان تيشيرت أحمر».. مدرب الزمالك السابق يتحسر على انتقال زيزو إلى الأهلي    «صحة مطروح» تستعد لعيد الأضحى    أكثر من مليون ونصف حاج.. بدء تصعيد الحجاج إلى مشعر عرفات    مصرع شخص وإصابة آخر في حادث سير ببني سويف    لقطات جديدة من حفل زفاف محمد شاهين والمنتجة رشا الظنحاني، ومفاجأة من العروس (فيديو)    تهنئة عيد الأضحى 2025.. أجمل عبارات التهنئة لأحبائك وأصدقائك (ارسلها الآن)    الإفتاء تحسم الجدل.. هل تسقط صلاة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟    ما هى أوقات استجابة الدعاء في يوم عرفه 2025 وأفضل الأعمال المستحبة؟.. الإفتاء توضح    غرفة عمليات ذكية لضمان أجواء آمنة.. صحة مطروح تُجهز الساحل الشمالي ل صيف 2025    أوكرانيا تعتمد على زيادة إنتاج الأسلحة في الخارج    «الطقس× العيد».. حار إلى شديد الحرارة وتحذير من الشبورة والرياح واضطراب الملاحة (نصائح الأرصاد)    «الأرصاد» تكشف عن حالة الطقس اليوم الخميس.. والعظمى بالقاهرة 35    ب3 أرقام.. كريستيانو رونالدو يواصل كتابة التاريخ مع البرتغال    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    بحضور نجوم الفن.. حماقي وبوسي يحييان حفل زفاف محمد شاهين ورشا الظنحاني    رسميًا.. الهلال السعودي يعلن تعاقده مع سيموني إنزاجي خلفًا لجيسوس    البيت الأبيض يرد على انتقادات ماسك لقانون الموازنة: العلاقات متناغمة وترامب ملتزم بدعم القانون    أمين مجمع البحوث الإسلامية الأسبق يكرم حفظة القرآن الكريم بمدينة طهطا    9 ذو الحجة.. ماذا يفعل الحجيج في يوم عرفة؟    سعر السمك والجمبري والكابوريا بالأسواق اليوم الخميس 5 يونيو 2025    نجاح أول جراحة لاستبدال الشريان الأورطي بمستشفى المقطم للتأمين الصحي    نصائح مهمة يجب اتباعها على السحور لصيام يوم عرفة بدون مشاكل    صحة الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى خلال إجازة عيد الأضحى    التعليم العالى تعتزم إنشاء أكبر مجمع صناعي للأجهزة التعويضية    القائد العام للقوات المسلحة ووزير خارجية بنين يبحثان التعاون فى المجالات الدفاعية    قبل صدام بيراميدز.. كم مرة توج الزمالك ببطولة كأس مصر بالألفية الجديدة؟    نجاة السيناريست وليد يوسف وأفراد أسرته من حادث سير مروع    أغانى الحج.. رحلة من الشوق والإيمان إلى البيت الحرام    أيمن بهجت قمر يحتفل بتخرج ابنه: أخيرا بهجت عملها (صور)    "عاد إلى داره".. الرجاء المغربي يعلن تعاقده مع بدر بانون    مطار العاصمة الإدارية يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلوفاكيا على متنها 152 راكبا (صور)    الرسوم الجمركية «مقامرة» ترامب لانتشال الصناعة الأمريكية من التدهور    محافظ الدقهلية يتابع عمليات نظافة الحدائق والميادين استعدادا للعيد    الوزير: "لدينا مصنع بيفتح كل ساعتين صحيح وعندنا قائمة بالأسماء"    وزيرة البيئة تنفي بيع المحميات الطبيعية: نتجه للاستثمار فيها    حدث ليلًا| استرداد قطعًا أثرية من أمريكا وتفعيل شبكات الجيل الخامس    دعاء من القلب بصوت الدكتور علي جمعة على قناة الناس.. فيديو    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عزون شرق قلقيلية بالضفة الغربية    الأمم المتحدة تدعو إلى التوصل لمعاهدة عالمية جديدة لإنهاء التلوث بالمواد البلاستيكية    «مدبولي» يوجه الحكومة بالجاهزية لتلافي أي أزمات خلال عيد الأضحى    نجل سميحة أيوب يكشف موعد ومكان عزاء والدته الراحلة    "عصام" يطلب تطليق زوجته: "فضحتني ومحبوسة في قضية مُخلة بالشرف"    التأمين الصحى بالقليوبية: رفع درجة الاستعداد القصوى بمستشفيات استعدادًا لعيد الأضحى    مسابقة لتعيين 21 ألف معلم مساعد    دبلوماسية روسية: أمريكا أكبر مدين للأمم المتحدة بأكثر من 3 مليارات دولار    مفتي الجمهورية يهنئ رئيس الوزراء وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى المبارك    «الأوقاف» تعلن موضوع خطبة عيد الأضحى    حفروا على مسافة 300 متر من طريق الكباش.. و«اللجنة»: سيقود لكشف أثري كبير    مصادر مطلعة: حماس توافق على مقترح «ويتكوف» مع 4 تعديلات    مصر تطلع المبعوث الصيني للشرق الأوسط على جهود وقف النار في غزة    نور الشربيني تتأهل لربع نهائي بطولة بريطانيا المفتوحة للاسكواش وهزيمة 6 مصريين    فوائد اليانسون يخفف أعراض سن اليأس ويقوي المناعة    وفد الأقباط الإنجيليين يقدم التهنئة لمحافظ أسوان بمناسبة عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الطائر الملون" التوحش والهشاشة يسيطران على عالم الرواية
نشر في صوت البلد يوم 02 - 11 - 2020

الحرب تدفعُ بأسوأ ما في الطبيعة البشرية إلى السطح، وتلوث البراءة ويسود في أجوائها منطق القوة. والبحثُ عن الفريسة هو ما يشغل الجميعَ في زمن الحرب. وطبعاً يقعُ الاختيارُ على الضعيفِ دائماً. ويكونُ التنكيل به علامة لتفاقم التوحش.
من هنا نفهمُ لماذا اختار الكاتب البولندي جيرزي كوزنسكي طفلاً لدور البطولة في عمله المعنون ب "الطائر الملون" وفوضه بمهمة السرد. إذ يتابعُ القاريءُ من موقع صبي ذي ست سنواتٍ مشاهدَ مشحونة بالعنف. وما يردُ على لسان الراوي لا يخالفُ مستوى إدراكهِ ومدار وعيه. فهو يشيرُ إلى الطرفين المُتحاربين بالكلمات والعبارات التي يسمعها من أهالي القرى والمناطق التي يمرُ بها حيثُ ينقلُ ما يدور من الشائعات عن المتحاربين وسلوكياتهم التي تكشف عن الخلفية الأيدولوجية، فالبيضُ وهم الألمان، يتركون ملاكي الأراضي على حالهم فيما الحمر المدعومون من الروس يقاتلون من أجل الإصلاح الزراعي.
في عالم هذه الرواية يتجاور الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت
وترافق التحولُ في موازين القوة حملات الانتقام من أنصار الطرف المعادي. وغالباً ما يكون هؤلاء الضحايا من المزارعين القرويين. لا يتوغلُ السردُ في مناخ الحرب إنما يرصدُ ما يبحثُ عنه الإنسان من المسارب لتصريف غريزة القتل والتوحش عندما يكون واقعاً بين تقاطع الصراع المتحدم. إذاً لا تنشأُ الصور الصادمة في هذا النص جراء ضراوة القتال في الجبهات وتراكم الجثث فحسب بل التصرفات العدائية التي تبدرُ من الشخص العادي تصدم المتلقي. وبهذا يتداعي العنفُ على مفاصل الرواية، دون أن تطغى قصص مكابدات وخسائر الحرب. ما يعني أنَّ النص يتنفسُ بعيداً عن التنميط وتدوير المُستهلك. والأهمُ من ذلك هو ما يضمرهُ خطاب الرواية من الأسئلة بشأن مفهوم الهوية وموجهات تكوينها. الأمر الذي تراه بوضوح في رفض الصبي للعودة إلى والديه.
طاقة البساطة
هوية النص الروائي هي حصيلة ما يتبعهُ المؤلفُ على المستوى الشكلي من ترتيب المادة المسرودة، والآلية التي يطبخُ من خلالها خطاب الرواية. على الرغم من احتشاد رواية "الطائر الملون" بشخصيات وأحداث صاخبة ولفحة الغرائبية في أجوائها غيرَ أنَّ ما يتأسسُ عليه أسلوبُ صاحب "أن تكون هناك" هو البساطة في التعبير والإنسيابية في حركة السرد. إذ يتكفلُ الراوي العليم بالإخبار عن لحظة إنفصال الصبي من والديه لافتاً إلى التاريخ الذي يكونُ علامة فارقة في حياة الشعوب حيثُ ينقسمُ العالمُ على أثر قيام الحرب العالمية الثانية في خريف 1939 ويحرمُ الصبي منذ ذاك التوقيت من التمتع بحياة هادئة على كنف أسرته. إذ يتمُ إرساله مثل آلاف الأطفال الآخرين إلى قرية بعيدة ويقطع حبله السري عن المدينة. وما يمضي كثيرُ من الوقت حتى يحلُ المتكلم بالضمير الأول مكان الراوي العليم.
ومن المعلوم أنَّ استبدال الضمير في الرواية ليس مجردَ مناورةٍ في الصياغة، بل يؤشرُ إلى التحول في مصير الصبي، وانخراطه في عالمٍ ملغمٍ باللامتوقع كلما تفادى الوقوع في المصائد يكتسبُ مزيداً من الذكاء.
تجارب مؤلمة
تبدأُ الحلقة الأولى من السلسلة السردية بما يرويه الصبي عن الأيام يمضيها في كوخ مارتا متوقعاً قدوم والديه وهما يبحثان عنه لكن تطولُ به الإقامة إلى أن يتعودَ معايشة امرأة كان يخافُ منها، ويحترز منها الاقتراب ومن ثمَّ يراها أقل خطورةً ويطيبُ له الإصغاء إلى حكاياتها. هكذا، تضيقُ الهوة بين الصبي وبيئته الجديدة وتلفت نظره مظاهر الحياة التي لا تنفصل عن الطبيعة، مراقباً أشكال الصراع في طوره البدائي، وقساوة الإنسان مع الكائنات الأخرى. حيثُ شاهد كيف التذَّ الأطفال بإحراق السنجاب. وأغرب ما وقع عليه نظره هو مشهد خروج الثعبان من جلده مكتسياً آخر جديداً ويسمعُ من مارتا عن الفوائد للجلد المسلوخ. لا ترتاح صاحبة الكوخ بما يقوله الصبي عن تخبط السنجاب مشتعلاً. كما توجست مارتا من أن يلتقط أي شخص ما يتساقط من شعرها.
ينتهي هذا الفصل من حياة الصبي باشتعال النار في كوخ مارتا وموت الأخيرة. وبينما كان يتابعُ الصبي اللهيب الذي أتى على مربيته تذكر كلامها عما ينتظره إذا أمسكَ به أهل القرية لذا ينهبُ الأرض هارباً إلى أن تبنتهُ أولجا. قبل ذلك قد عاش تجربة قاسية حينَ كان يوسعه صاحبُ المزرعة ضرباً ويتوافد الناس لرؤيته وهو يتعذب.
ينفتحُ السردُ على مزيدٍ من القصص مع ما يمرُ به الصبي من المغامرات، وما يعيشهُ من التجارب المؤلمة، ويصاحبُ لاك الصياد ويشهدُ على علاقته الجسدية مع لينا التي أثارت غضب نساء القرية بإغوائها للرجال.
احتفال العنف
لا تختلفُ آلية السرد في رواية "الطائر الملون" وتنظيم محتوياتها عن طريقة القص في الحكايات الشعبية والتراثية، وهذا ما يضاعفُ من التشويق على المستوى الأسلوبي إذ تنضوي سلسلة من القصص تحت عنوانٍ يؤشرُ إلى شخصية تنزلُ ضمن صنف الشخصيات النامية. كما أنَّ المشترك بين هذه المحتويات القصصية هو العنف بحيثُ يبدو أنه ثيمة أساسية في النص، وما يغلفُ الأجواء بالغرائبية أنَّ العنفَ يأتي من أشخاص لا توحي بساطة نمط حياتهم بالشراسة والتوحش. فالطحان الذي يقلع عيني المزارع لأنه قد غازل زوجته يبدو لك ودوداً في البداية، كذلك فإنَّ حفلة العنف التي تقيمها نساء القرية لتمزيق جسد لينا موغلة في العنف، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تزدادُ حدة الغرائبية مع تزاحم الجرذان على بطن النجار عندما يقع من العلية في جوف مشجب الأسلحة كما يتعمقُ الحس الغرائبي في قصة الجمجمة التي تخرجُ من القبر متدحرجة تحت حوافر أحصنة ما يؤدى الى انقلاب العربة ومقتل السائق الذي كانت تحوم حوله شبهة في نهاية أخيه ليرث أملاك الوالد.
وما كان سائق العربة سوى شقيق صاحب الجمجمة. ولا يفوت الراوي الإشارة إلى الضحايا المركونة على أطراف سكة الحديد فكانت غالبية هؤلاء من اليهود المنساقين إلى معسكرات الإعتقال. لا ينفصل العنفُ المقيم في العالم عن المرارات التي يتذوقها الصبي الذي يعنفه غاريوس بأقصى درجات سادية. ويتوسلُ الراوي لدرء العنف بشعائر كهنوتية، لكن اللعنة تلاحقه إلى أن ينضجَ إدراكه بقساوة الواقع الإنساني كما تحركُ تجربته مع إوكا رغبته الإيروسية ويتفاجأُ بحفلة ماجنة تبادلت فيها إوكا الحب مع الجدي أمام أهلها.
ينفتحُ الراوي أكثر غوايات الجسد وما يعنيه التجوس في مكامن اللذة في كوخ المرأة الفاتنة لابينا. لكن التحول الأكبر في حياة الصبي يبدأُ عندما ينتصر الجيش الأحمر ويكتسبُ المعرفة من خلال معاشرته للجنود ويكون غافريلا بمثابة معلمه لتثقيفه بمباديء الشيوعية وقادة الحزب.
ربما يفهم القاريء من بعض مقاطع الرواية بأنَّ المؤلف منحاز للشيوعية غير أنَّ الإحساس لا يدوم ما أن يتمَّ فك شفرات المرحلة التي يسلكُ فيها الصبي طريقه نحو حياة المدينة.
يذكرُ هذا العمل الروائي في خطوطه الرئيسة بثلاثية أغوتا كريستوف، فأبطال روايتها أيضاً هم الأطفال الذين يتشكل وعيهم بحيثيات الحياة على مرأى القاريء، لذا فإنَّ الزمن ينتظمُ على نسق متتابع ونادراً ما تومض لحظات من الماضي في ذهن الشخصيات. وهذا ملمحُ لافت في رواية "الطائر الملون" ويستمدُ منه النص الخفة على رغم احتشاده بالأحداث والشخصيات.
يتجاور في عالم هذه الرواية الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت إذ قدر له مصاحبة شخصيات مختلفة في الطبائع والاهتمامات. كما شاهد المظاهر التي تؤكد هشاشة الإنسان وقساوته إلى حد التوحش في آن واحد.
الحرب تدفعُ بأسوأ ما في الطبيعة البشرية إلى السطح، وتلوث البراءة ويسود في أجوائها منطق القوة. والبحثُ عن الفريسة هو ما يشغل الجميعَ في زمن الحرب. وطبعاً يقعُ الاختيارُ على الضعيفِ دائماً. ويكونُ التنكيل به علامة لتفاقم التوحش.
من هنا نفهمُ لماذا اختار الكاتب البولندي جيرزي كوزنسكي طفلاً لدور البطولة في عمله المعنون ب "الطائر الملون" وفوضه بمهمة السرد. إذ يتابعُ القاريءُ من موقع صبي ذي ست سنواتٍ مشاهدَ مشحونة بالعنف. وما يردُ على لسان الراوي لا يخالفُ مستوى إدراكهِ ومدار وعيه. فهو يشيرُ إلى الطرفين المُتحاربين بالكلمات والعبارات التي يسمعها من أهالي القرى والمناطق التي يمرُ بها حيثُ ينقلُ ما يدور من الشائعات عن المتحاربين وسلوكياتهم التي تكشف عن الخلفية الأيدولوجية، فالبيضُ وهم الألمان، يتركون ملاكي الأراضي على حالهم فيما الحمر المدعومون من الروس يقاتلون من أجل الإصلاح الزراعي.
في عالم هذه الرواية يتجاور الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت
وترافق التحولُ في موازين القوة حملات الانتقام من أنصار الطرف المعادي. وغالباً ما يكون هؤلاء الضحايا من المزارعين القرويين. لا يتوغلُ السردُ في مناخ الحرب إنما يرصدُ ما يبحثُ عنه الإنسان من المسارب لتصريف غريزة القتل والتوحش عندما يكون واقعاً بين تقاطع الصراع المتحدم. إذاً لا تنشأُ الصور الصادمة في هذا النص جراء ضراوة القتال في الجبهات وتراكم الجثث فحسب بل التصرفات العدائية التي تبدرُ من الشخص العادي تصدم المتلقي. وبهذا يتداعي العنفُ على مفاصل الرواية، دون أن تطغى قصص مكابدات وخسائر الحرب. ما يعني أنَّ النص يتنفسُ بعيداً عن التنميط وتدوير المُستهلك. والأهمُ من ذلك هو ما يضمرهُ خطاب الرواية من الأسئلة بشأن مفهوم الهوية وموجهات تكوينها. الأمر الذي تراه بوضوح في رفض الصبي للعودة إلى والديه.
طاقة البساطة
هوية النص الروائي هي حصيلة ما يتبعهُ المؤلفُ على المستوى الشكلي من ترتيب المادة المسرودة، والآلية التي يطبخُ من خلالها خطاب الرواية. على الرغم من احتشاد رواية "الطائر الملون" بشخصيات وأحداث صاخبة ولفحة الغرائبية في أجوائها غيرَ أنَّ ما يتأسسُ عليه أسلوبُ صاحب "أن تكون هناك" هو البساطة في التعبير والإنسيابية في حركة السرد. إذ يتكفلُ الراوي العليم بالإخبار عن لحظة إنفصال الصبي من والديه لافتاً إلى التاريخ الذي يكونُ علامة فارقة في حياة الشعوب حيثُ ينقسمُ العالمُ على أثر قيام الحرب العالمية الثانية في خريف 1939 ويحرمُ الصبي منذ ذاك التوقيت من التمتع بحياة هادئة على كنف أسرته. إذ يتمُ إرساله مثل آلاف الأطفال الآخرين إلى قرية بعيدة ويقطع حبله السري عن المدينة. وما يمضي كثيرُ من الوقت حتى يحلُ المتكلم بالضمير الأول مكان الراوي العليم.
ومن المعلوم أنَّ استبدال الضمير في الرواية ليس مجردَ مناورةٍ في الصياغة، بل يؤشرُ إلى التحول في مصير الصبي، وانخراطه في عالمٍ ملغمٍ باللامتوقع كلما تفادى الوقوع في المصائد يكتسبُ مزيداً من الذكاء.
تجارب مؤلمة
تبدأُ الحلقة الأولى من السلسلة السردية بما يرويه الصبي عن الأيام يمضيها في كوخ مارتا متوقعاً قدوم والديه وهما يبحثان عنه لكن تطولُ به الإقامة إلى أن يتعودَ معايشة امرأة كان يخافُ منها، ويحترز منها الاقتراب ومن ثمَّ يراها أقل خطورةً ويطيبُ له الإصغاء إلى حكاياتها. هكذا، تضيقُ الهوة بين الصبي وبيئته الجديدة وتلفت نظره مظاهر الحياة التي لا تنفصل عن الطبيعة، مراقباً أشكال الصراع في طوره البدائي، وقساوة الإنسان مع الكائنات الأخرى. حيثُ شاهد كيف التذَّ الأطفال بإحراق السنجاب. وأغرب ما وقع عليه نظره هو مشهد خروج الثعبان من جلده مكتسياً آخر جديداً ويسمعُ من مارتا عن الفوائد للجلد المسلوخ. لا ترتاح صاحبة الكوخ بما يقوله الصبي عن تخبط السنجاب مشتعلاً. كما توجست مارتا من أن يلتقط أي شخص ما يتساقط من شعرها.
ينتهي هذا الفصل من حياة الصبي باشتعال النار في كوخ مارتا وموت الأخيرة. وبينما كان يتابعُ الصبي اللهيب الذي أتى على مربيته تذكر كلامها عما ينتظره إذا أمسكَ به أهل القرية لذا ينهبُ الأرض هارباً إلى أن تبنتهُ أولجا. قبل ذلك قد عاش تجربة قاسية حينَ كان يوسعه صاحبُ المزرعة ضرباً ويتوافد الناس لرؤيته وهو يتعذب.
ينفتحُ السردُ على مزيدٍ من القصص مع ما يمرُ به الصبي من المغامرات، وما يعيشهُ من التجارب المؤلمة، ويصاحبُ لاك الصياد ويشهدُ على علاقته الجسدية مع لينا التي أثارت غضب نساء القرية بإغوائها للرجال.
احتفال العنف
لا تختلفُ آلية السرد في رواية "الطائر الملون" وتنظيم محتوياتها عن طريقة القص في الحكايات الشعبية والتراثية، وهذا ما يضاعفُ من التشويق على المستوى الأسلوبي إذ تنضوي سلسلة من القصص تحت عنوانٍ يؤشرُ إلى شخصية تنزلُ ضمن صنف الشخصيات النامية. كما أنَّ المشترك بين هذه المحتويات القصصية هو العنف بحيثُ يبدو أنه ثيمة أساسية في النص، وما يغلفُ الأجواء بالغرائبية أنَّ العنفَ يأتي من أشخاص لا توحي بساطة نمط حياتهم بالشراسة والتوحش. فالطحان الذي يقلع عيني المزارع لأنه قد غازل زوجته يبدو لك ودوداً في البداية، كذلك فإنَّ حفلة العنف التي تقيمها نساء القرية لتمزيق جسد لينا موغلة في العنف، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل تزدادُ حدة الغرائبية مع تزاحم الجرذان على بطن النجار عندما يقع من العلية في جوف مشجب الأسلحة كما يتعمقُ الحس الغرائبي في قصة الجمجمة التي تخرجُ من القبر متدحرجة تحت حوافر أحصنة ما يؤدى الى انقلاب العربة ومقتل السائق الذي كانت تحوم حوله شبهة في نهاية أخيه ليرث أملاك الوالد.
وما كان سائق العربة سوى شقيق صاحب الجمجمة. ولا يفوت الراوي الإشارة إلى الضحايا المركونة على أطراف سكة الحديد فكانت غالبية هؤلاء من اليهود المنساقين إلى معسكرات الإعتقال. لا ينفصل العنفُ المقيم في العالم عن المرارات التي يتذوقها الصبي الذي يعنفه غاريوس بأقصى درجات سادية. ويتوسلُ الراوي لدرء العنف بشعائر كهنوتية، لكن اللعنة تلاحقه إلى أن ينضجَ إدراكه بقساوة الواقع الإنساني كما تحركُ تجربته مع إوكا رغبته الإيروسية ويتفاجأُ بحفلة ماجنة تبادلت فيها إوكا الحب مع الجدي أمام أهلها.
ينفتحُ الراوي أكثر غوايات الجسد وما يعنيه التجوس في مكامن اللذة في كوخ المرأة الفاتنة لابينا. لكن التحول الأكبر في حياة الصبي يبدأُ عندما ينتصر الجيش الأحمر ويكتسبُ المعرفة من خلال معاشرته للجنود ويكون غافريلا بمثابة معلمه لتثقيفه بمباديء الشيوعية وقادة الحزب.
ربما يفهم القاريء من بعض مقاطع الرواية بأنَّ المؤلف منحاز للشيوعية غير أنَّ الإحساس لا يدوم ما أن يتمَّ فك شفرات المرحلة التي يسلكُ فيها الصبي طريقه نحو حياة المدينة.
يذكرُ هذا العمل الروائي في خطوطه الرئيسة بثلاثية أغوتا كريستوف، فأبطال روايتها أيضاً هم الأطفال الذين يتشكل وعيهم بحيثيات الحياة على مرأى القاريء، لذا فإنَّ الزمن ينتظمُ على نسق متتابع ونادراً ما تومض لحظات من الماضي في ذهن الشخصيات. وهذا ملمحُ لافت في رواية "الطائر الملون" ويستمدُ منه النص الخفة على رغم احتشاده بالأحداث والشخصيات.
يتجاور في عالم هذه الرواية الحب والخوف والعبث والموت، وما يشدك إلى أجوائها الضاجة هو التأرجح الذي يعيشهُ الطفل بين الحياة والموت إذ قدر له مصاحبة شخصيات مختلفة في الطبائع والاهتمامات. كما شاهد المظاهر التي تؤكد هشاشة الإنسان وقساوته إلى حد التوحش في آن واحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.