تفاصيل ضبط المتهمين بفيديو تعاطي المواد المخدرة في القاهرة    «التنظيم والإدارة» يتيح استعادة كود التقديم في مسابقاته عبر بوابة الوظائف الحكومية    «حلوان» و«حلوان الأهلية» تستعرضان برامجهما المتميزة في «نيجيريا»    مجلس حكماء المسلمين يهنِّئ الأمة العربية والإسلامية بعيد الأضحى    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بيوم عرفة وعيد الأضحى المبارك    في شكوى مها الصغير.. الأعلى للإعلام يستدعي ممثلين المواقع والوسائل الإعلامية المشكو في حقها    وزيرة البيئة: نسعى لاتفاق دولى ملزم للحد من التلوث البلاستيكى    برلماني: المنصة الإلكترونية الموحدة ستسرع إصدار تراخيص الاستثمار وتقضي على البيروقراطية    س وج.. كل ما تريد معرفته عن خدمات الجيل الخامس "5G"    نائب وزير المالية ورئيس مصلحة الجمارك فى جولة ميدانية بمطار القاهرة: حريصون على تسهيل الإجراءات الجمركية للعائدين من الخارج    واشنطن قد تعارض تصنيف روسيا "أخطر تهديد" للأطلسي في قمة لاهاي وسط خلافات حول الأولويات    ترامب يربك مونديال الأندية.. 10 لاعبين على قوائم المنع من السفر اعرف القائمة    «العمل الدولية» تعتمد فلسطين عضو مراقب    واشنطن تعيد تموضع قواتها عالمياً.. أولويات جديدة في حماية الحدود والردع الآسيوي    رئيس إيران يهنئ الرئيس السيسى بعيد الأضحى ويؤكدان أهمية تجنب التصعيد بالمنطقة    إنتر ميلان يحدد خليفة سيموني إنزاجي لتدريب الفريق    شاهد ملعب مباراة الأهلي وباتشوكا الودية استعدادا لكأس العالم للأندية    تشيفو يقترب من قيادة إنتر ميلان بعد تعثر مفاوضات فابريغاس    مصدر ليلا كورة: بيراميدز يسجل عقود لاعبيه ال3 بعد تمديدها    «بعتنا ناخده».. رسالة نارية من أحمد بلال ل هاني شكري بعد «سب» جمهور الأهلي    شوبير يكشف موقف أحمد عبد القادر من الاستمرار في الأهلي بالموسم المقبل    وزير العمل يلقي كلمة المجموعة العربية في الملتقى الدولي للتضامن مع شعب وعمال فلسطين    "المسرح النسوي بين النظرية والتطبيق" في العدد الجديد من "مسرحنا"    المسرح النسوي بين النظرية والتطبيق في العدد الجديد لجريدة مسرحنا    تهنئة أول أيام عيد الأضحى برسائل دينية مؤثرة    بعروض فنية وسينمائية وأنشطة للأطفال.. قصور الثقافة تحتفل بعيد الأضحى بمحافظات وسط الصعيد    وزير الخارجية الألمانى: نرفض سياسة الاستيطان التى يجرى تنفيذها فى الضفة الغربية    يوم عرفة.. أفضل أوقات الدعاء وأعظم ما يُقال من الذكر    يوم الرحمة.. كيف تستغل يوم عرفة أفضل استغلال؟    تنبيه بخصوص تنظيم صفوف الصلاة في مصلى العيد    رئيس هيئة التأمين الصحي يتفقد مستشفى 6 أكتوبر بالتزامن مع عيد الأضحى    تقديم الخدمة الطبية ل1864 مواطنًا ضمن قافلة علاجية بعزبة عبد الرحيم بكفر البطيخ    توريد 173ألف و821 طن قمح إلى الشون والصوامع بسوهاج    طارق يحيى: حظوظ الزمالك متساوية مع بيراميدز للفوز بكأس مصر    أحمد سعد يحيي أولى حفلاته في بورتو مارينا ضمن احتفالات عيد الأضحى 2025    محمد منير يستعد لطرح أول أغانيه مع روتانا    3 أبراج تهرب من الحب.. هل أنت منهم؟    «يمامة» يكشف حقيقة توافق «الوفد» مع قوى سياسية لخوض انتخابات الشيوخ 2025    استعدادا ل عيد الأضحى.. رفع درجة الاستعداد داخل مستشفيات دمياط    محافظ بني سويف يتلقى التهاني بعيد الأضحى من قيادات الكنائس والطوائف المسيحية    كيف تؤدى صلاة العيد؟.. عدد ركعاتها وتكبيراتها وخطواتها بالتفصيل    الرئيس البرازيلي: الاعتراف بدولة فلسطينية واجب أخلاقي    زلزال بقوة 4.6 درجة على مقياس ريختر يضرب بحر إيجة    الصحة: فحص 17.8 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف عن الأمراض المزمنة    لهذه الأسباب.. طبيب بيراميدز يحذر من موعد نهائي كأس مصر    استشاري تغذية مُحذرًا من شوي اللحمة: يعرّض للإصابة بالأورام - فيديو    كل ما تريد معرفته عن جبل عرفات ويوم عرفة    مفاجأة.. ماسك طلب تمديد مهمته في البيت الأبيض وترامب رفض    تعليم القاهرة تعلن أماكن مقار لجان قبول اعتذارات الثانوية العامة    وزير التعليم العالي: إعداد قيادات شبابية قادرة على مواجهة التحديات    قبل عيد الأضحى.. حملات تموينية بأسوان تسفر عن ضبط 156 مخالفة    «24 ألف ماكينة ATM».. خطة البنوك لتوفير النقد للمواطنين خلال إجازة العيد    بث مباشر من عرفات.. مئات الآلآف يقفون على المشعر الحرام    أسعار البقوليات اليوم الخميس 5-6 -2025 في أسواق ومحال محافظة الدقهلية    مصرع عامل في حادث انقلاب دراجة نارية بالمنيا    تكثيف الحملات التموينية المفاجئة على الأسواق والمخابز بأسوان    مسجد نمرة يستعد ل"خطبة عرفة"    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهدات وهموم حياتية في رسائل تشيخوف وغوركي
نشر في صوت البلد يوم 01 - 08 - 2020

قد يتوهمُ المُتابعُ للأعمال الإبداعية بأنَّ أصحابها لا يتذوقون غير طعم النجاح والشهرة، وما ينشرونهُ من المؤلفات - التي أصبح صيتُ عناوين بعضها أكثر ذيوعاً من أسمائهم - ليست سوى تعبيرٍ عن الرغبة المُعمدة بالموهبة، وبالتالي فإنَّ بناء مدماك العمل لا يحتمُ الشعور بالقلق، كما إنَّ الإنصات إلى ما يقولهُ القارئ بشأنِ المنجز الإبداعي، ما هو إلا ترفُ يصحبُ كل إصدار جديد، طالما تَمَّ الإقرار بجدارة المؤلفُ في الأوساط الثقافية، فلا يتطلبُ الموقف أخذَ رأي الآخر حول النصوص المنشورة، لكنْ بمجرد الوقوف على ما يخطهُ الأدباءُ في رسائلهم الشخصية من الكلمات المعبرة عن الهواجس والتوتر حولَ نتاجاتهم الإبداعية، نكتشفُ أنَّ هؤلاء الكُتابَ أبعدُ من الركون إلى الشهرة. لذا تقولُ الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، كلما أبدأُ بكتابة عملٍ جديد أشعر بأنني أختبر تجربة الكتابة لأول مرةٍ.
هذه الحالةُ تنسحبُ على مُعظم المبدعين، منهم الكاتب والروائي الروسي مكسيم غوركي، الذي بقدر ما يعبرُ عن إعجابه الشديد بأعمال صديقه أنطوان تشيخوف، يؤرقهُ الترددُ في ما يتعلقُ بإصداراته القصصية والمسرحية، لذلك ما يطالبُ به بالإلحاح في رسائله المُتبادلة مع تشيخوف الصادرة بترجمتها العربية مؤخراً من الرافدين معرفة رأي صاحب "بستان الكرز" حول مستواه الإبداعي في كتابة القصة والمسرحية. علماً أنَّ الاثنين كانا مُتقاربين في السن وعانى كلاهما من المرض نفسه، كما يشيرُ إلى ذلك المترجمُ جلال فاروق في تقديمه للمُكاتبات، غير أنَّ غوركي لا يأنفُ من المطالبة بالنصح والإرشاد.
منهج تشيخوف
يُمثلُ أسلوب تشيخوف في كتابة القصة تياراً أدبياً قد تأثرَّ به عددُ كبير من المؤلفين في كل أنحاء العالم، كما أن إبداعاته المسرحية لا تزالُ تحظى بِمُتابعة الجمهور العريض، ناهيك من تحويل بعض من رواياته القصيرة إلى أعمال درامية. ولم يعرف عن تشيخوف ميله للمشاركة في النقاشات النقدية بشأن العمل الإبداعي والأشكال التعبيرية، ولعلَّ أهمَّ ما يردُ في طيات رسائله المتبادلة مع صاحب "الأُم" هو الومضات النقدية، وبذلك يتمُ التعرف على المنهج الذي يؤثره صاحب "النورس" في كتابة القصة. وهو يُعلن بالوضوح في رسالته لغوركي أنَّ عيب الأخير في بناء قصته هو الإطالة، موضحاً أنَّ استعمال أقل ما يمكنُ من الحركات لحدث معين يُطلق عليه اسمُ الكياسة، وهذا ما يحتاجُ إليه مكسيم غوركي، على حد قولِ تشيخوف.
صداقة متينة
ومن ثمَّ ينصحه في رسالة أخرى بحذف النعوت والظروف ما أمكنه ذلك، كلما أعاد قراءة المسودات. مؤكداً على أن الأدب يجبُ أن يرتسمَ في الذهن دفعة واحدةَ، وفي ثانية من الزمن.
زيادة على ذلك فإنَّ مؤلف "الشقيقات الثلاث" يلفتُ انتباه غوركي إلى محاذير سرعة سحب الشخصية المثيرة، وانتهاء دورها في أحد نصوصه المسرحية ما يؤدي إلى رتابة العرض، لأنَّ موت الممثل، حسب رأي تشيخوف بمثابة صفعة يوجهها غوركي للمشاهد، وهو غير مستعد لهذا التحول، أكثر من ذلك يشيرُ أنطون تشيخوف إلى الكلمات التي يسرفُ غوركي في استخدامها، وهي تصدمُ السمع ولا تضيف إلى بناء النص، ولا يستسيغ لرائد القصة القصيرة إيراد الكلام عن مكونات الطبيعة والمثقفين في نصوص غوركي. كما يبدي تشيخوف رأيه حول عناوين أخرى منها كتاب "الفكر" الذي ألفه أندرييف، حيثُ يصفُ صاحبه بالموهوب لكن تعوزهُ البساطة، ما يعني أنَّ الفكر كما الأدب يجبُ أن يتصفَ بالبساطة، ولا يضيفُ إليه الغموض في الصياغة. ما قدمَ سابقاً يظهر وجود ذائقة نقدية حساسة لدى تشيخوف وقراءاته المتنوعة وصراحته في التعبير.
لا يختلفُ أدب المراسلات عن فن اليوميات، من حيث البساطة والعفوية والتخفّف من أردية بلاغية. ويتقاطعُ الاثنان في رصد تفاصيل الحياة المُعاشة، وما يختبره المرءُ يومياً.
بلاغة البساطة
ما سطرهُ مكسيم غوركي في رسائله بحقِ تشيخوف يبينُ شدة إعجابه ومُتابعته لمؤلفات الأخير، إذ لا ينفكُ من إطراء بساطة أسلوبه، لافتاً إلى من يريدُ كتابة القصة على منواله. واصفاً إياه بقاتل الواقعية. والطريف في الأمر أن تأثر غوركي بقصة "سيدة" بلغ حدا أراد محاكاة بطلها في الخيانة لزوجته، كما يصرحُ بذلك في رسالته.
يقولُ غوركي في السياق ذاته مُخاطباً تشيخوف، إن أقاصيصك زجاجات رشيقة ممُتلئة بجميع ما في الحياة من عطر. ويبلغ صديقه بأنَّه يواصل مشاهدة عرض مسرحية "العم فانيا" وكان يشدهُ إلى هذا النص احتواؤهُ للرموز والأفكار الأصيلة.
لا يكتفي غوركي في مراسلاته بتقديم انطباعاته حول أعمال تشيخوف، إنما يذكرُ مواقف غيره عن أدب تشيخوف، حيثُ أورد في إحدى رسائله رأي تولستوى عن قصة تشيخوف التي قرأها في مجلة "الحياة" إذ يصفُ ليون تولستوي سروره بالخارق بعد قراءة ما نشره كاتبُ "عنبر رقم 6".
بالطبع إنَّ أعمال تشيخوف الإبداعية قد عبرت كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وهذا ما يؤكدُه كلامُ غوركي عن افتتان حذاءٍ بقصة "حرباء" وبحثه عن مؤلفات تشيخوف، بعدما سمع في القطار حديث أشخاص قد امتدحوا مؤلف "الراهب الأسود".
مؤدى ما يسرده غوركي أنَّ قصص تشيخوف كانت مقروءة على نطاق واسع. كما أنَّ الشهرة التي وصل إليها هؤلاءُ الأدباء كانت نتيجة إصغائهم إلى نبض البسطاء وإدراكهم لهموم المقهورين.
يرسلُ غوركي فتاةً إلى تشيخوف عندما يجدُ لديها موهبة، ولا يمنعه عملها بائعة للهوى من الاعتراف بدرايتها في السرد وإتقان اللغات الأجنبية. يأخذُ البوحُ بما يشكو منه غوركي من ملاحقة السلطات له وتضيق الخناق عليه مساحة من مُكاتباته مع تشيخوف، لكن هذا الأمر لا يخلو من الفوائد لأنَّ وزارة الداخلية لفتت انتباه الشعب الروسي إلى أدبه، لدرجة أنَّ من لم يقرأْ ما يكتبهُ غوركي يوصف بالهمجي، وكان الكاتبُ المشاغبُ يميلُ للعزلة التي هي بداية الحكمة برأيه. ومن الواضح أنَّ ثمة مدنا لا تعجب غوركي منها بطرسبورغ التي لا تسطع فيها الشمسُ إلا ثلاث مرات خلال سنةٍ، كما أنَّ نساءها لا يقرأنَ سوى كتب الاقتصاد ما يعني استحالة الحياة في هذا المُناخ بالنسبة إليه.
يوميات
لا يختلفُ أدب المراسلات عن فن اليوميات، من حيث البساطة والعفوية والتخفّف من أردية بلاغية. ويتقاطعُ الاثنان في رصد تفاصيل الحياة المُعاشة، وما يختبره المرءُ يومياً لذا فإن قسماً آخر من الرسائل المتبادلة بين الأديبين الروسيين يتناولُ المُعاناة مع المرض وموقف الناشرين وأجواء المدنِ، إضافةً إلى ما يمكنُ تسميته بكواليس طبخة الكتابة، فكان تشيخوف تروق له مُتابعة تحضيرات نصوصه المسرحية للعرض، كما رشح أسماءَ محددة للقيام بتمثيل شخصيات المسرحية التي كتبها غوركي، لافتاً إلى ضرورة الترابط في بنية الحدث، بالاعتماد على إشارات خاطفة. وما يوفر مستوى عالياً من التميز لبعض الرسائل هو نقل واقع الإنسان المسحوق، الذي لا يملكُ خياراً لمعالجة حياته البائسة.
يذكر مكسيم غوركي في حيثيات إحدى رسائله نبأ انتحار رجل في أرزاماس، إذ يصفُ مشهداً مزيجاً من المأساة والكوميديا، فمن جانب هناك رجلُ معلقُ لسانه ممدود وتوجد امراةُ من جانب آخر تبكي لأنَّ أجيرها المُنتحر مدين لها ب (12) روبلاً.
كما يردُ تلميحُ في رسالة أخرى إلى زينا التي كانت تتمعُ بروحية شفافة يصدمها وجود زوجها مع امرأة أخرى في حالة حميمية، وتصابُ على إثر ذلك بمرض يودي بحياتها.
قصارى القول عن هذه الرسائل إنها تكشف عن صداقة متينة بين غوركي وتشيخوف، وتقدير متبادلٍ بينهما، فضلاً عن عدم الانفصال عن الواقع وتحدياته،
يشارُ إلى أن العمر لم يمهلْ تشيخوف إلا أسابيع بعد آخر رسالة يتلقاها من غوركي.
قد يتوهمُ المُتابعُ للأعمال الإبداعية بأنَّ أصحابها لا يتذوقون غير طعم النجاح والشهرة، وما ينشرونهُ من المؤلفات - التي أصبح صيتُ عناوين بعضها أكثر ذيوعاً من أسمائهم - ليست سوى تعبيرٍ عن الرغبة المُعمدة بالموهبة، وبالتالي فإنَّ بناء مدماك العمل لا يحتمُ الشعور بالقلق، كما إنَّ الإنصات إلى ما يقولهُ القارئ بشأنِ المنجز الإبداعي، ما هو إلا ترفُ يصحبُ كل إصدار جديد، طالما تَمَّ الإقرار بجدارة المؤلفُ في الأوساط الثقافية، فلا يتطلبُ الموقف أخذَ رأي الآخر حول النصوص المنشورة، لكنْ بمجرد الوقوف على ما يخطهُ الأدباءُ في رسائلهم الشخصية من الكلمات المعبرة عن الهواجس والتوتر حولَ نتاجاتهم الإبداعية، نكتشفُ أنَّ هؤلاء الكُتابَ أبعدُ من الركون إلى الشهرة. لذا تقولُ الروائية التشيلية إيزابيل الليندي، كلما أبدأُ بكتابة عملٍ جديد أشعر بأنني أختبر تجربة الكتابة لأول مرةٍ.
هذه الحالةُ تنسحبُ على مُعظم المبدعين، منهم الكاتب والروائي الروسي مكسيم غوركي، الذي بقدر ما يعبرُ عن إعجابه الشديد بأعمال صديقه أنطوان تشيخوف، يؤرقهُ الترددُ في ما يتعلقُ بإصداراته القصصية والمسرحية، لذلك ما يطالبُ به بالإلحاح في رسائله المُتبادلة مع تشيخوف الصادرة بترجمتها العربية مؤخراً من الرافدين معرفة رأي صاحب "بستان الكرز" حول مستواه الإبداعي في كتابة القصة والمسرحية. علماً أنَّ الاثنين كانا مُتقاربين في السن وعانى كلاهما من المرض نفسه، كما يشيرُ إلى ذلك المترجمُ جلال فاروق في تقديمه للمُكاتبات، غير أنَّ غوركي لا يأنفُ من المطالبة بالنصح والإرشاد.
منهج تشيخوف
يُمثلُ أسلوب تشيخوف في كتابة القصة تياراً أدبياً قد تأثرَّ به عددُ كبير من المؤلفين في كل أنحاء العالم، كما أن إبداعاته المسرحية لا تزالُ تحظى بِمُتابعة الجمهور العريض، ناهيك من تحويل بعض من رواياته القصيرة إلى أعمال درامية. ولم يعرف عن تشيخوف ميله للمشاركة في النقاشات النقدية بشأن العمل الإبداعي والأشكال التعبيرية، ولعلَّ أهمَّ ما يردُ في طيات رسائله المتبادلة مع صاحب "الأُم" هو الومضات النقدية، وبذلك يتمُ التعرف على المنهج الذي يؤثره صاحب "النورس" في كتابة القصة. وهو يُعلن بالوضوح في رسالته لغوركي أنَّ عيب الأخير في بناء قصته هو الإطالة، موضحاً أنَّ استعمال أقل ما يمكنُ من الحركات لحدث معين يُطلق عليه اسمُ الكياسة، وهذا ما يحتاجُ إليه مكسيم غوركي، على حد قولِ تشيخوف.
صداقة متينة
ومن ثمَّ ينصحه في رسالة أخرى بحذف النعوت والظروف ما أمكنه ذلك، كلما أعاد قراءة المسودات. مؤكداً على أن الأدب يجبُ أن يرتسمَ في الذهن دفعة واحدةَ، وفي ثانية من الزمن.
زيادة على ذلك فإنَّ مؤلف "الشقيقات الثلاث" يلفتُ انتباه غوركي إلى محاذير سرعة سحب الشخصية المثيرة، وانتهاء دورها في أحد نصوصه المسرحية ما يؤدي إلى رتابة العرض، لأنَّ موت الممثل، حسب رأي تشيخوف بمثابة صفعة يوجهها غوركي للمشاهد، وهو غير مستعد لهذا التحول، أكثر من ذلك يشيرُ أنطون تشيخوف إلى الكلمات التي يسرفُ غوركي في استخدامها، وهي تصدمُ السمع ولا تضيف إلى بناء النص، ولا يستسيغ لرائد القصة القصيرة إيراد الكلام عن مكونات الطبيعة والمثقفين في نصوص غوركي. كما يبدي تشيخوف رأيه حول عناوين أخرى منها كتاب "الفكر" الذي ألفه أندرييف، حيثُ يصفُ صاحبه بالموهوب لكن تعوزهُ البساطة، ما يعني أنَّ الفكر كما الأدب يجبُ أن يتصفَ بالبساطة، ولا يضيفُ إليه الغموض في الصياغة. ما قدمَ سابقاً يظهر وجود ذائقة نقدية حساسة لدى تشيخوف وقراءاته المتنوعة وصراحته في التعبير.
لا يختلفُ أدب المراسلات عن فن اليوميات، من حيث البساطة والعفوية والتخفّف من أردية بلاغية. ويتقاطعُ الاثنان في رصد تفاصيل الحياة المُعاشة، وما يختبره المرءُ يومياً.
بلاغة البساطة
ما سطرهُ مكسيم غوركي في رسائله بحقِ تشيخوف يبينُ شدة إعجابه ومُتابعته لمؤلفات الأخير، إذ لا ينفكُ من إطراء بساطة أسلوبه، لافتاً إلى من يريدُ كتابة القصة على منواله. واصفاً إياه بقاتل الواقعية. والطريف في الأمر أن تأثر غوركي بقصة "سيدة" بلغ حدا أراد محاكاة بطلها في الخيانة لزوجته، كما يصرحُ بذلك في رسالته.
يقولُ غوركي في السياق ذاته مُخاطباً تشيخوف، إن أقاصيصك زجاجات رشيقة ممُتلئة بجميع ما في الحياة من عطر. ويبلغ صديقه بأنَّه يواصل مشاهدة عرض مسرحية "العم فانيا" وكان يشدهُ إلى هذا النص احتواؤهُ للرموز والأفكار الأصيلة.
لا يكتفي غوركي في مراسلاته بتقديم انطباعاته حول أعمال تشيخوف، إنما يذكرُ مواقف غيره عن أدب تشيخوف، حيثُ أورد في إحدى رسائله رأي تولستوى عن قصة تشيخوف التي قرأها في مجلة "الحياة" إذ يصفُ ليون تولستوي سروره بالخارق بعد قراءة ما نشره كاتبُ "عنبر رقم 6".
بالطبع إنَّ أعمال تشيخوف الإبداعية قد عبرت كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وهذا ما يؤكدُه كلامُ غوركي عن افتتان حذاءٍ بقصة "حرباء" وبحثه عن مؤلفات تشيخوف، بعدما سمع في القطار حديث أشخاص قد امتدحوا مؤلف "الراهب الأسود".
مؤدى ما يسرده غوركي أنَّ قصص تشيخوف كانت مقروءة على نطاق واسع. كما أنَّ الشهرة التي وصل إليها هؤلاءُ الأدباء كانت نتيجة إصغائهم إلى نبض البسطاء وإدراكهم لهموم المقهورين.
يرسلُ غوركي فتاةً إلى تشيخوف عندما يجدُ لديها موهبة، ولا يمنعه عملها بائعة للهوى من الاعتراف بدرايتها في السرد وإتقان اللغات الأجنبية. يأخذُ البوحُ بما يشكو منه غوركي من ملاحقة السلطات له وتضيق الخناق عليه مساحة من مُكاتباته مع تشيخوف، لكن هذا الأمر لا يخلو من الفوائد لأنَّ وزارة الداخلية لفتت انتباه الشعب الروسي إلى أدبه، لدرجة أنَّ من لم يقرأْ ما يكتبهُ غوركي يوصف بالهمجي، وكان الكاتبُ المشاغبُ يميلُ للعزلة التي هي بداية الحكمة برأيه. ومن الواضح أنَّ ثمة مدنا لا تعجب غوركي منها بطرسبورغ التي لا تسطع فيها الشمسُ إلا ثلاث مرات خلال سنةٍ، كما أنَّ نساءها لا يقرأنَ سوى كتب الاقتصاد ما يعني استحالة الحياة في هذا المُناخ بالنسبة إليه.
يوميات
لا يختلفُ أدب المراسلات عن فن اليوميات، من حيث البساطة والعفوية والتخفّف من أردية بلاغية. ويتقاطعُ الاثنان في رصد تفاصيل الحياة المُعاشة، وما يختبره المرءُ يومياً لذا فإن قسماً آخر من الرسائل المتبادلة بين الأديبين الروسيين يتناولُ المُعاناة مع المرض وموقف الناشرين وأجواء المدنِ، إضافةً إلى ما يمكنُ تسميته بكواليس طبخة الكتابة، فكان تشيخوف تروق له مُتابعة تحضيرات نصوصه المسرحية للعرض، كما رشح أسماءَ محددة للقيام بتمثيل شخصيات المسرحية التي كتبها غوركي، لافتاً إلى ضرورة الترابط في بنية الحدث، بالاعتماد على إشارات خاطفة. وما يوفر مستوى عالياً من التميز لبعض الرسائل هو نقل واقع الإنسان المسحوق، الذي لا يملكُ خياراً لمعالجة حياته البائسة.
يذكر مكسيم غوركي في حيثيات إحدى رسائله نبأ انتحار رجل في أرزاماس، إذ يصفُ مشهداً مزيجاً من المأساة والكوميديا، فمن جانب هناك رجلُ معلقُ لسانه ممدود وتوجد امراةُ من جانب آخر تبكي لأنَّ أجيرها المُنتحر مدين لها ب (12) روبلاً.
كما يردُ تلميحُ في رسالة أخرى إلى زينا التي كانت تتمعُ بروحية شفافة يصدمها وجود زوجها مع امرأة أخرى في حالة حميمية، وتصابُ على إثر ذلك بمرض يودي بحياتها.
قصارى القول عن هذه الرسائل إنها تكشف عن صداقة متينة بين غوركي وتشيخوف، وتقدير متبادلٍ بينهما، فضلاً عن عدم الانفصال عن الواقع وتحدياته،
يشارُ إلى أن العمر لم يمهلْ تشيخوف إلا أسابيع بعد آخر رسالة يتلقاها من غوركي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.