15 صورة.. البابا تواضروس يدشن كنيسة الشهيد مارمينا بفلمنج شرق الإسكندرية    قيادي بمستقبل وطن: تحركات الإخوان ضد السفارات المصرية محاولة بائسة ومشبوهة    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    وزير الإسكان ومحافظ مطروح يتفقدان محطة تحلية مياه البحر "الرميلة 4" -تفاصيل    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    الحرس الثوري الإيراني يهدد إسرائيل برد أشد قسوة حال تكرار اعتدائها    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    تعديل جديد.. كاف يخطر بيراميدز بموعد مباراتي الجيش الرواندي    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    أول تعليق لمحافظ الإسكندرية على واقعة الغرق الجماعي بشاطئ أبو تلات    السجن المشدد 6 سنوات لحداد لاتجاره فى المخدرات وحيازة سلاح بشبرا الخيمة    إيرادات الجمعة.. "درويش" يحافظ على المركز الأول و"الشاطر" الثاني    "الصحة" تقدم 314 ألف خدمة عبر 143 قافلة في يوليو 2025    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    الغربية: حملات نظافة مستمرة ليلا ونهارا في 12 مركزا ومدينة لضمان بيئة نظيفة وحضارية    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    ماذا ينتظر كهربا حال إتمام انتقاله لصفوف القادسية الكويتي؟    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    "عربية النواب": المجاعة في غزة جريمة إبادة متعمدة تستدعي تحركًا عاجلًا    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    ورش تدريبية للميسرات العاملات بمركزي استقبال أطفال العاملين ب«التضامن» و«العدل»    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمبرتو إيكو يروي محنة فقدان الذاكرة في زمن موسوليني
نشر في صوت البلد يوم 12 - 06 - 2020

في روايته "الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا"، يبحر الكاتب الإيطالي الراحل أُمبرتو إيكو، عميقاً، عبر بطلها "جيان باتِستا بودوني"، الملقَّب ب"يامبو"، والمهدَّد بالعيش بقية عمره وسط ضباب كثيف على أثر فقدانه الذاكرة جزئياً بعد أن بلغ الستين من عمره، في معنى التذكر وآلياته وارتباطه بالزمن والوجود الفردي والجمعي، وفرز الزائف من الحقيقي في المرويات التاريخية الرسمية.
هذا العمل الذي جاء في 560 صفحة، هو رحلة تشبه، بحسب ما يرى الكاتب الألماني ديتر هيدلبراندت، رحلة الفرنسي مارسيل بروست في رائعته "البحث عن الزمن المفقود"، وفي القلب منه مراجعة مراهقَة تزامنت مع انتعاش الفاشية في إيطاليا الحالمة وقتها باستعادة امبراطورية غابرة، وفي هذا ما يقربه على نحو ما مع سيرة الكاتب نفسه الشخصية والعائلية علماً أنه عاش بين عامي 1932 و2016.
وقبل أيام أصدرت مكتبة "تنمية" في القاهرة "طبعة خاصة لمصر"، من ترجمة هذه الرواية "المصوَّرة" إلى اللغة العربية (ترجمها عن الإيطالية معاوية عبد المجيد) بالتعاوان مع دار "الكتاب الجديد المتحدة"، الناشر الأصلي لتلك الترجمة.
الفصل الأول عنوانه "الحادث"، وينتهي بخروج "يامبو" من المستشفى إلى بيته وهو لا يعرف حتى نفسه. هو في الستين من عمره ويعمل في بيع الكتب الأثرية في ميلانو. له زوجة وله ابنان، "كارلا" و"نيكوليتا"، وثلاثة أحفاد. يعرف من زوجته "باولا" أنه تخرَّج في كلية الآداب ثم سافر إلى ألمانيا لدراسة تاريخ الكتب القديمة التي ورث عن جده الولع بها.
ضمير المتكلم
السرد دائماً بضمير المتكلم، الذي هو "يامبو" نفسه، ولا تحضر الشخصيات "الحيَّة" الأخرى، وكذلك الشخصيات التاريخية من عائلية وعامة إلا عبر ذاكرته المشوّشة والتي تبدو دائماً موسوعية في ما يتعلق بالمعرفة في معناها المطلق، وضحلة في ما يخص التجارب الشخصية. والسرد كذلك يبدو وكأنه مونولوغ طويل جداً، فغالباً ما يتحدث السارد إلى نفسه فتبدو الشخصيات المحيطة به والمدركة لمأزقه هامشية. يقول يامبو لنفسه: "ذاكرتي ضحلة لا يبلغ عمقها إلا أسابيع قليلة" (الرواية ص 54). إلى جانب الإيطالية يجيد "يامبو" المولود في العام 1930 الانجليزية والفرنسية والألمانية. تجاربه الشخصية قبل العام 1990 عندما تعرَّض لحادث سير، طواها النسيان، ويجد في نفسه رغبة "خفية" أو "غامضة" في استعادتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة عاطفية، يبدو أنها كانت قوية للغاية، وقد سبقت تعرفه على "باولا" الطبيبة النفسية التي ستصبح في ما بعد زوجته.
يسأل نفسه: "ما المتعة في أن تكون لديك حكاية إذا كنتَ لا تستطيع أن تقصها على أصدقائك، ولا حتى بإمكانك أن تتذوقها سراً بين الحين والآخر، في ليال يهزها الإعصار، بينما تنعم بالدفء تحت اللحاف؟".
قالت له زوجته حين أبدى رغبته في ممارسة الحب معها بعد وقت وجيز من عودته من المستشفى إلى المنزل: "أرفض رفضاً قاطعاً أن تمارس الحب مع امرأة تعرَّفت عليها للتو". يقول مخاطباً مساعدته في متجر بيع الكتب القديمة الذي يملكه، وقد راوده شعور بأنه ربما يكون قد ربطته بها علاقة عاطفية ما قبل أن يفقد ذاكرة التجارب الشخصية: "كل ما وقع لي في الماضي، كل شيء؛ أعني كل شيء، أتفهمين، يبدو مثل لوح مُسِح بالأسفنجة". يقول أيضاً لنفسه: "النسيان وحش فتّاك"، ويقول كذلك: "لستُ فاقداً للذاكرة فحسب، بل ربما بِتُ أعيش على ذكريات وهمية. ليس لديَّ إلا الاقتباسات أنواراً تضيء دربي في هذا الضباب الموحش" ص81.
وتقول له زوجته في محاولة لإنعاش ما تلبَّد من تلافيف ذاكرته: "كنتَ تتجاهل الحديث عن طفولتك ومراهقتك. ومن جهة أخرى، لم أتمكَّن قط من فهمك في هذه الأشياء. إذ لطالما كنتَ مزيجاً من العطف والحياد. كنتَ توقع ضد تنفيذ حكم بالإعدام على أحدهم، وتتبرع بالنقود لجمعية توعية بمخاطر المخدرات. ولكن، إذا أخبروك أن عشرة آلاف طفل لقوا مصرعهم، ما أدراني، جراء حرب قبلية في أفريقيا الوسطى، كنتَ تبدي لا مبالاة، لسان حالك يقول إن العالم مكان سيئ وما باليد حيلة، كنتَ رجلاً بهيجاً دوماً، تعجبك النساء الجميلات، وتمتدح النبيذ الممتاز، وتستمع إلى الموسيقى الجيدة، لكن صفاتك تلك كانت تعطيني انطباعاً بأنها ليست سوى مجرد قشرة خارجية، وقناع تخفي حقيقتك وراءه، فكلما أطلقتَ العنان لنفسك، قلتَ إن التاريخ لغز دموي والعالم غلطة"ص 83.
ومن هنا تنصحه بإجازة يقضيها في بيت عائلته الريفي، لعل ذلك يفيد في استرداد المفقود من الذاكرة، وهناك يواصل تساؤلاته: "أي شعور يراودك إذا دغدغ أحدهم فؤادك؟ برأيي سيكون مثل شعلة خفية"، ماذا تعني شعلة خفية؟ لا أدري، خطَر في بالي أن أسميها هكذا"، ويلاحظ وهو داخل عِلية ذلك البيت حيث احتفظ أقاربه بكل ما هو قديم وبعضه يخص طفولته ومراهقته من كتب عامة وأخرى مدرسية واسطوانات ولوحات، أنه يحظى بذاكرة إنسانية، فيما انمحت ذاكرته الشخصية؛ "قلت لنفسي: لديك ذاكرة من ورق يا يامبو... تلك البومة البيضاء خلال هروبها (من العِلية التي كانت قد اتخذتها مسكناً بما أنها تحولت مع الوقت إلى مكان مهجور) في الليل أشعرتني من جديد بتلك الرعشة التي أسميتها بالشعلة الخفية".حارسة البيت وتدعى أماليا، تخطت السبعين من عمرها، ولا زالت تعتقد أن موسوليني لا يزال على قيد الحياة، وحين يخبرها "يامبو" بأن "الدوتشي" جرى إعدامه قبل سنوات طويلة، تقول: "أنا لا أفقه شيئاً في السياسة، لكنني أعلم أنهم أطاحوا به ذات مرة ثم عاد، خذها مني: إن الزعيم ما يزال في مكان ما".
الذكريات المهملة
وفي سياق تأمله حاله يعود "يامبو" ليؤكد: "تجتاحني غصة، كتلك التي راودتني في المستشفى حين رأيت صورة والديَّ يوم زفافهما. الشعلة الخفية. عندما حاولت أن أشرح الظاهرة للطبيب غراتارولو، سألني عما إذا كنتُ أقصد الاختلاج القلبي. ربما، أجبتُ، لكنه مصحوب بحرارة تصعد من الحلق. لا، والحال هذه - قال غراتارولو- الاختلاجات القلبية ليست كذلك". وعقب تأمله لإحدى الصور، ضمن مهملات عِلية بيت العائلة الريفي يقول: "كان ذلك جانباً لوجه أنثوي يغيم عليه شَعر ذهبي طويل، لكأنه حدس مبهم ومكتوم لملاك ساقط... يا إلهي، لا بد أني قد رأيتُ ذلك الوجه، في صغري، في صباي، في مراهقتي". رويداً رويداً، يواصل اكتشافاته: "اكتشفت أن اسمي آت من رؤى رهيبة. ها هي "مغامرات الولد ذي الغرة الجميلة" لكاتب يدعي يامبو".
بتنقيبه، مستعيناً، كما يقول بالفطرة والحدس وعلى طريقة شرلوك هولمز إلى حد ما، في تلال من الذكريات المادية المهملة، يدرك "يامبو"، ولا نقول يتذكر، أموراً كثيرة سبق له قبل فقد الذاكرة التعرف عليها، وربما يكون قد نسيها أصلاً قبل حادث السير الذي تسبب في جعله غير قادر حتى على التعرف على نفسه. وسط تلك التلال وعبر جهد شاق في فرزها، منفرداً، سيعرف "يامبو"، بالحدس، أو بشعلة غامضة، أي شخص هو. سيقول لنفسه في غمار رحلته نحو طفولته ومراهقته التي تأثرت حتماً بفاشية موسوليني عبر التعليم والإعلام والراديو والسينما في عهده: "من الصعب القول إني أعيد اكتشاف شيء ما أو إنني أنشط ذاكرتي الورقية ليس إلا. ولكن إذا كانت الذاكرة الفردية في حاجة إلى تفعيل، فإنها تختلط بالذاكرة العامة. والكتب التي من المرجح أنها أثَّرت في طفولتي، كانت تلك التي تحيلني بلا صدمات على معرفتي الناضجة وغير الشخصية".
أما الترجمة، فقد أنجزها معاوية عبد المجيد في نحو عامين بحسب ما أورده في مقدمة الترجمة، والتي استهلها باقتباس من كتاب إيكو؛ "أن نقول الشيء نفسه تقريباً": "إن "وفاء" الترجمة المصرَّح به ليس معياراً يضمن الترجمة الوحيدة المقبولة (وبالتالي يجب أن نعيد النظر حتى في الغطرسة أو العجرفة التي ينظر بها أحياناً إلى الترجمات على أنها "جميلة ولكنها خائنة... الوفاء هو بالأحرى أن نعتقد أن الترجمة هي دائماً ممكنة إذا أوَّلنا النص المصدر بتواطؤ متحمس، هي التعهد بتحديد ما يبدو لنا المعنى العميق للنص، والقدرة على التفاوض في كل لحظة بشأن الحل الذي يبدو لنا أسلم". هذا الكتاب صدر بترجمة أحمد الصُّمعي عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، وبات بحسب عبد المجيد "مرجعاً أساسياً لمعظم المترجمين، وقد دأبتُ على أن تكون هذه العبارة بوصلة موجِّهة لعملي في الترجمة الأدبية، إلا أن صعوبات تطبيقها تتضاعف في حال كون الكتاب الذي تراد ترجمته هو لصاحب تلك العبارة".
جهد الترجمة
أمضى عبد المجيد نحو عامين، بين قراءة رواية "الشعلة الخفية" وإعادة قراءتها مراراً والاطلاع على القدر الهائل من المصادر والمراجع التي اختزنها إيكو بين دفتي الرواية. ويضيف: "عجزتُ عن ترجمتها دفعة واحدة؛ لأنها كانت تصيبني بتخمة معرفية في كل صفحة من صفحاتها، إذ إن "التفاوض" المشار إليه آنفاً يمتد فيها ليشمل أدباء لا حصر لهم ونصوصاً معقدة. فقررتُ أن أعُد الرواية بمنزلة مرض مزمن، وأن أعايشها على مدى الأيام، وأن أحيا حياتي بكل تلقائية وأن أنجز الترجمات الأخرى التي كنتُ قد قطعتُ وعداً بإنجازها. وهذا بالتحديد ما يمكننا تسميته "الحياة الموازية". إذ لا يمكنك أن ترفض عرضاً يقدمه إليك السيد أمبرتو لاصطحابك معه في رحلة لا تنتهي، تبدأ بالتاريخ وتنتقل إلى الجغرافيا وتمر بعلم الأعصاب ثم تعرج على الفلسفة والدين وأزياء الشعوب والفاشية والطفولة والروايات الدفينة والرسم والسينما وأرشيف الورق والإغواء والشهوة والحب، وما إلى ذلك. لكني كنتُ في كل خطوة أخطوها أشعر بالنضج، النضج "الموازي"، وكلما التقط معلومة سجَّلتها، وبحثتُ عنها في مجاهل الإنترنت، ووثَّقتُها من عدة مصادر، ثم كنتُ أضعها في قسم الشروح، كي أوفر على القارئ مشقة مطاردة المعاني والمفاهيم وكي أحتفظ بمتعة المشقة لنفسي".
وأخيراً، كما يقول عبد المجيد، لا ينبغي لأن يغيب عنا أن هذه الرواية خصَّها أمبرتو إيكو بالصور والرسوم، وكان أكثرها من مكتبته الشخصية، حتى إن بعض النقاد عدَّها سيرة ذاتية متخفية بلباس السرد الروائي، غير أن هدفها أكثر تعقيداً من ذلك. فالرواية إذ تتناول موضوع الذاكرة وفقدانها واستعادتها، تتيح مجالاً واسعاً للصورة البصرية، ليمتحن القارئ قدرته على تمييزها من الصورة الذهنية، وقياسها بالكلمة التي تعبر عنها. ثم إن هذه الصور والرسوم هي بمنزلة الجداول البيانية والخرائط التوضيحية والأشكال الدلالية التي نجدها بوفرة في كتاباته الأخرى، الفكرية والأدبية على حد سواء".
في روايته "الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا"، يبحر الكاتب الإيطالي الراحل أُمبرتو إيكو، عميقاً، عبر بطلها "جيان باتِستا بودوني"، الملقَّب ب"يامبو"، والمهدَّد بالعيش بقية عمره وسط ضباب كثيف على أثر فقدانه الذاكرة جزئياً بعد أن بلغ الستين من عمره، في معنى التذكر وآلياته وارتباطه بالزمن والوجود الفردي والجمعي، وفرز الزائف من الحقيقي في المرويات التاريخية الرسمية.
هذا العمل الذي جاء في 560 صفحة، هو رحلة تشبه، بحسب ما يرى الكاتب الألماني ديتر هيدلبراندت، رحلة الفرنسي مارسيل بروست في رائعته "البحث عن الزمن المفقود"، وفي القلب منه مراجعة مراهقَة تزامنت مع انتعاش الفاشية في إيطاليا الحالمة وقتها باستعادة امبراطورية غابرة، وفي هذا ما يقربه على نحو ما مع سيرة الكاتب نفسه الشخصية والعائلية علماً أنه عاش بين عامي 1932 و2016.
وقبل أيام أصدرت مكتبة "تنمية" في القاهرة "طبعة خاصة لمصر"، من ترجمة هذه الرواية "المصوَّرة" إلى اللغة العربية (ترجمها عن الإيطالية معاوية عبد المجيد) بالتعاوان مع دار "الكتاب الجديد المتحدة"، الناشر الأصلي لتلك الترجمة.
الفصل الأول عنوانه "الحادث"، وينتهي بخروج "يامبو" من المستشفى إلى بيته وهو لا يعرف حتى نفسه. هو في الستين من عمره ويعمل في بيع الكتب الأثرية في ميلانو. له زوجة وله ابنان، "كارلا" و"نيكوليتا"، وثلاثة أحفاد. يعرف من زوجته "باولا" أنه تخرَّج في كلية الآداب ثم سافر إلى ألمانيا لدراسة تاريخ الكتب القديمة التي ورث عن جده الولع بها.
ضمير المتكلم
السرد دائماً بضمير المتكلم، الذي هو "يامبو" نفسه، ولا تحضر الشخصيات "الحيَّة" الأخرى، وكذلك الشخصيات التاريخية من عائلية وعامة إلا عبر ذاكرته المشوّشة والتي تبدو دائماً موسوعية في ما يتعلق بالمعرفة في معناها المطلق، وضحلة في ما يخص التجارب الشخصية. والسرد كذلك يبدو وكأنه مونولوغ طويل جداً، فغالباً ما يتحدث السارد إلى نفسه فتبدو الشخصيات المحيطة به والمدركة لمأزقه هامشية. يقول يامبو لنفسه: "ذاكرتي ضحلة لا يبلغ عمقها إلا أسابيع قليلة" (الرواية ص 54). إلى جانب الإيطالية يجيد "يامبو" المولود في العام 1930 الانجليزية والفرنسية والألمانية. تجاربه الشخصية قبل العام 1990 عندما تعرَّض لحادث سير، طواها النسيان، ويجد في نفسه رغبة "خفية" أو "غامضة" في استعادتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة عاطفية، يبدو أنها كانت قوية للغاية، وقد سبقت تعرفه على "باولا" الطبيبة النفسية التي ستصبح في ما بعد زوجته.
يسأل نفسه: "ما المتعة في أن تكون لديك حكاية إذا كنتَ لا تستطيع أن تقصها على أصدقائك، ولا حتى بإمكانك أن تتذوقها سراً بين الحين والآخر، في ليال يهزها الإعصار، بينما تنعم بالدفء تحت اللحاف؟".
قالت له زوجته حين أبدى رغبته في ممارسة الحب معها بعد وقت وجيز من عودته من المستشفى إلى المنزل: "أرفض رفضاً قاطعاً أن تمارس الحب مع امرأة تعرَّفت عليها للتو". يقول مخاطباً مساعدته في متجر بيع الكتب القديمة الذي يملكه، وقد راوده شعور بأنه ربما يكون قد ربطته بها علاقة عاطفية ما قبل أن يفقد ذاكرة التجارب الشخصية: "كل ما وقع لي في الماضي، كل شيء؛ أعني كل شيء، أتفهمين، يبدو مثل لوح مُسِح بالأسفنجة". يقول أيضاً لنفسه: "النسيان وحش فتّاك"، ويقول كذلك: "لستُ فاقداً للذاكرة فحسب، بل ربما بِتُ أعيش على ذكريات وهمية. ليس لديَّ إلا الاقتباسات أنواراً تضيء دربي في هذا الضباب الموحش" ص81.
وتقول له زوجته في محاولة لإنعاش ما تلبَّد من تلافيف ذاكرته: "كنتَ تتجاهل الحديث عن طفولتك ومراهقتك. ومن جهة أخرى، لم أتمكَّن قط من فهمك في هذه الأشياء. إذ لطالما كنتَ مزيجاً من العطف والحياد. كنتَ توقع ضد تنفيذ حكم بالإعدام على أحدهم، وتتبرع بالنقود لجمعية توعية بمخاطر المخدرات. ولكن، إذا أخبروك أن عشرة آلاف طفل لقوا مصرعهم، ما أدراني، جراء حرب قبلية في أفريقيا الوسطى، كنتَ تبدي لا مبالاة، لسان حالك يقول إن العالم مكان سيئ وما باليد حيلة، كنتَ رجلاً بهيجاً دوماً، تعجبك النساء الجميلات، وتمتدح النبيذ الممتاز، وتستمع إلى الموسيقى الجيدة، لكن صفاتك تلك كانت تعطيني انطباعاً بأنها ليست سوى مجرد قشرة خارجية، وقناع تخفي حقيقتك وراءه، فكلما أطلقتَ العنان لنفسك، قلتَ إن التاريخ لغز دموي والعالم غلطة"ص 83.
ومن هنا تنصحه بإجازة يقضيها في بيت عائلته الريفي، لعل ذلك يفيد في استرداد المفقود من الذاكرة، وهناك يواصل تساؤلاته: "أي شعور يراودك إذا دغدغ أحدهم فؤادك؟ برأيي سيكون مثل شعلة خفية"، ماذا تعني شعلة خفية؟ لا أدري، خطَر في بالي أن أسميها هكذا"، ويلاحظ وهو داخل عِلية ذلك البيت حيث احتفظ أقاربه بكل ما هو قديم وبعضه يخص طفولته ومراهقته من كتب عامة وأخرى مدرسية واسطوانات ولوحات، أنه يحظى بذاكرة إنسانية، فيما انمحت ذاكرته الشخصية؛ "قلت لنفسي: لديك ذاكرة من ورق يا يامبو... تلك البومة البيضاء خلال هروبها (من العِلية التي كانت قد اتخذتها مسكناً بما أنها تحولت مع الوقت إلى مكان مهجور) في الليل أشعرتني من جديد بتلك الرعشة التي أسميتها بالشعلة الخفية".حارسة البيت وتدعى أماليا، تخطت السبعين من عمرها، ولا زالت تعتقد أن موسوليني لا يزال على قيد الحياة، وحين يخبرها "يامبو" بأن "الدوتشي" جرى إعدامه قبل سنوات طويلة، تقول: "أنا لا أفقه شيئاً في السياسة، لكنني أعلم أنهم أطاحوا به ذات مرة ثم عاد، خذها مني: إن الزعيم ما يزال في مكان ما".
الذكريات المهملة
وفي سياق تأمله حاله يعود "يامبو" ليؤكد: "تجتاحني غصة، كتلك التي راودتني في المستشفى حين رأيت صورة والديَّ يوم زفافهما. الشعلة الخفية. عندما حاولت أن أشرح الظاهرة للطبيب غراتارولو، سألني عما إذا كنتُ أقصد الاختلاج القلبي. ربما، أجبتُ، لكنه مصحوب بحرارة تصعد من الحلق. لا، والحال هذه - قال غراتارولو- الاختلاجات القلبية ليست كذلك". وعقب تأمله لإحدى الصور، ضمن مهملات عِلية بيت العائلة الريفي يقول: "كان ذلك جانباً لوجه أنثوي يغيم عليه شَعر ذهبي طويل، لكأنه حدس مبهم ومكتوم لملاك ساقط... يا إلهي، لا بد أني قد رأيتُ ذلك الوجه، في صغري، في صباي، في مراهقتي". رويداً رويداً، يواصل اكتشافاته: "اكتشفت أن اسمي آت من رؤى رهيبة. ها هي "مغامرات الولد ذي الغرة الجميلة" لكاتب يدعي يامبو".
بتنقيبه، مستعيناً، كما يقول بالفطرة والحدس وعلى طريقة شرلوك هولمز إلى حد ما، في تلال من الذكريات المادية المهملة، يدرك "يامبو"، ولا نقول يتذكر، أموراً كثيرة سبق له قبل فقد الذاكرة التعرف عليها، وربما يكون قد نسيها أصلاً قبل حادث السير الذي تسبب في جعله غير قادر حتى على التعرف على نفسه. وسط تلك التلال وعبر جهد شاق في فرزها، منفرداً، سيعرف "يامبو"، بالحدس، أو بشعلة غامضة، أي شخص هو. سيقول لنفسه في غمار رحلته نحو طفولته ومراهقته التي تأثرت حتماً بفاشية موسوليني عبر التعليم والإعلام والراديو والسينما في عهده: "من الصعب القول إني أعيد اكتشاف شيء ما أو إنني أنشط ذاكرتي الورقية ليس إلا. ولكن إذا كانت الذاكرة الفردية في حاجة إلى تفعيل، فإنها تختلط بالذاكرة العامة. والكتب التي من المرجح أنها أثَّرت في طفولتي، كانت تلك التي تحيلني بلا صدمات على معرفتي الناضجة وغير الشخصية".
أما الترجمة، فقد أنجزها معاوية عبد المجيد في نحو عامين بحسب ما أورده في مقدمة الترجمة، والتي استهلها باقتباس من كتاب إيكو؛ "أن نقول الشيء نفسه تقريباً": "إن "وفاء" الترجمة المصرَّح به ليس معياراً يضمن الترجمة الوحيدة المقبولة (وبالتالي يجب أن نعيد النظر حتى في الغطرسة أو العجرفة التي ينظر بها أحياناً إلى الترجمات على أنها "جميلة ولكنها خائنة... الوفاء هو بالأحرى أن نعتقد أن الترجمة هي دائماً ممكنة إذا أوَّلنا النص المصدر بتواطؤ متحمس، هي التعهد بتحديد ما يبدو لنا المعنى العميق للنص، والقدرة على التفاوض في كل لحظة بشأن الحل الذي يبدو لنا أسلم". هذا الكتاب صدر بترجمة أحمد الصُّمعي عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، وبات بحسب عبد المجيد "مرجعاً أساسياً لمعظم المترجمين، وقد دأبتُ على أن تكون هذه العبارة بوصلة موجِّهة لعملي في الترجمة الأدبية، إلا أن صعوبات تطبيقها تتضاعف في حال كون الكتاب الذي تراد ترجمته هو لصاحب تلك العبارة".
جهد الترجمة
أمضى عبد المجيد نحو عامين، بين قراءة رواية "الشعلة الخفية" وإعادة قراءتها مراراً والاطلاع على القدر الهائل من المصادر والمراجع التي اختزنها إيكو بين دفتي الرواية. ويضيف: "عجزتُ عن ترجمتها دفعة واحدة؛ لأنها كانت تصيبني بتخمة معرفية في كل صفحة من صفحاتها، إذ إن "التفاوض" المشار إليه آنفاً يمتد فيها ليشمل أدباء لا حصر لهم ونصوصاً معقدة. فقررتُ أن أعُد الرواية بمنزلة مرض مزمن، وأن أعايشها على مدى الأيام، وأن أحيا حياتي بكل تلقائية وأن أنجز الترجمات الأخرى التي كنتُ قد قطعتُ وعداً بإنجازها. وهذا بالتحديد ما يمكننا تسميته "الحياة الموازية". إذ لا يمكنك أن ترفض عرضاً يقدمه إليك السيد أمبرتو لاصطحابك معه في رحلة لا تنتهي، تبدأ بالتاريخ وتنتقل إلى الجغرافيا وتمر بعلم الأعصاب ثم تعرج على الفلسفة والدين وأزياء الشعوب والفاشية والطفولة والروايات الدفينة والرسم والسينما وأرشيف الورق والإغواء والشهوة والحب، وما إلى ذلك. لكني كنتُ في كل خطوة أخطوها أشعر بالنضج، النضج "الموازي"، وكلما التقط معلومة سجَّلتها، وبحثتُ عنها في مجاهل الإنترنت، ووثَّقتُها من عدة مصادر، ثم كنتُ أضعها في قسم الشروح، كي أوفر على القارئ مشقة مطاردة المعاني والمفاهيم وكي أحتفظ بمتعة المشقة لنفسي".
وأخيراً، كما يقول عبد المجيد، لا ينبغي لأن يغيب عنا أن هذه الرواية خصَّها أمبرتو إيكو بالصور والرسوم، وكان أكثرها من مكتبته الشخصية، حتى إن بعض النقاد عدَّها سيرة ذاتية متخفية بلباس السرد الروائي، غير أن هدفها أكثر تعقيداً من ذلك. فالرواية إذ تتناول موضوع الذاكرة وفقدانها واستعادتها، تتيح مجالاً واسعاً للصورة البصرية، ليمتحن القارئ قدرته على تمييزها من الصورة الذهنية، وقياسها بالكلمة التي تعبر عنها. ثم إن هذه الصور والرسوم هي بمنزلة الجداول البيانية والخرائط التوضيحية والأشكال الدلالية التي نجدها بوفرة في كتاباته الأخرى، الفكرية والأدبية على حد سواء".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.