مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح تتضمن التعاون العلمي والأكاديمي وتبادل الخبرات    إزالة مزرعة سمكية مخالفة بالشرقية    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 15 ألف شخص في غزة بحاجة لإجلاء طبي    وزير الصحة الفلسطيني: فقدنا 1500 كادر طبي.. وأطباء غزة يعالجون المرضى وهم يعانون من الجوع والإرهاق    مانشستر سيتي يسقط في عقر داره أمام توتنهام    ضبط المتهمين بالاتجار بالمخدرات وارتكاب أعمال البلطجة بالبساتين    الإتجار في السموم وحيازة خرطوش.. جنايات شبرا تقضي بسجن متهمين 6 سنوات    نادين خان تبدأ تصوير مسلسل "بنج كلي" بطولة سلمى أبو ضيف ودياب    الصحة تقدم 314 ألف خدمة طبية مجانية عبر 143 قافلة بجميع المحافظات خلال يوليو    مصر القومي: الاعتداء على السفارات المصرية امتداد لمخططات الإخوان لتشويه صورة الدولة    قيادي بمستقبل وطن: تحركات الإخوان ضد السفارات المصرية محاولة بائسة ومشبوهة    إسلام جابر: لم أتوقع انتقال إمام عاشور للأهلي.. ولا أعرف موقف مصطفى محمد من الانتقال إليه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    إزالة لمزرعة سمكية مخالفة بجوار "محور 30" على مساحة 10 أفدنة بمركز الحسينية    تفعيل البريد الموحد لموجهي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بالفيوم    استقالات جماعية للأطباء ووفيات وهجرة الكفاءات..المنظومة الصحية تنهار فى زمن العصابة    إطلاق نار على الحدود بين كوريا الشمالية وجارتها الجنوبية    صور.. 771 مستفيدًا من قافلة جامعة القاهرة في الحوامدية    منال عوض تناقش استعدادات استضافة مؤتمر الأطراف ال24 لحماية بيئة البحر الأبيض المتوسط من التلوث    حبس فيتو!    الموت يغيب عميد القضاء العرفي الشيخ يحيى الغول الشهير ب "حكيم سيناء" بعد صراع مع المرض    50 ألف مشجع لمباراة مصر وإثيوبيا في تصفيات كأس العالم    "قصص متفوتكش".. رسالة غامضة من زوجة النني الأولى.. ومقاضاة مدرب الأهلي السابق بسبب العمولات    ماذا ينتظر كهربا حال إتمام انتقاله لصفوف القادسية الكويتي؟    وزير العمل يتفقد وحدتي تدريب متنقلتين قبل تشغيلهما غدا بالغربية    «المركزي لمتبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم بالشرقية    وزارة النقل تناشد المواطنين عدم اقتحام المزلقانات أو السير عكس الاتجاه أثناء غلقها    «لازم إشارات وتحاليل للسائقين».. تامر حسني يناشد المسؤولين بعد حادث طريق الضبعة    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    وفاة سهير مجدي .. وفيفي عبده تنعيها    مؤسسة فاروق حسني تطلق الدورة ال7 لجوائز الفنون لعام 2026    قلق داخلي بشأن صديق بعيد.. برج الجدي اليوم 23 أغسطس    غدا.. قصور الثقافة تطلق ملتقى دهب العربي الأول للرسم والتصوير بمشاركة 20 فنانا    تم تصويره بالأهرامات.. قصة فيلم Fountain of Youth بعد ترشحه لجوائز LMGI 2025    تكريم الفنانة شيرين في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته ال41    موعد إجازة المولد النبوي 2025.. أجندة الإجازات الرسمية المتبقية للموظفين    كيف تكون مستجابا للدعاء؟.. واعظة بالأزهر توضح    وزير الدفاع الأمريكي يجيز ل2000 من الحرس الوطني حمل السلاح.. ما الهدف؟    وزير خارجية باكستان يبدأ زيارة إلى بنجلاديش    رئيس «الرعاية الصحية»: تقديم أكثر من 2.5 مليون خدمة طبية بمستشفيات الهيئة في جنوب سيناء    الصحة: حملة «100 يوم صحة» قدّمت 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يوما    فحص وصرف العلاج ل247 مواطنا ضمن قافلة بقرية البرث في شمال سيناء    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    محافظ أسوان يتابع معدلات الإنجاز بمشروع محطة النصراب بإدفو    طقس الإمارات اليوم.. غيوم جزئية ورياح مثيرة للغبار على هذه المناطق    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    «مياه الأقصر» تسيطر على بقعة زيت فى مياه النيل دون تأثر المواطنين أو إنقطاع الخدمة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رائحة البخور الهندي تهب من رواية كي بي رامانوني
نشر في صوت البلد يوم 12 - 04 - 2020

تنضم رواية "ما حكاه الصوفي" للكاتب كي بي رامانوني، إلى قائمة الروايات الهندية المعاصرة المترجمة إلى اللغة العربية، لتقف جنباً إلى جنب مع روايات أروندتي روي التي نالت جائزة البوكر عن رواية "رب الأشياء الصغيرة"، وأنيتا ديساي التي رُشحت للبوكر ثلاث مرات، وابنتها كيران ديساي التي نالت البوكر عن روايتها "ميراث الخسارة"، ورواية "مثل ترنيمة قناع هندي لحياة دستويفسكي" للكاتب الهندي بيرومبادافام سرىي دهاران، وغيرها قائمة طويلة من الروايات، التي مهما طالت سيظل ثمة قصور في معرفتنا لكّتاب شبه القارة الهندية، ليس بسبب اتساعها الجغرافي وحسب، بل أيضاً بسبب تعدّد اللغات التي يكتب بها الكتّاب، وتحتاج هذه اللغات المحلية أن يتم نقلها إلى اللغة الإنجليزية، ومنها إلى العربية.
تمتلك الرواية الهندية خلفية ثقافية واجتماعية شديدة التنوع والثراء والاختلاف أيضاً عن ما يقدمه أي نوع آخر من الروايات العالمية، وهذا يرجع إلى المنابع الفكرية التي تنحدر منها الثقافة الهندية في تلاقح معتقدات دينية تجمع بين الإله والإنسان والطبيعة. فمن الممكن رؤية تأثير الديانة الهندوسية والبوذية، في قناعات الأبطال وسلوكهم، إلى جانب تأثير الديانتين الإسلامية والمسيحية، إذ ينعكس تأثيرهما بشكل واضح حين يحصل تماس مباشر مع قناعات أخرى، كما سنرى في الرواية.
يستطيع قارئ رواية "ما حكاه الصوفي" (دار مسعى – لوتس عُمان، الكويت) أن يشم رائحة البخور وزيت جوز الهند تعبق مع خطوات السائرين نحو مقام "الولية"، بل أن يرى "السيدهارت" الذين يعيشون لقرون وهم يعبرون البحار ويتنقلون من مكان إلى آخر، وأن يسمع الابتهال للأنهار المقدسة والبحار السبعة، وأن يحس بالأحداث التي تسير بتناغم مع حركة الكواكب، وأن لا يندهش من حضور الآلهة بهجافاتي مثل شبح غير مرئي يتحرك في البيت من دون توقف. يمضي البطل السارد، وهو شاب هندوسي لطالما سافر بحثاً عن أساطير وعادات وتقاليد الناس في الهند، نحو مقام "الولية"، وهناك يلتقي مع رجلٍ عجوزٍ، حكيم مؤرخ للكون يخمّن أنه يمتلك معرفة مدهشة ومتفرّدة، لذلك يجلس معه مستسلماً لما سيحكيه. تبدأ الرواية بهذه الفقرة الكاشفة: "سئمنا نحن أبناء المنطقة الحقائق البحتة والعقلانية، لذلك حين سمعنا بظهور مقام على شاطئنا ابتهجنا جداً. إن كان ذلك خرافة فليكن، تعلّمنا منذ سنوات طويلة أن نؤمن بالحقائق القاسية فقط، فما الذي جنيناه؟"
سرد دائري
ينطلق السرد بشكل دائري ليبدأ مع الحكيم الصوفي، وينتهي معه وهو يحكي للبطل قصة مقام "الولية"، حين أنجبت جدة قبيلة "ميليبو اللارا" سلالة من الرجال، وطفلة واحدة هي "آمالو"، التي بدورها أنجبت أيضاً الذكور، وصارت القبيلة مهدّدة بالفناء إن لم تُرزق بطفلة ليستمر النسل، ثم تحصل المعجزة وتأتي ولادة الطفلة "كارتي" برعم أنثوي جديد ستطفو على التاريخ المجيد لقبيلة "ميليبو اللارا". لكن في يوم الولادة ذاته كان على "شانكو مينون"، سيد القبيلة وخال الطفلة، أن يتنبّأ بطالعها، وكانت النبوءة واضحة، لكن لا حائل من دون حدوثها. ويظل السؤال الذي يطرحه "شانكو مينون": "هل ستُعاد كتابة أقدارنا؟"الطفلة ترضع من أمها بنهم، وتكبر مع كل دقيقة تمرّ، والد الطفلة رحل بلا عودة منذ أن كانت "آمالو" حاملاً، قال: "أنا ذاهب إلى الحج، لا تسألي عني". يهاجم القرية وباء يشبه الجدري، وفي أسابيع قليلة، يكبر "شانكو مينون"، عمدة القبيلة عشرات السنين، وكان كلّما عاد من مراسم حرق جثة وجد في ردهة البيت جثة أخرى. أما "كارتي"، فإنها تكبر وتصبح رمزاً للشباب والجمال، لها جسد نوراني، وشجاعة تجعلها قادرة على التعامل مع مرض الجدري، ممّا يجعل الجميع يتعامل معها على أنها محمية من الآلهة بهجافاتي، حتى إنّها حين يأتي جباة الضرائب المكلّفين جمع المال، تجلس في غرفة الآلهة، يهاب الجباة رؤيتها ويمضون مبتعدين... تتداخل العلاقة في الرواية بين السماوي والدنيوي، بين الإنسان والإله، لم يكن سهلاً على "كارتي" هذا التمجيد الذي تُعامل به، كانت تراه عقاباً فقد آلمتها العزلة التي وضعوها فيها لأنها تحب الناس والطبيعة. تصف "كارتي" نفسها بأن "في قلبها حملا ًثقيلاً مثل الرصاص، تقول: "لا بد من أن يكون هذا هو الشعور الأبدي ذاته الذي تشعر به الآللهة التي تُعبد".
تحضر أيضاً بقوة العلاقة مع الكون والطبيعة، في طريقة الوصف كأن يقول: "تفاعلت القوى الكونية المسيطرة جميعها فأمطرت على بيت ميليبو اللارا شظايا مذنب متفجر. حملت نسائم الربيع المتراقصة الملايين من فيروسات الجدري. أليست المعجزة من عمل الشيطان والإله نفسه"، ثم ينتقل الراوي بسلاسة وخفة في السرد من حدث إلى آخر، كأن يُنهي فصل المرض الذي هاجم العائلة في الفصل التالي بجملة افتتاحية تقول: "انتهت الأوقات السيئة بشكل منظم، كما لو أن قوانين محبوكة جيداً تحكمها... اختفى الجدري من الحقول بعد أن قُضي عليه".
دلالة رمزية
يكشف الكاتب عبر تفاصيل شتى عن العلاقة مع الاستعمار الإنجليزي وأثره في المجتمع الهندي بكل فئاته، كما نرى مثلاً في موقف "شانكو مينون" حين يقرر التخلي عن منصبه لأنه يشعر بعدم القدرة على تحقيق العدالة،كما يتطرق إلى الحواجز الطبقية للفئات الاجتماعية في الهند. تتّخذ الأحداث منعطفاً آخر حين تقع "كارتي" في حب "ماموتي"، الشاب المسلم الذي يأتي لشراء محاصيل قبيلة "ميليبو اللارا"، تمضي معه إلى بلدته تاركةً خلفها كل تاريخها كفتاة مصطفاة من الآلهة بهجافاتي. تمضي "كارتي" في عالمها الجديد، غارقة في الحب والخوف والغربة في مناظرة تاريخية جميلة حدّ الألم. وتأخذ "كارتي" اسماً جديداً بعدما اعتنقت الإسلام هو "سيتارا". لكنّ الصراع بين المسلمين والهندوس لن يترك العاشقَيْن في حالهما حين يشيّد "ماموتي" معبداً في أرضه إرضاء لزوجته "كارتي"، ممّا يثير غضب الإمام المسلم "أفارموسليار". لنقرأ: "حاولنا أن ننسى سبب الخلاف، فقام الهندوس بزيارة بيوت المسلمين التي اعتادوا أن يأكلوا فيها حتى الشبع من وجبة البرياني التي تُقدم لهم، وفي المقابل زار المسلمون بيوت الهندوس الذين اعتادوا التهام حلوى الباياسام معهم. إلّا أنّ الغصة بقيت في قلوبنا، فلا يمكن استرجاع الدفء الذي انفلت مرة واحدة عندما تمزّقت العلاقات وتنافرت. كيف يمكن للأصدقاء أن يصبحوا غرباء".
تُجسّد فكرة "الولية" دلالة رمزية لكل المعتقدات الأزلية الراسخة في المجتمع الهندي، مع ما يكشف عن الخلافات الطائفية التي تتسبّب في تشظّي المجتمع وفرقته. ثم هناك التفاصيل الحياتية التي تدلّ على قناعات الأبطال، محرقة الجثث في ساحة البيت، قوى غامضة من العالم السماوي، الافتتان المغوي بالخطيئة بين "ماموني" و"أمير"، ثم الايمان والشغف بوجود "الولية": "لقد كنّا ضائعين في البحر وصلينا استعداداً للموت، فلم يكن ممكناً أن ينقذنا شيء، ثم جاءت هذه الولية". تنتهي الرواية مع جملة للحكيم الصوفي، تقول: "الإنسان ما زال يتعلّم الخير، ودائماً لديه الرغبة في أن يكون خيّراً، هذه الرغبة تظهر من وقت لآخر على شكل ولية، وحين ننسى تظهر لنا ولية أخرى".
الجدير بالذكر أن رواية "ما حكاه الصوفي" للكاتب الهندي كي بي رامانوني وهو أستاذ جامعي في جامعة مالايالام، وقد أصدر أربع روايات حازت جميعها على جوائز. وقام بترجمة الرواية عن المالايالامية ان جوبالاكريشناو آر إي آشر، وترجمتها عن الإنجليزية الكاتبة والمترجمة أزهار أحمد وهي كاتبة عمانية، تكتب القصة القصيرة والرواية ولها مساهمات عدّة في أدب الطفل والنشأة، وقام بالمراجعة ويلابوراتو عبد الكبير.
تنضم رواية "ما حكاه الصوفي" للكاتب كي بي رامانوني، إلى قائمة الروايات الهندية المعاصرة المترجمة إلى اللغة العربية، لتقف جنباً إلى جنب مع روايات أروندتي روي التي نالت جائزة البوكر عن رواية "رب الأشياء الصغيرة"، وأنيتا ديساي التي رُشحت للبوكر ثلاث مرات، وابنتها كيران ديساي التي نالت البوكر عن روايتها "ميراث الخسارة"، ورواية "مثل ترنيمة قناع هندي لحياة دستويفسكي" للكاتب الهندي بيرومبادافام سرىي دهاران، وغيرها قائمة طويلة من الروايات، التي مهما طالت سيظل ثمة قصور في معرفتنا لكّتاب شبه القارة الهندية، ليس بسبب اتساعها الجغرافي وحسب، بل أيضاً بسبب تعدّد اللغات التي يكتب بها الكتّاب، وتحتاج هذه اللغات المحلية أن يتم نقلها إلى اللغة الإنجليزية، ومنها إلى العربية.
تمتلك الرواية الهندية خلفية ثقافية واجتماعية شديدة التنوع والثراء والاختلاف أيضاً عن ما يقدمه أي نوع آخر من الروايات العالمية، وهذا يرجع إلى المنابع الفكرية التي تنحدر منها الثقافة الهندية في تلاقح معتقدات دينية تجمع بين الإله والإنسان والطبيعة. فمن الممكن رؤية تأثير الديانة الهندوسية والبوذية، في قناعات الأبطال وسلوكهم، إلى جانب تأثير الديانتين الإسلامية والمسيحية، إذ ينعكس تأثيرهما بشكل واضح حين يحصل تماس مباشر مع قناعات أخرى، كما سنرى في الرواية.
يستطيع قارئ رواية "ما حكاه الصوفي" (دار مسعى – لوتس عُمان، الكويت) أن يشم رائحة البخور وزيت جوز الهند تعبق مع خطوات السائرين نحو مقام "الولية"، بل أن يرى "السيدهارت" الذين يعيشون لقرون وهم يعبرون البحار ويتنقلون من مكان إلى آخر، وأن يسمع الابتهال للأنهار المقدسة والبحار السبعة، وأن يحس بالأحداث التي تسير بتناغم مع حركة الكواكب، وأن لا يندهش من حضور الآلهة بهجافاتي مثل شبح غير مرئي يتحرك في البيت من دون توقف. يمضي البطل السارد، وهو شاب هندوسي لطالما سافر بحثاً عن أساطير وعادات وتقاليد الناس في الهند، نحو مقام "الولية"، وهناك يلتقي مع رجلٍ عجوزٍ، حكيم مؤرخ للكون يخمّن أنه يمتلك معرفة مدهشة ومتفرّدة، لذلك يجلس معه مستسلماً لما سيحكيه. تبدأ الرواية بهذه الفقرة الكاشفة: "سئمنا نحن أبناء المنطقة الحقائق البحتة والعقلانية، لذلك حين سمعنا بظهور مقام على شاطئنا ابتهجنا جداً. إن كان ذلك خرافة فليكن، تعلّمنا منذ سنوات طويلة أن نؤمن بالحقائق القاسية فقط، فما الذي جنيناه؟"
سرد دائري
ينطلق السرد بشكل دائري ليبدأ مع الحكيم الصوفي، وينتهي معه وهو يحكي للبطل قصة مقام "الولية"، حين أنجبت جدة قبيلة "ميليبو اللارا" سلالة من الرجال، وطفلة واحدة هي "آمالو"، التي بدورها أنجبت أيضاً الذكور، وصارت القبيلة مهدّدة بالفناء إن لم تُرزق بطفلة ليستمر النسل، ثم تحصل المعجزة وتأتي ولادة الطفلة "كارتي" برعم أنثوي جديد ستطفو على التاريخ المجيد لقبيلة "ميليبو اللارا". لكن في يوم الولادة ذاته كان على "شانكو مينون"، سيد القبيلة وخال الطفلة، أن يتنبّأ بطالعها، وكانت النبوءة واضحة، لكن لا حائل من دون حدوثها. ويظل السؤال الذي يطرحه "شانكو مينون": "هل ستُعاد كتابة أقدارنا؟"الطفلة ترضع من أمها بنهم، وتكبر مع كل دقيقة تمرّ، والد الطفلة رحل بلا عودة منذ أن كانت "آمالو" حاملاً، قال: "أنا ذاهب إلى الحج، لا تسألي عني". يهاجم القرية وباء يشبه الجدري، وفي أسابيع قليلة، يكبر "شانكو مينون"، عمدة القبيلة عشرات السنين، وكان كلّما عاد من مراسم حرق جثة وجد في ردهة البيت جثة أخرى. أما "كارتي"، فإنها تكبر وتصبح رمزاً للشباب والجمال، لها جسد نوراني، وشجاعة تجعلها قادرة على التعامل مع مرض الجدري، ممّا يجعل الجميع يتعامل معها على أنها محمية من الآلهة بهجافاتي، حتى إنّها حين يأتي جباة الضرائب المكلّفين جمع المال، تجلس في غرفة الآلهة، يهاب الجباة رؤيتها ويمضون مبتعدين... تتداخل العلاقة في الرواية بين السماوي والدنيوي، بين الإنسان والإله، لم يكن سهلاً على "كارتي" هذا التمجيد الذي تُعامل به، كانت تراه عقاباً فقد آلمتها العزلة التي وضعوها فيها لأنها تحب الناس والطبيعة. تصف "كارتي" نفسها بأن "في قلبها حملا ًثقيلاً مثل الرصاص، تقول: "لا بد من أن يكون هذا هو الشعور الأبدي ذاته الذي تشعر به الآللهة التي تُعبد".
تحضر أيضاً بقوة العلاقة مع الكون والطبيعة، في طريقة الوصف كأن يقول: "تفاعلت القوى الكونية المسيطرة جميعها فأمطرت على بيت ميليبو اللارا شظايا مذنب متفجر. حملت نسائم الربيع المتراقصة الملايين من فيروسات الجدري. أليست المعجزة من عمل الشيطان والإله نفسه"، ثم ينتقل الراوي بسلاسة وخفة في السرد من حدث إلى آخر، كأن يُنهي فصل المرض الذي هاجم العائلة في الفصل التالي بجملة افتتاحية تقول: "انتهت الأوقات السيئة بشكل منظم، كما لو أن قوانين محبوكة جيداً تحكمها... اختفى الجدري من الحقول بعد أن قُضي عليه".
دلالة رمزية
يكشف الكاتب عبر تفاصيل شتى عن العلاقة مع الاستعمار الإنجليزي وأثره في المجتمع الهندي بكل فئاته، كما نرى مثلاً في موقف "شانكو مينون" حين يقرر التخلي عن منصبه لأنه يشعر بعدم القدرة على تحقيق العدالة،كما يتطرق إلى الحواجز الطبقية للفئات الاجتماعية في الهند. تتّخذ الأحداث منعطفاً آخر حين تقع "كارتي" في حب "ماموتي"، الشاب المسلم الذي يأتي لشراء محاصيل قبيلة "ميليبو اللارا"، تمضي معه إلى بلدته تاركةً خلفها كل تاريخها كفتاة مصطفاة من الآلهة بهجافاتي. تمضي "كارتي" في عالمها الجديد، غارقة في الحب والخوف والغربة في مناظرة تاريخية جميلة حدّ الألم. وتأخذ "كارتي" اسماً جديداً بعدما اعتنقت الإسلام هو "سيتارا". لكنّ الصراع بين المسلمين والهندوس لن يترك العاشقَيْن في حالهما حين يشيّد "ماموتي" معبداً في أرضه إرضاء لزوجته "كارتي"، ممّا يثير غضب الإمام المسلم "أفارموسليار". لنقرأ: "حاولنا أن ننسى سبب الخلاف، فقام الهندوس بزيارة بيوت المسلمين التي اعتادوا أن يأكلوا فيها حتى الشبع من وجبة البرياني التي تُقدم لهم، وفي المقابل زار المسلمون بيوت الهندوس الذين اعتادوا التهام حلوى الباياسام معهم. إلّا أنّ الغصة بقيت في قلوبنا، فلا يمكن استرجاع الدفء الذي انفلت مرة واحدة عندما تمزّقت العلاقات وتنافرت. كيف يمكن للأصدقاء أن يصبحوا غرباء".
تُجسّد فكرة "الولية" دلالة رمزية لكل المعتقدات الأزلية الراسخة في المجتمع الهندي، مع ما يكشف عن الخلافات الطائفية التي تتسبّب في تشظّي المجتمع وفرقته. ثم هناك التفاصيل الحياتية التي تدلّ على قناعات الأبطال، محرقة الجثث في ساحة البيت، قوى غامضة من العالم السماوي، الافتتان المغوي بالخطيئة بين "ماموني" و"أمير"، ثم الايمان والشغف بوجود "الولية": "لقد كنّا ضائعين في البحر وصلينا استعداداً للموت، فلم يكن ممكناً أن ينقذنا شيء، ثم جاءت هذه الولية". تنتهي الرواية مع جملة للحكيم الصوفي، تقول: "الإنسان ما زال يتعلّم الخير، ودائماً لديه الرغبة في أن يكون خيّراً، هذه الرغبة تظهر من وقت لآخر على شكل ولية، وحين ننسى تظهر لنا ولية أخرى".
الجدير بالذكر أن رواية "ما حكاه الصوفي" للكاتب الهندي كي بي رامانوني وهو أستاذ جامعي في جامعة مالايالام، وقد أصدر أربع روايات حازت جميعها على جوائز. وقام بترجمة الرواية عن المالايالامية ان جوبالاكريشناو آر إي آشر، وترجمتها عن الإنجليزية الكاتبة والمترجمة أزهار أحمد وهي كاتبة عمانية، تكتب القصة القصيرة والرواية ولها مساهمات عدّة في أدب الطفل والنشأة، وقام بالمراجعة ويلابوراتو عبد الكبير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.