التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    الإسماعيلية: إغلاق مزرعة سمكية مخالفة بمركز القصاصين (صور)    نشرة التوك شو| انخفاض سعر الصرف.. والغرف التجارية تكشف موعد مبادرة خفض الأسعار..    الغرف التجارية: مبادرة خفض الأسعار تشمل كل القطاعات.. وهدفها إحداث تأثير سريع على حياة المواطن    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    الوضع في الأراضي الفلسطينية وسوريا ولبنان محور مباحثات مسؤول روسي وأمين الأمم المتحدة    طبيب الزمالك السابق: إدارة النادي طالبتني بإقناع زيزو بتجديد عقده    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    المصري يواجه هلال مساكن فى ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    الأهلي يرفض عرضين من فرنسا والسعودية لبيع محمد عبد الله    مدير أمن قنا الجديد: ملاحقة العناصر الإجرامية وضبط أوكار المخدرات والأسلحة أهم أولوياتي    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    3 مصابين فى تصادم «توكتوك» بطريق السادات في أسوان    بعد 20 سنة غيبوبة.. والد الأمير النائم يكشف تفاصيل لأول مرة (فيديو)    روسيا: تسجيل 6 هزات أرضية جديدة في شبه جزيرة كامتشاتكا    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: عملية التجويع لأهالينا فى فلسطين جريمة حرب    أهم الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. الاتحاد الأوروبى وإيطاليا يدعمان السلطة الفلسطينية ب23 مليون يورو.. وفلسطين تدعو استونيا وليتوانيا وكرواتيا للاعتراف بها.. ومباحثات روسية سورية غدا بموسكو    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب تنخفض 720 للجنيه اليوم الخميس بالصاغة    سعر البطاطس والطماطم والخضار بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 31 يوليو 2025    حدث ليلًا| مصر تسقط أطنانا من المساعدات على غزة وتوضيح حكومي بشأن الآثار المنهوبة    وزير الرياضة يتفقد نادي السيارات والرحلات المصري بالعلمين    لاعب أتلتيكو مدريد ينتقل إلى جيرونا    مصر ترفع رصيدها إلى 57 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. لماذا يجب على الطلاب تسجيل 75 رغبة؟    25 صورة من تكريم "الجبهة الوطنية" أوائل الثانوية العامة    الخزانة الأمريكية: شبكة شحن خاضعة للعقوبات تدر مليارات الدولارات لصالح الحكومة الإيرانية    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    «أمطار في عز الحر» : بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    ب 3 أغنيات.. حمزة نمرة يطلق الدفعة الثانية من أغنيات ألبومه الجديد «قرار شخصي» (فيديو)    الوجه الآخر للراحل لطفى لبيب.. تزوج «صعيدية» ورفض عمل بناته بالتمثيل    مونيكا حنا: علم المصريات نشأ فى سياق استعمارى    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    هدى الإتربي بفستان قصير ومي عمر بملابس البحر.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| وفاة نجم وعزاء شقيق مخرج شهير والعرض الخاص ل"روكي الغلابة"    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    يحييه إيهاب توفيق ومحمد فؤاد.. تفاصيل حفل «كاسيت 90» ب موسم جدة 2025    هل تتأثر مصر بزلزال روسيا العنيف، البحوث الفلكية تحسمها وتوجه رسالة إلى المواطنين    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ننشر أسماء المصابين ال4 في «تصادم ملاكي بتوك توك» على طريق المطرية بورسعيد    طريقة عمل المهلبية بالشيكولاتة، حلوى باردة تسعد صغارك فى الصيف    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    الشيخ خالد الجندي: الرسول الكريم ضرب أعظم الأمثلة في تبسيط الدين على الناس    وزارة العمل تبدأ اختبارات المرشحين للعمل في الأردن.. بالصور    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    هبوط أرضي مفاجئ في المنوفية يكشف كسرًا بخط الصرف الصحي -صور    جامعة بنها الأهلية تختتم المدرسة الصيفية لجامعة نانجينج للطب الصيني    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    استقرار سعر الريال السعودي في بداية تعاملات اليوم 30 يوليو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحجر الصحي" للوكليزيو... تمييز في جزر اللجوء
نشر في صوت البلد يوم 08 - 04 - 2020

قبل سنوات عديدة من فوزه بجائزة نوبل للآداب، كانت لغوستاف لوكليزيو إطلالة هامة على الحياة الثقافية العالمية من خلال واحدة من رواياته الأساسية التي يُستعاد ذكرها اليوم باعتبارها تجمع موضوعين يشغلان العالم من أقصاه وأدناه، أحدهما قديم لكن كل مناسبة تجيء لتجدّده، والثاني جديد لكن له سوابق مؤلمة. ونتحدث هنا من ناحية، عن العنصرية التي كثيرًا ما شغلت هذا الكاتب الفرنسي الكبير، ومن ناحية ثانية عن الوباء وفعله الاجتماعي الذي لئن تجدد الاهتمام به في زمننا هذا لمناسبة انتشار وباء كورونا، فإنه لم يفته أن يشغل كتّابا متبصّرين عادوا إلى تاريخه وتأثيراته الاجتماعية حتى من قبل حلوله مع أواخر العام الفائت واستفحاله يومًا بعد يوم في هذه الحقبة الكأداء من تاريخ البشرية. ومنهم لوكليزيو الذي عرف كيف يجمع الموضوعين معًا وبقوة لافتة في روايته "الحجر الصحي" التي صدرت عام 1995 يوم لم يكن ليخطر في بال أحد أن زمنًا قريبًا سوف يجيء تكاد تلقي البشرية فيه أسلحتها كلها أمام وباء مفترس، لم يعد في مقدورها مجابهته إلا بالأمل.
الوباء... مناسبة وذريعة
بالنسبة إلى لوكليزيو وروايته هذه التي تلفت النظر بحجمها الكبير، كان الوباء آتيًا لا محالة وإن بشكل يختلف عما ستكون الحال عليه بالفعل بعد ربع قرن من صدور الرواية، ومع هذا يمكن الافتراض بأن الكاتب إنما استخدم الوباء، كما يفعل كثر من الكتّاب، على سبيل الكناية كي يطرح من خلاله عددًا من المعضلات الإنسانية التي تقضّ باله، وفي مقدمتها قضية العنصرية التي لطالما عالجها في أعمال سابقة له وسيواصل معالجتها في أعمال لاحقة بالطبع، وهو الذي يعتبر نفسه ابناً لجزيرة موريشيوس التي عاش فيها ردحاً من طفولته، بقدر ما هو ابن لفرنسا موطن جدوده الأصلي، وابن للعالم موطنه الأكثر فساحة.
مهما يكن من أمر فإن لوكليزيو يكتب هنا استنادًا إلى ما يدنو من سيرته الذاتية أو بالأحرى من سيرة جدود له كما يخبرنا بنفسه. وتلك ممارسة عمد إليها الكاتب في عددٍ من أعماله ولا سيما في "أونيتشا" و"الأفريقي" وغيرهما. إذ ها هو هنا ينقل إلينا ما رُوي له عائليًّا ولم يبرح خياله، على شكل حكاية تتعلق بسفر الأخوين ليون وجاك، وأولهما مستوحى من شخصية أليكسي جد كاتبنا، على متن السفينة "آفا" باتجاه موريشيوس. ولكن فيما هما على مقربة من شاطيء تلك الجزيرة يُعلَم الربان أن ثمة وباء "الجدري" ينتشر الآن ويتوجب على السفينة أن ترسو في جزيرة صغيرة غير بعيدة عن ذلك الشاطيء كي تبقى في حجر صحي غير محدّد زمنيًّا بالنظر إلى أن راكبين صعدا السفينة خلال وقفة غير متوقعة في زنجبار، كانت قد ظهرت عليهما علامات العدوى. وبالتالي فإن الحكاية تصبح حكاية الإقامة في تلك الجزيرة التي يُحجر فيها المسافرون من أوروبيين وهنود على وجه الخصوص ريثما يتم التيقن من الوضع الصحي لكل الركاب.
الفرز العنصري والحب البريء
غير أن المسألة لن تكون على مثل تلك البساطة خصوصًا أننا نعيش هنا في الزمن الكولونيالي الذي يفترض أن كل آسيوي أو أفريقي إما مصاب أو عرضة للإصابة، وأن كل أوروبي سليم حتى يحتك ب"الشعوب الأدنى". والحقيقة أن ذلك ما يصبح علة الموضوع الأساس ل"الحجر الصحي" على جزيرة بلات البركانية الجرداء وسط المحيط الهندي. ناهيك بأنه يصبح أيضًا حكاية حب، هو ذاك الذي جمع بين جد الكاتب الأوروبي وجدته المنتمية إلى المهاجرين الهنود الذين يصلون إلى موريشيوس للعمل.
من الواضح هنا من خلال الحكاية التي يرويها ليون جد الكاتب بصيغة المتكلم، أن الحجر سوف يطول، لكن الأدهى منه أن الجزيرة الصغيرة التي سيبقى فيها الركاب منتظرين سفينة إنقاذ لا يعرف أحد متى ستصل، قُسمت إلى حيين يُحجز الهنود في واحد منهما والأوروبيون في الآخر من دون أية إمكانية للتواصل بين الفئتين. ويلاحظ جاك "أننا مسجونون هنا" لكن ليون الذي يكون قد تعرف على الحسناء سوريافاتي وأغرم بها، لن يرضى بأن "يُسجن" ولا بأن يُحرم من اللقاء مع حبيبته بالفصل العنصري، ومن هنا ستُخصص صفحات عديدة لمغامراته في التسلل بين الحيّين وتعبيره عن غضبه ومشاكسته ضد الاستعمار الذي يصرّ على أن ثمة أكثر من طريقة للتعامل مع البشر تبعًا للونهم وعرقهم. وبهذا، بأكثر مما بالوباء نفسه، يُدخِل لوكليزيو هذه الحكاية في عوالمه المعهودة.
قسوة العالم وبراءة الطفولة
في خطابه الذي ألقاه في ستوكهولم يوم تسلمه جائزة "نوبل" للآداب بعد فوزه بها بشهر تقريبًا، قال لوكليزيو كل ما يمكنه أن يقول عن أدبه، عن أحوال العالم، عن العنصرية عن الأدب، عن الأطفال وكذلك عن لبنان. قد يكون كثر فوجئوا بما تضمنه خطاب صاحب "صحراء"، لكن الذين يعرفون أدبه، لم يفاجَأوا.
فهو لم يتوان في أعماله كلها عن التنديد بالعنصرية، مستخدمًا غالبًا براءة الصغار للحديث عن شجاعة التصدي. فمن "آدم بولو" بطل "المحضر" الذي يعيش في احتجاج دائم على قسوة العالم، إلى "هوغان" بطل "كتاب الهرب" الذي يعيش ترحاله حاملاً آلامه وأحزانه واحتجاجاته، متنقلاً عبر العالم، مرورًا ب"باتريس ب" في رواية "الحرب" وقد أرعبه عنف المجتمعات الحديثة، و"بوغو" الأخرس، ذلك الطفل الذي يرفض الكلام في رواية "العمالقة" لأن الكبار ما عادوا يعرفون شيئاً غير إعطاء الأوامر.
عبر هذه الشخصيات القلقة، البريئة، الطفلة حتى ولو كان بعضها قد تجاوز سن الطفولة، يتنقل لوكليزيو عبر صفحات رواياته العديدة، ما جعل منه واحداً من أهم أدباء الجيل الجديد في الرواية الفرنسية، مع أنه حافظ دائمًا على نوع من الغموض يحيط بشخصيته، وعلى شيء من الصمت يطبع عمله وانكبابه على ذلك العمل. ولقد وصل لوكليزيو إلى ذروة تألقه في نصين صدرا قبل سنوات، أحدهما رواية عن تاريخ الاقتلاع الفلسطيني من خلال الحياة اليومية في مخيم "نور الشمس"، منظورًا إليها بعيني الطفلة نجمة التي أفقدها الاقتلاع والرمي في المخيم صباها، لكنه لم يفقدها براءتها. أما الثاني فعبارة عن كتاب عن إبادة الأوروبيين للحلم المكسيكي وقتلهم لحضارة عريقة، ولألوف الأطفال (الأطفال دائماً). وقد أصدر لوكليزيو بعد ذلك مجموعة بعنوان "ربيع ونصوص أخرى" تعود بدورها إلى عالم الأطفال، وتتوقف على وجه الخصوص عند طفولة المهاجرين العرب في فرنسا، وعند أحلامهم الخائبة.
حتى الحضارات تُستشهد
الطفولة، والمصير الإنساني، والظلم الذي يتفنن عالم الكبار في ابتكار ضروبه، وفوق هذا كله عالم الحضارات المستشهدة والعوالم الثقافية التي ضربتها المركزية الأوروبية من دون رحمة، عالم أسئلة القلق والموت والخيبة والهرب. تلكم هي الموضوعات الرئيسة التي طبعت دائماً كتابة جان ماري غوستاف لوكليزيو، المتمرد على الحداثة الذي جعل دائمًا من شخصيات أعماله صورة لقلقه وغضبه، وهو الفرنسي المتحدر من أم فرنسية وأب ولد في جزيرة موريشيوس، وهو من أصل بريتاني، فرنسي.
ولوكليزيو نفسه وُلد في نيس عام 1940 وعاش طفولته متنقلاً، وأمضى ردحًا منها في أفريقيا، حيث فتح عينيه على العالم، ثم لم يكف بعد ذلك عن الترحال، إنما من دون أن ينسى سنته الأفريقية، من دون أن ينسى أفريقيا التي تسللت إلى داخل جلده ووعيه، ولم يكف بعد ذلك عن الحلم بها، وعن الدنو منها في رواياته، ولا سيما في رواية "صحراء" (1980) التي تروي لنا حكاية "للا" ذات الجدود الطوارق، مقاتلي الصحراء، والتي تعيش الآن في بيوت التنك في ضواحي مرسيليا، لكنها تعيش في عجز دائم عن نسيان تاريخها العريق.
من مثل هذا الربط بين الناس، ماضيهم وحاضرهم، بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم، صنع لوكليزيو ذلك الأدب الإنساني الكبير الذي لا شك أن إنسانيته عرفت كيف تصل إلى ذروتها في رواية "الحجر الصحي" التي ستبدو لنا إن قرأناها اليوم وكأنها كُتبت في أيامنا هذه لتتحدث عنها.
قبل سنوات عديدة من فوزه بجائزة نوبل للآداب، كانت لغوستاف لوكليزيو إطلالة هامة على الحياة الثقافية العالمية من خلال واحدة من رواياته الأساسية التي يُستعاد ذكرها اليوم باعتبارها تجمع موضوعين يشغلان العالم من أقصاه وأدناه، أحدهما قديم لكن كل مناسبة تجيء لتجدّده، والثاني جديد لكن له سوابق مؤلمة. ونتحدث هنا من ناحية، عن العنصرية التي كثيرًا ما شغلت هذا الكاتب الفرنسي الكبير، ومن ناحية ثانية عن الوباء وفعله الاجتماعي الذي لئن تجدد الاهتمام به في زمننا هذا لمناسبة انتشار وباء كورونا، فإنه لم يفته أن يشغل كتّابا متبصّرين عادوا إلى تاريخه وتأثيراته الاجتماعية حتى من قبل حلوله مع أواخر العام الفائت واستفحاله يومًا بعد يوم في هذه الحقبة الكأداء من تاريخ البشرية. ومنهم لوكليزيو الذي عرف كيف يجمع الموضوعين معًا وبقوة لافتة في روايته "الحجر الصحي" التي صدرت عام 1995 يوم لم يكن ليخطر في بال أحد أن زمنًا قريبًا سوف يجيء تكاد تلقي البشرية فيه أسلحتها كلها أمام وباء مفترس، لم يعد في مقدورها مجابهته إلا بالأمل.
الوباء... مناسبة وذريعة
بالنسبة إلى لوكليزيو وروايته هذه التي تلفت النظر بحجمها الكبير، كان الوباء آتيًا لا محالة وإن بشكل يختلف عما ستكون الحال عليه بالفعل بعد ربع قرن من صدور الرواية، ومع هذا يمكن الافتراض بأن الكاتب إنما استخدم الوباء، كما يفعل كثر من الكتّاب، على سبيل الكناية كي يطرح من خلاله عددًا من المعضلات الإنسانية التي تقضّ باله، وفي مقدمتها قضية العنصرية التي لطالما عالجها في أعمال سابقة له وسيواصل معالجتها في أعمال لاحقة بالطبع، وهو الذي يعتبر نفسه ابناً لجزيرة موريشيوس التي عاش فيها ردحاً من طفولته، بقدر ما هو ابن لفرنسا موطن جدوده الأصلي، وابن للعالم موطنه الأكثر فساحة.
مهما يكن من أمر فإن لوكليزيو يكتب هنا استنادًا إلى ما يدنو من سيرته الذاتية أو بالأحرى من سيرة جدود له كما يخبرنا بنفسه. وتلك ممارسة عمد إليها الكاتب في عددٍ من أعماله ولا سيما في "أونيتشا" و"الأفريقي" وغيرهما. إذ ها هو هنا ينقل إلينا ما رُوي له عائليًّا ولم يبرح خياله، على شكل حكاية تتعلق بسفر الأخوين ليون وجاك، وأولهما مستوحى من شخصية أليكسي جد كاتبنا، على متن السفينة "آفا" باتجاه موريشيوس. ولكن فيما هما على مقربة من شاطيء تلك الجزيرة يُعلَم الربان أن ثمة وباء "الجدري" ينتشر الآن ويتوجب على السفينة أن ترسو في جزيرة صغيرة غير بعيدة عن ذلك الشاطيء كي تبقى في حجر صحي غير محدّد زمنيًّا بالنظر إلى أن راكبين صعدا السفينة خلال وقفة غير متوقعة في زنجبار، كانت قد ظهرت عليهما علامات العدوى. وبالتالي فإن الحكاية تصبح حكاية الإقامة في تلك الجزيرة التي يُحجر فيها المسافرون من أوروبيين وهنود على وجه الخصوص ريثما يتم التيقن من الوضع الصحي لكل الركاب.
الفرز العنصري والحب البريء
غير أن المسألة لن تكون على مثل تلك البساطة خصوصًا أننا نعيش هنا في الزمن الكولونيالي الذي يفترض أن كل آسيوي أو أفريقي إما مصاب أو عرضة للإصابة، وأن كل أوروبي سليم حتى يحتك ب"الشعوب الأدنى". والحقيقة أن ذلك ما يصبح علة الموضوع الأساس ل"الحجر الصحي" على جزيرة بلات البركانية الجرداء وسط المحيط الهندي. ناهيك بأنه يصبح أيضًا حكاية حب، هو ذاك الذي جمع بين جد الكاتب الأوروبي وجدته المنتمية إلى المهاجرين الهنود الذين يصلون إلى موريشيوس للعمل.
من الواضح هنا من خلال الحكاية التي يرويها ليون جد الكاتب بصيغة المتكلم، أن الحجر سوف يطول، لكن الأدهى منه أن الجزيرة الصغيرة التي سيبقى فيها الركاب منتظرين سفينة إنقاذ لا يعرف أحد متى ستصل، قُسمت إلى حيين يُحجز الهنود في واحد منهما والأوروبيون في الآخر من دون أية إمكانية للتواصل بين الفئتين. ويلاحظ جاك "أننا مسجونون هنا" لكن ليون الذي يكون قد تعرف على الحسناء سوريافاتي وأغرم بها، لن يرضى بأن "يُسجن" ولا بأن يُحرم من اللقاء مع حبيبته بالفصل العنصري، ومن هنا ستُخصص صفحات عديدة لمغامراته في التسلل بين الحيّين وتعبيره عن غضبه ومشاكسته ضد الاستعمار الذي يصرّ على أن ثمة أكثر من طريقة للتعامل مع البشر تبعًا للونهم وعرقهم. وبهذا، بأكثر مما بالوباء نفسه، يُدخِل لوكليزيو هذه الحكاية في عوالمه المعهودة.
قسوة العالم وبراءة الطفولة
في خطابه الذي ألقاه في ستوكهولم يوم تسلمه جائزة "نوبل" للآداب بعد فوزه بها بشهر تقريبًا، قال لوكليزيو كل ما يمكنه أن يقول عن أدبه، عن أحوال العالم، عن العنصرية عن الأدب، عن الأطفال وكذلك عن لبنان. قد يكون كثر فوجئوا بما تضمنه خطاب صاحب "صحراء"، لكن الذين يعرفون أدبه، لم يفاجَأوا.
فهو لم يتوان في أعماله كلها عن التنديد بالعنصرية، مستخدمًا غالبًا براءة الصغار للحديث عن شجاعة التصدي. فمن "آدم بولو" بطل "المحضر" الذي يعيش في احتجاج دائم على قسوة العالم، إلى "هوغان" بطل "كتاب الهرب" الذي يعيش ترحاله حاملاً آلامه وأحزانه واحتجاجاته، متنقلاً عبر العالم، مرورًا ب"باتريس ب" في رواية "الحرب" وقد أرعبه عنف المجتمعات الحديثة، و"بوغو" الأخرس، ذلك الطفل الذي يرفض الكلام في رواية "العمالقة" لأن الكبار ما عادوا يعرفون شيئاً غير إعطاء الأوامر.
عبر هذه الشخصيات القلقة، البريئة، الطفلة حتى ولو كان بعضها قد تجاوز سن الطفولة، يتنقل لوكليزيو عبر صفحات رواياته العديدة، ما جعل منه واحداً من أهم أدباء الجيل الجديد في الرواية الفرنسية، مع أنه حافظ دائمًا على نوع من الغموض يحيط بشخصيته، وعلى شيء من الصمت يطبع عمله وانكبابه على ذلك العمل. ولقد وصل لوكليزيو إلى ذروة تألقه في نصين صدرا قبل سنوات، أحدهما رواية عن تاريخ الاقتلاع الفلسطيني من خلال الحياة اليومية في مخيم "نور الشمس"، منظورًا إليها بعيني الطفلة نجمة التي أفقدها الاقتلاع والرمي في المخيم صباها، لكنه لم يفقدها براءتها. أما الثاني فعبارة عن كتاب عن إبادة الأوروبيين للحلم المكسيكي وقتلهم لحضارة عريقة، ولألوف الأطفال (الأطفال دائماً). وقد أصدر لوكليزيو بعد ذلك مجموعة بعنوان "ربيع ونصوص أخرى" تعود بدورها إلى عالم الأطفال، وتتوقف على وجه الخصوص عند طفولة المهاجرين العرب في فرنسا، وعند أحلامهم الخائبة.
حتى الحضارات تُستشهد
الطفولة، والمصير الإنساني، والظلم الذي يتفنن عالم الكبار في ابتكار ضروبه، وفوق هذا كله عالم الحضارات المستشهدة والعوالم الثقافية التي ضربتها المركزية الأوروبية من دون رحمة، عالم أسئلة القلق والموت والخيبة والهرب. تلكم هي الموضوعات الرئيسة التي طبعت دائماً كتابة جان ماري غوستاف لوكليزيو، المتمرد على الحداثة الذي جعل دائمًا من شخصيات أعماله صورة لقلقه وغضبه، وهو الفرنسي المتحدر من أم فرنسية وأب ولد في جزيرة موريشيوس، وهو من أصل بريتاني، فرنسي.
ولوكليزيو نفسه وُلد في نيس عام 1940 وعاش طفولته متنقلاً، وأمضى ردحًا منها في أفريقيا، حيث فتح عينيه على العالم، ثم لم يكف بعد ذلك عن الترحال، إنما من دون أن ينسى سنته الأفريقية، من دون أن ينسى أفريقيا التي تسللت إلى داخل جلده ووعيه، ولم يكف بعد ذلك عن الحلم بها، وعن الدنو منها في رواياته، ولا سيما في رواية "صحراء" (1980) التي تروي لنا حكاية "للا" ذات الجدود الطوارق، مقاتلي الصحراء، والتي تعيش الآن في بيوت التنك في ضواحي مرسيليا، لكنها تعيش في عجز دائم عن نسيان تاريخها العريق.
من مثل هذا الربط بين الناس، ماضيهم وحاضرهم، بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم، صنع لوكليزيو ذلك الأدب الإنساني الكبير الذي لا شك أن إنسانيته عرفت كيف تصل إلى ذروتها في رواية "الحجر الصحي" التي ستبدو لنا إن قرأناها اليوم وكأنها كُتبت في أيامنا هذه لتتحدث عنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.