محافظ القاهرة: جميع المجازر الحكومية تعمل على مدار 24 ساعة    أسعار العملات الأجنبية في ختام تعاملات أول أيام عيد الأضحى 2024    الطريق للسلام يحتاج مشاركة جميع الأطراف، البيان الختامي لقمة سويسرا بشأن أوكرانيا    أخبار الأهلي : قائمة إصابات الأهلي قبل لقاء الاتحاد السكندري    الأرصاد: انخفاض تدريجي في درجات الحرارة والطقس مائل للحرارة ليلا    بالصور| تعرف على ضيوف شرف أفلام عيد الأضحى 2024    الكوليستيرول والدهون الثلاثية- أيهما أكثر خطورة؟    يورو 2024| التعادل بهدف يحسم الشوط الأول من مباراة بولندا وهولندا    الشرطة الألمانية تطلق الرصاص على شخص يهاجم المارة بفأس فى مدينة هامبورج    شكوكو ومديحة يسري وصباح.. تعرف على طقوس نجوم زمن الجميل في عيد الأضحى (صور)    «صامدون رغم القصف».. أطفال غزة يحتفلون بعيد الأضحى وسط الأنقاض    دار الإفتاء توضح حكم التكبير في أيام التشريق عند المالكية    أعمال يوم النفر الأول.. شعائر مباركة ووداع للديار المقدسة    النائب أيمن محسب: حياة كريمة رسمت البهجة فى قلوب الأسر الفقيرة بعيد الأضحى    الرياضة: 6 آلاف مشروع ومبادرة شبابية في جميع المحافظات    تدشين كنيسة «الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا» بنزلة سعيد بطما    يقام ثاني أيام العيد.. حفل أنغام بالكويت يرفع شعار "كامل العدد"    مباحث البحيرة تكثف جهودها لكشف غموض العثور على جثة شاب في ترعة بالبحيرة    بمناسبة عيد الأضحى المبارك.. الداخلية تقيم إحتفالية لنزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل وتفرج عن 4199 نزيل ممن شملهم العفو (صور)    موسكو تحرر بلدة زاجورنويه.. وكييف تتصدى لهجمات روسية    مجازاة مفتشي ومشرفي التغذية في مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للتقصير    شروط القبول في برنامج إعداد معلمي تكنولوجيا والتعلم الرقمي بجامعة القاهرة    ضبط 290 قضية مخدرات خلال 24 ساعة    الرى: عمل التدابير اللازمة لضمان استقرار مناسيب المياه بترعة النوبارية    "قصور الثقافة": فعاليات مكثفة للاحتفال بعيد الأضحى    طريقة حفظ لحوم الأضاحي وتجنب تلفها    قوات الاحتلال تطلق قنابل حارقة تجاه الأحراش في بلدة الناقورة جنوب لبنان    مشايخ القبائل والعواقل والفلسطينيين يهنئون محافظ شمال سيناء بعيد الأضحى المبارك    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    «التخطيط»: تنفيذ 361 مشروعا تنمويا في الغربية بتكلفة 3.6 مليار جنيه    رونالدينيو: أشجع البرازيل فى كوبا أمريكا واللاعبون الشباب يحتاجون للدعم    "ابني متظلمش".. مدرب الأهلي السابق يوجه رسالة للشناوي ويحذر من شوبير    القبض على عصابة الشرطة المزيفة في الشيخ زايد    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    ريهام سعيد: «محمد هنيدي اتقدملي ووالدتي رفضته لهذا السبب»    شاعر القبيلة مات والبرج العاجى سقط    محادثات أمريكية يابانية بشأن سبل تعزيز الردع الموسع    كرة سلة.. قائمة منتخب مصر في التصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس 2024    محمد صلاح يتسبب في أزمة بين اتحاد جدة والنصر    اليوم.. أمينة الفتوى بدار الإفتاء تتحدث عن آداب عيد الأضحى على قناة الناس    95.29% النسبة العامة للنجاح بالفرقة الرابعة بالكلية المصرية الصينية بجامعة القناة    محافظ كفر الشيخ يشارك أطفال مستشفى الأورام فرحتهم بعيد الأضحى    وزير الإسكان: زراعة أكثر من مليون متر مربع مسطحات خضراء بدمياط الجديدة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    وزيرة التضامن توجه برفع درجة الاستعداد القصوى بمناسبة عيد الأضحى    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    بالصور.. اصطفاف الأطفال والكبار أمام محلات الجزارة لشراء اللحوم ومشاهدة الأضحية    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    أخبار الأهلي: لجنة التخطيط تفاجئ كولر بسبب ديانج    ارتفاع تأخيرات القطارات على معظم الخطوط في أول أيام عيد الأضحى    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    لواء إسرائيلي متقاعد: أي قرار لنتنياهو بمهاجمة حزب الله سيجلب محرقة علينا    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    توزيع الهدايا على الأطفال بساحات كفر الشيخ في صلاة عيد الأضحى    قبلها بساعات.. تعرف على حُكم صلاة العيد وما وقتها وكيفية أدائها    يورو 2024 – كييزا: استرجعت نهائي البطولة الماضية.. والهدف المبكر صدمنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحجر الصحي" للوكليزيو... تمييز في جزر اللجوء
نشر في صوت البلد يوم 08 - 04 - 2020

قبل سنوات عديدة من فوزه بجائزة نوبل للآداب، كانت لغوستاف لوكليزيو إطلالة هامة على الحياة الثقافية العالمية من خلال واحدة من رواياته الأساسية التي يُستعاد ذكرها اليوم باعتبارها تجمع موضوعين يشغلان العالم من أقصاه وأدناه، أحدهما قديم لكن كل مناسبة تجيء لتجدّده، والثاني جديد لكن له سوابق مؤلمة. ونتحدث هنا من ناحية، عن العنصرية التي كثيرًا ما شغلت هذا الكاتب الفرنسي الكبير، ومن ناحية ثانية عن الوباء وفعله الاجتماعي الذي لئن تجدد الاهتمام به في زمننا هذا لمناسبة انتشار وباء كورونا، فإنه لم يفته أن يشغل كتّابا متبصّرين عادوا إلى تاريخه وتأثيراته الاجتماعية حتى من قبل حلوله مع أواخر العام الفائت واستفحاله يومًا بعد يوم في هذه الحقبة الكأداء من تاريخ البشرية. ومنهم لوكليزيو الذي عرف كيف يجمع الموضوعين معًا وبقوة لافتة في روايته "الحجر الصحي" التي صدرت عام 1995 يوم لم يكن ليخطر في بال أحد أن زمنًا قريبًا سوف يجيء تكاد تلقي البشرية فيه أسلحتها كلها أمام وباء مفترس، لم يعد في مقدورها مجابهته إلا بالأمل.
الوباء... مناسبة وذريعة
بالنسبة إلى لوكليزيو وروايته هذه التي تلفت النظر بحجمها الكبير، كان الوباء آتيًا لا محالة وإن بشكل يختلف عما ستكون الحال عليه بالفعل بعد ربع قرن من صدور الرواية، ومع هذا يمكن الافتراض بأن الكاتب إنما استخدم الوباء، كما يفعل كثر من الكتّاب، على سبيل الكناية كي يطرح من خلاله عددًا من المعضلات الإنسانية التي تقضّ باله، وفي مقدمتها قضية العنصرية التي لطالما عالجها في أعمال سابقة له وسيواصل معالجتها في أعمال لاحقة بالطبع، وهو الذي يعتبر نفسه ابناً لجزيرة موريشيوس التي عاش فيها ردحاً من طفولته، بقدر ما هو ابن لفرنسا موطن جدوده الأصلي، وابن للعالم موطنه الأكثر فساحة.
مهما يكن من أمر فإن لوكليزيو يكتب هنا استنادًا إلى ما يدنو من سيرته الذاتية أو بالأحرى من سيرة جدود له كما يخبرنا بنفسه. وتلك ممارسة عمد إليها الكاتب في عددٍ من أعماله ولا سيما في "أونيتشا" و"الأفريقي" وغيرهما. إذ ها هو هنا ينقل إلينا ما رُوي له عائليًّا ولم يبرح خياله، على شكل حكاية تتعلق بسفر الأخوين ليون وجاك، وأولهما مستوحى من شخصية أليكسي جد كاتبنا، على متن السفينة "آفا" باتجاه موريشيوس. ولكن فيما هما على مقربة من شاطيء تلك الجزيرة يُعلَم الربان أن ثمة وباء "الجدري" ينتشر الآن ويتوجب على السفينة أن ترسو في جزيرة صغيرة غير بعيدة عن ذلك الشاطيء كي تبقى في حجر صحي غير محدّد زمنيًّا بالنظر إلى أن راكبين صعدا السفينة خلال وقفة غير متوقعة في زنجبار، كانت قد ظهرت عليهما علامات العدوى. وبالتالي فإن الحكاية تصبح حكاية الإقامة في تلك الجزيرة التي يُحجر فيها المسافرون من أوروبيين وهنود على وجه الخصوص ريثما يتم التيقن من الوضع الصحي لكل الركاب.
الفرز العنصري والحب البريء
غير أن المسألة لن تكون على مثل تلك البساطة خصوصًا أننا نعيش هنا في الزمن الكولونيالي الذي يفترض أن كل آسيوي أو أفريقي إما مصاب أو عرضة للإصابة، وأن كل أوروبي سليم حتى يحتك ب"الشعوب الأدنى". والحقيقة أن ذلك ما يصبح علة الموضوع الأساس ل"الحجر الصحي" على جزيرة بلات البركانية الجرداء وسط المحيط الهندي. ناهيك بأنه يصبح أيضًا حكاية حب، هو ذاك الذي جمع بين جد الكاتب الأوروبي وجدته المنتمية إلى المهاجرين الهنود الذين يصلون إلى موريشيوس للعمل.
من الواضح هنا من خلال الحكاية التي يرويها ليون جد الكاتب بصيغة المتكلم، أن الحجر سوف يطول، لكن الأدهى منه أن الجزيرة الصغيرة التي سيبقى فيها الركاب منتظرين سفينة إنقاذ لا يعرف أحد متى ستصل، قُسمت إلى حيين يُحجز الهنود في واحد منهما والأوروبيون في الآخر من دون أية إمكانية للتواصل بين الفئتين. ويلاحظ جاك "أننا مسجونون هنا" لكن ليون الذي يكون قد تعرف على الحسناء سوريافاتي وأغرم بها، لن يرضى بأن "يُسجن" ولا بأن يُحرم من اللقاء مع حبيبته بالفصل العنصري، ومن هنا ستُخصص صفحات عديدة لمغامراته في التسلل بين الحيّين وتعبيره عن غضبه ومشاكسته ضد الاستعمار الذي يصرّ على أن ثمة أكثر من طريقة للتعامل مع البشر تبعًا للونهم وعرقهم. وبهذا، بأكثر مما بالوباء نفسه، يُدخِل لوكليزيو هذه الحكاية في عوالمه المعهودة.
قسوة العالم وبراءة الطفولة
في خطابه الذي ألقاه في ستوكهولم يوم تسلمه جائزة "نوبل" للآداب بعد فوزه بها بشهر تقريبًا، قال لوكليزيو كل ما يمكنه أن يقول عن أدبه، عن أحوال العالم، عن العنصرية عن الأدب، عن الأطفال وكذلك عن لبنان. قد يكون كثر فوجئوا بما تضمنه خطاب صاحب "صحراء"، لكن الذين يعرفون أدبه، لم يفاجَأوا.
فهو لم يتوان في أعماله كلها عن التنديد بالعنصرية، مستخدمًا غالبًا براءة الصغار للحديث عن شجاعة التصدي. فمن "آدم بولو" بطل "المحضر" الذي يعيش في احتجاج دائم على قسوة العالم، إلى "هوغان" بطل "كتاب الهرب" الذي يعيش ترحاله حاملاً آلامه وأحزانه واحتجاجاته، متنقلاً عبر العالم، مرورًا ب"باتريس ب" في رواية "الحرب" وقد أرعبه عنف المجتمعات الحديثة، و"بوغو" الأخرس، ذلك الطفل الذي يرفض الكلام في رواية "العمالقة" لأن الكبار ما عادوا يعرفون شيئاً غير إعطاء الأوامر.
عبر هذه الشخصيات القلقة، البريئة، الطفلة حتى ولو كان بعضها قد تجاوز سن الطفولة، يتنقل لوكليزيو عبر صفحات رواياته العديدة، ما جعل منه واحداً من أهم أدباء الجيل الجديد في الرواية الفرنسية، مع أنه حافظ دائمًا على نوع من الغموض يحيط بشخصيته، وعلى شيء من الصمت يطبع عمله وانكبابه على ذلك العمل. ولقد وصل لوكليزيو إلى ذروة تألقه في نصين صدرا قبل سنوات، أحدهما رواية عن تاريخ الاقتلاع الفلسطيني من خلال الحياة اليومية في مخيم "نور الشمس"، منظورًا إليها بعيني الطفلة نجمة التي أفقدها الاقتلاع والرمي في المخيم صباها، لكنه لم يفقدها براءتها. أما الثاني فعبارة عن كتاب عن إبادة الأوروبيين للحلم المكسيكي وقتلهم لحضارة عريقة، ولألوف الأطفال (الأطفال دائماً). وقد أصدر لوكليزيو بعد ذلك مجموعة بعنوان "ربيع ونصوص أخرى" تعود بدورها إلى عالم الأطفال، وتتوقف على وجه الخصوص عند طفولة المهاجرين العرب في فرنسا، وعند أحلامهم الخائبة.
حتى الحضارات تُستشهد
الطفولة، والمصير الإنساني، والظلم الذي يتفنن عالم الكبار في ابتكار ضروبه، وفوق هذا كله عالم الحضارات المستشهدة والعوالم الثقافية التي ضربتها المركزية الأوروبية من دون رحمة، عالم أسئلة القلق والموت والخيبة والهرب. تلكم هي الموضوعات الرئيسة التي طبعت دائماً كتابة جان ماري غوستاف لوكليزيو، المتمرد على الحداثة الذي جعل دائمًا من شخصيات أعماله صورة لقلقه وغضبه، وهو الفرنسي المتحدر من أم فرنسية وأب ولد في جزيرة موريشيوس، وهو من أصل بريتاني، فرنسي.
ولوكليزيو نفسه وُلد في نيس عام 1940 وعاش طفولته متنقلاً، وأمضى ردحًا منها في أفريقيا، حيث فتح عينيه على العالم، ثم لم يكف بعد ذلك عن الترحال، إنما من دون أن ينسى سنته الأفريقية، من دون أن ينسى أفريقيا التي تسللت إلى داخل جلده ووعيه، ولم يكف بعد ذلك عن الحلم بها، وعن الدنو منها في رواياته، ولا سيما في رواية "صحراء" (1980) التي تروي لنا حكاية "للا" ذات الجدود الطوارق، مقاتلي الصحراء، والتي تعيش الآن في بيوت التنك في ضواحي مرسيليا، لكنها تعيش في عجز دائم عن نسيان تاريخها العريق.
من مثل هذا الربط بين الناس، ماضيهم وحاضرهم، بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم، صنع لوكليزيو ذلك الأدب الإنساني الكبير الذي لا شك أن إنسانيته عرفت كيف تصل إلى ذروتها في رواية "الحجر الصحي" التي ستبدو لنا إن قرأناها اليوم وكأنها كُتبت في أيامنا هذه لتتحدث عنها.
قبل سنوات عديدة من فوزه بجائزة نوبل للآداب، كانت لغوستاف لوكليزيو إطلالة هامة على الحياة الثقافية العالمية من خلال واحدة من رواياته الأساسية التي يُستعاد ذكرها اليوم باعتبارها تجمع موضوعين يشغلان العالم من أقصاه وأدناه، أحدهما قديم لكن كل مناسبة تجيء لتجدّده، والثاني جديد لكن له سوابق مؤلمة. ونتحدث هنا من ناحية، عن العنصرية التي كثيرًا ما شغلت هذا الكاتب الفرنسي الكبير، ومن ناحية ثانية عن الوباء وفعله الاجتماعي الذي لئن تجدد الاهتمام به في زمننا هذا لمناسبة انتشار وباء كورونا، فإنه لم يفته أن يشغل كتّابا متبصّرين عادوا إلى تاريخه وتأثيراته الاجتماعية حتى من قبل حلوله مع أواخر العام الفائت واستفحاله يومًا بعد يوم في هذه الحقبة الكأداء من تاريخ البشرية. ومنهم لوكليزيو الذي عرف كيف يجمع الموضوعين معًا وبقوة لافتة في روايته "الحجر الصحي" التي صدرت عام 1995 يوم لم يكن ليخطر في بال أحد أن زمنًا قريبًا سوف يجيء تكاد تلقي البشرية فيه أسلحتها كلها أمام وباء مفترس، لم يعد في مقدورها مجابهته إلا بالأمل.
الوباء... مناسبة وذريعة
بالنسبة إلى لوكليزيو وروايته هذه التي تلفت النظر بحجمها الكبير، كان الوباء آتيًا لا محالة وإن بشكل يختلف عما ستكون الحال عليه بالفعل بعد ربع قرن من صدور الرواية، ومع هذا يمكن الافتراض بأن الكاتب إنما استخدم الوباء، كما يفعل كثر من الكتّاب، على سبيل الكناية كي يطرح من خلاله عددًا من المعضلات الإنسانية التي تقضّ باله، وفي مقدمتها قضية العنصرية التي لطالما عالجها في أعمال سابقة له وسيواصل معالجتها في أعمال لاحقة بالطبع، وهو الذي يعتبر نفسه ابناً لجزيرة موريشيوس التي عاش فيها ردحاً من طفولته، بقدر ما هو ابن لفرنسا موطن جدوده الأصلي، وابن للعالم موطنه الأكثر فساحة.
مهما يكن من أمر فإن لوكليزيو يكتب هنا استنادًا إلى ما يدنو من سيرته الذاتية أو بالأحرى من سيرة جدود له كما يخبرنا بنفسه. وتلك ممارسة عمد إليها الكاتب في عددٍ من أعماله ولا سيما في "أونيتشا" و"الأفريقي" وغيرهما. إذ ها هو هنا ينقل إلينا ما رُوي له عائليًّا ولم يبرح خياله، على شكل حكاية تتعلق بسفر الأخوين ليون وجاك، وأولهما مستوحى من شخصية أليكسي جد كاتبنا، على متن السفينة "آفا" باتجاه موريشيوس. ولكن فيما هما على مقربة من شاطيء تلك الجزيرة يُعلَم الربان أن ثمة وباء "الجدري" ينتشر الآن ويتوجب على السفينة أن ترسو في جزيرة صغيرة غير بعيدة عن ذلك الشاطيء كي تبقى في حجر صحي غير محدّد زمنيًّا بالنظر إلى أن راكبين صعدا السفينة خلال وقفة غير متوقعة في زنجبار، كانت قد ظهرت عليهما علامات العدوى. وبالتالي فإن الحكاية تصبح حكاية الإقامة في تلك الجزيرة التي يُحجر فيها المسافرون من أوروبيين وهنود على وجه الخصوص ريثما يتم التيقن من الوضع الصحي لكل الركاب.
الفرز العنصري والحب البريء
غير أن المسألة لن تكون على مثل تلك البساطة خصوصًا أننا نعيش هنا في الزمن الكولونيالي الذي يفترض أن كل آسيوي أو أفريقي إما مصاب أو عرضة للإصابة، وأن كل أوروبي سليم حتى يحتك ب"الشعوب الأدنى". والحقيقة أن ذلك ما يصبح علة الموضوع الأساس ل"الحجر الصحي" على جزيرة بلات البركانية الجرداء وسط المحيط الهندي. ناهيك بأنه يصبح أيضًا حكاية حب، هو ذاك الذي جمع بين جد الكاتب الأوروبي وجدته المنتمية إلى المهاجرين الهنود الذين يصلون إلى موريشيوس للعمل.
من الواضح هنا من خلال الحكاية التي يرويها ليون جد الكاتب بصيغة المتكلم، أن الحجر سوف يطول، لكن الأدهى منه أن الجزيرة الصغيرة التي سيبقى فيها الركاب منتظرين سفينة إنقاذ لا يعرف أحد متى ستصل، قُسمت إلى حيين يُحجز الهنود في واحد منهما والأوروبيون في الآخر من دون أية إمكانية للتواصل بين الفئتين. ويلاحظ جاك "أننا مسجونون هنا" لكن ليون الذي يكون قد تعرف على الحسناء سوريافاتي وأغرم بها، لن يرضى بأن "يُسجن" ولا بأن يُحرم من اللقاء مع حبيبته بالفصل العنصري، ومن هنا ستُخصص صفحات عديدة لمغامراته في التسلل بين الحيّين وتعبيره عن غضبه ومشاكسته ضد الاستعمار الذي يصرّ على أن ثمة أكثر من طريقة للتعامل مع البشر تبعًا للونهم وعرقهم. وبهذا، بأكثر مما بالوباء نفسه، يُدخِل لوكليزيو هذه الحكاية في عوالمه المعهودة.
قسوة العالم وبراءة الطفولة
في خطابه الذي ألقاه في ستوكهولم يوم تسلمه جائزة "نوبل" للآداب بعد فوزه بها بشهر تقريبًا، قال لوكليزيو كل ما يمكنه أن يقول عن أدبه، عن أحوال العالم، عن العنصرية عن الأدب، عن الأطفال وكذلك عن لبنان. قد يكون كثر فوجئوا بما تضمنه خطاب صاحب "صحراء"، لكن الذين يعرفون أدبه، لم يفاجَأوا.
فهو لم يتوان في أعماله كلها عن التنديد بالعنصرية، مستخدمًا غالبًا براءة الصغار للحديث عن شجاعة التصدي. فمن "آدم بولو" بطل "المحضر" الذي يعيش في احتجاج دائم على قسوة العالم، إلى "هوغان" بطل "كتاب الهرب" الذي يعيش ترحاله حاملاً آلامه وأحزانه واحتجاجاته، متنقلاً عبر العالم، مرورًا ب"باتريس ب" في رواية "الحرب" وقد أرعبه عنف المجتمعات الحديثة، و"بوغو" الأخرس، ذلك الطفل الذي يرفض الكلام في رواية "العمالقة" لأن الكبار ما عادوا يعرفون شيئاً غير إعطاء الأوامر.
عبر هذه الشخصيات القلقة، البريئة، الطفلة حتى ولو كان بعضها قد تجاوز سن الطفولة، يتنقل لوكليزيو عبر صفحات رواياته العديدة، ما جعل منه واحداً من أهم أدباء الجيل الجديد في الرواية الفرنسية، مع أنه حافظ دائمًا على نوع من الغموض يحيط بشخصيته، وعلى شيء من الصمت يطبع عمله وانكبابه على ذلك العمل. ولقد وصل لوكليزيو إلى ذروة تألقه في نصين صدرا قبل سنوات، أحدهما رواية عن تاريخ الاقتلاع الفلسطيني من خلال الحياة اليومية في مخيم "نور الشمس"، منظورًا إليها بعيني الطفلة نجمة التي أفقدها الاقتلاع والرمي في المخيم صباها، لكنه لم يفقدها براءتها. أما الثاني فعبارة عن كتاب عن إبادة الأوروبيين للحلم المكسيكي وقتلهم لحضارة عريقة، ولألوف الأطفال (الأطفال دائماً). وقد أصدر لوكليزيو بعد ذلك مجموعة بعنوان "ربيع ونصوص أخرى" تعود بدورها إلى عالم الأطفال، وتتوقف على وجه الخصوص عند طفولة المهاجرين العرب في فرنسا، وعند أحلامهم الخائبة.
حتى الحضارات تُستشهد
الطفولة، والمصير الإنساني، والظلم الذي يتفنن عالم الكبار في ابتكار ضروبه، وفوق هذا كله عالم الحضارات المستشهدة والعوالم الثقافية التي ضربتها المركزية الأوروبية من دون رحمة، عالم أسئلة القلق والموت والخيبة والهرب. تلكم هي الموضوعات الرئيسة التي طبعت دائماً كتابة جان ماري غوستاف لوكليزيو، المتمرد على الحداثة الذي جعل دائمًا من شخصيات أعماله صورة لقلقه وغضبه، وهو الفرنسي المتحدر من أم فرنسية وأب ولد في جزيرة موريشيوس، وهو من أصل بريتاني، فرنسي.
ولوكليزيو نفسه وُلد في نيس عام 1940 وعاش طفولته متنقلاً، وأمضى ردحًا منها في أفريقيا، حيث فتح عينيه على العالم، ثم لم يكف بعد ذلك عن الترحال، إنما من دون أن ينسى سنته الأفريقية، من دون أن ينسى أفريقيا التي تسللت إلى داخل جلده ووعيه، ولم يكف بعد ذلك عن الحلم بها، وعن الدنو منها في رواياته، ولا سيما في رواية "صحراء" (1980) التي تروي لنا حكاية "للا" ذات الجدود الطوارق، مقاتلي الصحراء، والتي تعيش الآن في بيوت التنك في ضواحي مرسيليا، لكنها تعيش في عجز دائم عن نسيان تاريخها العريق.
من مثل هذا الربط بين الناس، ماضيهم وحاضرهم، بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم، صنع لوكليزيو ذلك الأدب الإنساني الكبير الذي لا شك أن إنسانيته عرفت كيف تصل إلى ذروتها في رواية "الحجر الصحي" التي ستبدو لنا إن قرأناها اليوم وكأنها كُتبت في أيامنا هذه لتتحدث عنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.