تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 23 أغسطس 2025    مواعيد مباريات اليوم السبت 23 أغسطس والقنوات الناقلة    استشهاد 12 فلسطينيًا جراء قصف للاحتلال استهدف خيام نازحين شمال غرب خان يونس    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    القاهرة تسجل 40 مجددا والصعيد يعود إلى "الجحيم"، درجات الحرارة اليوم السبت في مصر    ثوانٍ فارقة أنقذت شابًا من دهس القطار.. وعامل مزلقان السادات يروي التفاصيل    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    «ميستحقوش يلعبوا في الزمالك».. إكرامي يفتح النار على ألفينا وشيكو بانزا    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين يتمرد المبدع على النظرية
نشر في صوت البلد يوم 07 - 12 - 2019

لا يعدّ البحث في نظرية الأجناس والأنواع الأدبية مبحثًا جديدًا إذ تعاورته المدارس النقدية والتاريخية منذ قرون، غير أن الإقرار بتطور التصنيفات عبر العصور هو الذي يدفع إلى التساؤل عن عوامل هذا التطور ودوافعه وتأمل نتائجه وآثاره في مستوى الدراسات النظرية وكذلك في حقول الإبداع المختلفة. لذلك يعد كتاب محمد آيت ميهوب الأخير "التداخل الأجناسي في الأدب العربي المعاصر" (الصادر عن دار ورقة للنشر - تونس 2019) من البحوث المهمة والرائدة التي تنطلق من مسلمة أوّلية أن "لا وجود لجنس أدبي صاف" وإن كانت تمثل تواصلًا مع اتجاهات نقدية حديثة اهتمت بظاهرة التفاعل الأجناسي منها خاصة المدارس الفلسفية والجمالية في القرن العشرين.
لم يحصر محمد آيت ميهوب اهتمامه في جنس أدبي بعينه، فلم يركز على القصة القصيرة فقط أو الرواية فقط بل رام مساءلة عديد الأجناس الأدبية باحثًا في مظاهر التداخل بينها وآلياته، لذلك خصص بعد المقدمة مدخلًا مفاهيميّا محللًا أشكال هذا التداخل، العفوي منه والمقصود والتقويضي، وركز اهتمامه في الدراسة على النوع الثاني إذ يعتبره الدال على وعي المؤلف بالظاهرة وسعيه إلى التجديد. كما توقف عند عدد من مظاهر التداخل الخطابي في النص الواحد وأشكال الحوارية قبل أن ينتهي إلى تقديم مفهوم التناص لدى عدد من المنظرين.

التداخل بين الأجناس
في بقية الكتاب أو في فصوله التطبيقية وهي أربعة، كان الاهتمام بالتداخل الأجناسي في مجال الرواية ثم في مجال الشعر ثم الأقصوصة قبل التعريج في الباب الرابع على تفاعل النص الأدبي مع مختلف الخطابات والفنون.
1- من وجوه الطرافة في هذه الدراسة إعادة النظر في بعض المسلمات والتشكيك في عدد من القناعات والقراءات التي ارتبطت بآثار أدبية مشهورة ومعاصرة. منها تلك التي نظرت إلى كتاب "المرايا" لنجيب محفوظ باعتباره رواية حينًا وقصصًا قصيرة أخرى أو مقالات قصصية أو دراسة فكرية، يبحث ميهوب مجدّدا في "مرايا" محفوظ ليلقي الضوء على النظام العميق الرابط بين فصولها ذاك الذي يمنحها وحدتها الروائية من ناحية وليبحث أيضا فيها عن القرائن السيرذاتية المثيرة لشك المتلقي، وعن مظاهر التناص الذاتي المحيلة على نصوص سابقة لنجيب محفوظ، ويخلص إلى الإقرار بوجود مشروع سيرذاتي في المرايا رغم السرد المتشظي، ويدعم بذلك نوسان هذا الأثر بين الرواية والسيرة الذاتية.
على أن الباحث ميهوب لا يكتفي بهذا المثال على التداخل الأجناسي في مجال الرواية بل يواصل الحفر في أثر روائي آخر متسلحًا بنظرية باختين ليقدم أدلة أخرى على حوارية الرواية عبر مثال ثان هو رواية الشاعر التونسي محجوب العياري "أمجد عبد الدائم يركب البحر شمالًا" (صادرة عن أركنتار المغرب العربي - تونس 2006). وتتجلى هذه الحوارية عبر تعدد الأصوات وتفاعل الرواية مع الأقصوصة والشعر والسيرة الذاتية والبورتريه، إضافة إلى مظاهر التناص فيها مع شعراء عرب وغربيين والتناص الذاتي بين السرد الروائي وشعر محجوب العياري أو التداخل بين صوت الشاعر وصوت الروائي.
2- ولا يتوقف الباحث عند جنس الرواية بل يخوض غمار الشعر مبحرًا في المشروع السيرذاتي الساكن والمقيم في قصائد فاروق شوشة عبر ديوانه "أبوابك شتّى، ملامح من سيرة شعرية" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية القاهرة 2013، ورغم صعوبة الحديث عن "قصيدة سيرذاتية" حسب المنظرين الأوائل، ورغم إقرار الباحث بتوفر دراسات سابقة تناولت هذا النوع الهجين (مثل خليل شكري هياس) إلا أن محمد آيت ميهوب سعى إلى تبين حدود هذه الدراسات وهناتها موضحًا مشروعه المتمثل في دراسة "القصيدة السيرذاتية" لا الاكتفاء بالبحث عن "تسرب العناصر السيرذاتية إلى الكون الشعري". فهدفه هو الوقوف على أشكال التفاعل بين السيرة الذاتية جنسًا أدبيًّا قائم الذات والشعر، واستخلاص منطق "الحوار بين التخييلي والمرجعي، ومقوّمات التلاقح بين الجمالي والوقائعي (ص112). وهو ما حاول رصده في ديوان فاروق شوشة.
3- ولئن كان البحث عن بعض مؤشرات جنس السيرة الذاتية ومعالم السيرذاتي أمرًا ممكنًا ومتحققًا في الشعر حسب ميهوب، فإن إثباته في مجال القصة القصيرة قد يبدو أكثر عسرًا وطرافة، فأن يتحول الشاعر قصّاصًا ليستعيد في القصة القصيرة "ذاكرة القصيدة" وأن يسرّد الشعر توجّه يستدعي التأمل والتساؤل عن دوافعه وغاياته، يقدم محمد آيت ميهوب مثالًا لذلك الشاعر التونسي أبا القاسم الشابي الذي تحوّل في أخريات حياته إلى كتابة القصة (وهو أمر غير متداول في مجال الدراسات حول الشابي) عامدًا إلى ضرب من التناص الذاتي (استدعاء بعض نصوصه الشعرية في القصة)، ويفسر ميهوب هذا التوجه بعوامل عديدة منها نزوع الشابي إلى تأمل تجربته الشعرية وتقييمها بنقلها إلى "حضن أجناسي جديد"، ومنها الاستجابة إلى ظاهرة تلقي الأجناس الأدبية ومراعاة ميول القراء خاصة بعد ازدهار عرفته القصة في تونس بداية الثلاثينيات واهتمام الصحف بنشرها آنذاك.
ويتناول الباحث في نفس الفصل ضربًا آخر من التداخل الأجناسي تجلوه المزاوجة بين الأقصوصة (القصة القصيرة) والسرد السيرذاتي في ضرب من التمرد على قوانين القصة القصيرة وضوابطها. ويستدعي لذلك مجموعة قصصية للكاتب التونسي حسن مشري الموسومة ب "انكسارات هشام السعيد" (منشورات قصص - تونس 2006) حيث يستدل على حضور مقومات السرد السيرذاتي في المجموعة مؤكدا أن "القدرة على استيعاب مختلف الأجناس الأدبية ليست حكرا على الرواية، بل يمكن أن تتاح لجنس أدبي محدود المدى النصّي، قليل الإمكانات السردية مثل القصة القصيرة" (ص191).
4- إن علاقة الرواية بفن السينما قد تبدو أكثر بداهة ووضوحًا في مستوى الواقع والبحوث، إذ تأكد التفاعل بينهما منذ بداية القرن العشرين، وتجلّى خصوصًا في استلهام السينما لعدد من النصوص الروائية وصياغتها فنيًّا. غير أن محمد آيت ميهوب سينظر في الاتجاه المعاكس حيث أصبحت الرواية الحديثة هي التي تستعير من السينما تقنياته وتوظف العديد من خصائص الخطاب السينمائي. بل هي قد تعمد لبناء عالمها الروائي إلى ضروب من التناص بين الخطابين، وقد اختار الباحث لتحليل هذا التداخل بين الفنون نماذج روائية وقصصية هي رواية "ذات" لصنع الله ابراهيم، ورواية "عيد المساعيد" للروائي التونسي رضوان الكوني (الصادرة في تونس سنة 2005 على نفقة المؤلف) والمجموعة القصصية "الارتطام" لسمير بن علي (دار ورقة للنشر 2006).
ويعد النظر في التخييلي والتاريخي في رواية عبد الواحد براهم "تغريبة أحمد الحجري" (الصادرة عن دار الجمل - ألمانيا 2006) الوجه الآخر من وجوه التداخل بين الخطابات وهو ضرب من التطريس أو التناص المقصود بين نص قديم لرحالة أندلسي ونص روائي حديث كتبه عبد الواحد براهم، فكان التفاعل الخلاق بين أدب الرحلة والرواية الحديثة والخطاب التاريخي قصد إنشاء صورة جديدة عن التاريخ لها علاقة بالواقع المرجعي.
5- غير أن هذا التداخل الأجناسي والتفاعل بين النص الأدبي وبقية الفنون والخطابات لم يكن دائمًا علامة تطور إيجابي ومؤشر إبداع متجدد، كما يرى ميهوب، ذلك أن القصة القصيرة بحكم حضورها المكثف في المواقع الإلكترونية الأدبية ونتيجة ضعف علاقتها بالصحافة المكتوبة اليوم، لم تشهد في العالم العربي انبعاثًا وتجددًا كما شهدته القصة والأدب الرقمي في الغرب، لقد انتشرت المواقع الأدبية في الشبكة العنكبوتية وأضحت الإنترنت "وسيطا أساسيا إن لم نقل الأول بين قراء القصة القصيرة وكتابها في مشارق العالم العربي ومغاربه"، لكن البحث في أثر النشر الإلكتروني في بنى القصة ومقوماتها السردية وما صاحب هذا النشر من نقد لا يعكس قيمة فنية حقيقية لهذه النصوص.
نظر الباحث في عدد من المواقع الإلكترونية المهتمة بالقصة القصيرة وفي طريقة تصنيفها للنصوص فلاحظ غياب القواعد في النشر، وعدّد مظاهر الضعف الفني، وكثرة الأخطاء اللغوية وغلبة الخطاب الوعظي والخلط في مستوى التصنيف، إذ تتداخل فيها القصة القصيرة مع القصيرة جدًّا مع الحكايات الشعبية والأخبار. كما بحث في النصوص النقدية الموجهة لهذه القصص ملاحظًا أن "النقد المنتشر في هذه المواقع هو في أغلبه نقد افتراضي سطحي متسرّع لا يمكن اعتماده بأيّ حال شهادة على نجاح النص القصصي وطرافته حتى وإن حاز على عدد هائل من الزوار والمشاهدات والتعليقات" (ص225).
ومع ذلك فقد رأى إمكانية أن تستفيد القصة القصيرة مستقبلًا من الإنترنت حتى تخلق أشكالًا جديدة من الكتابة وطرائق جديدة للسرد، وهو موقف يلتقي فيه مع بعض الدارسين المؤمنين بأهمية السرد الرقمي والتفاعلي ودور الوسائط الجديدة في ضخ دماء جديدة للقصة والرواية وغيرها من الأجناس الأدبية ومنهم سعيد يقطين.
6- يعود ميهوب في الفصل الأخير إلى السينما لا ليكرر ما قاله سابقًا وإنما للبحث من جديد في العلاقة بين الخطابات الأدبية والفنون أو بين الخطاب الشعري والخطاب السينمائي، انطلق الباحث من دراسات غربية تؤكد الوعي بأهمية السينما في القصيدة منهم الشاعر أبولينير الذي تنبأ منذ 1917 بهذا الأثر المهمّ حين قال: "لن يلبث الشعراء أن يجعلوا الصورة هي قوافيهم". وقد تدعم هذا الرأي بعد ذلك بتيار وسم ب "القصيدة السينمائية". ومن مظاهر هذا التداخل بين الخطاب الشعري والسينما تقنيات المونتاج والكولاج (الإلصاق) في النص الشعري وعين الكاميرا وتعدد زوايا النظر والمخططات والمسوّدات. وقد أورد الباحث نماذج من الشعراء الذين وظفوا بعض هذه التقنيات هم أمل دنقل وبدر شاكر السياب ومحجوب العياري وعبدالله المتقي.
7- يعتبر كتاب محمد آيت ميهوب "التداخل الأجناسي في الأدب العربي المعاصر" دراسة مستجدة ومهمة لهذه الظاهرة التي وسمت العديد من الكتابات الإبداعية اليوم ورمت بالقارئ في غمار الحيرة والتسآل، ولم يسلم الناقد من هذه الحيرة فقد جلاها تضارب القراءات والتأويلات وخاصة التصنيفات بين الدارسين. وهو أمر إيجابي إذا تولّد عنه تطوير لنظرية الأجناس. لكنه يعتبر أكبر دلالة على تمرد المبدع عمومًا على كل محاولات التسييج والحصار التي تفرضها النظريات.
إن قيمة هذه الدراسة لا تكمن فقط في ما توفره للباحث وللقارئ عامة من رؤى ونظريات حرص صاحبها على تدقيقها وتعميقها وتوضيحها بالأمثلة التطبيقية، بل تتجاوزها إلى الجمع بين الجانب العلمي والفكر المعمق الدقيق وجمالية الأسلوب وروح الأديب وشاعريته.
لا يعدّ البحث في نظرية الأجناس والأنواع الأدبية مبحثًا جديدًا إذ تعاورته المدارس النقدية والتاريخية منذ قرون، غير أن الإقرار بتطور التصنيفات عبر العصور هو الذي يدفع إلى التساؤل عن عوامل هذا التطور ودوافعه وتأمل نتائجه وآثاره في مستوى الدراسات النظرية وكذلك في حقول الإبداع المختلفة. لذلك يعد كتاب محمد آيت ميهوب الأخير "التداخل الأجناسي في الأدب العربي المعاصر" (الصادر عن دار ورقة للنشر - تونس 2019) من البحوث المهمة والرائدة التي تنطلق من مسلمة أوّلية أن "لا وجود لجنس أدبي صاف" وإن كانت تمثل تواصلًا مع اتجاهات نقدية حديثة اهتمت بظاهرة التفاعل الأجناسي منها خاصة المدارس الفلسفية والجمالية في القرن العشرين.
لم يحصر محمد آيت ميهوب اهتمامه في جنس أدبي بعينه، فلم يركز على القصة القصيرة فقط أو الرواية فقط بل رام مساءلة عديد الأجناس الأدبية باحثًا في مظاهر التداخل بينها وآلياته، لذلك خصص بعد المقدمة مدخلًا مفاهيميّا محللًا أشكال هذا التداخل، العفوي منه والمقصود والتقويضي، وركز اهتمامه في الدراسة على النوع الثاني إذ يعتبره الدال على وعي المؤلف بالظاهرة وسعيه إلى التجديد. كما توقف عند عدد من مظاهر التداخل الخطابي في النص الواحد وأشكال الحوارية قبل أن ينتهي إلى تقديم مفهوم التناص لدى عدد من المنظرين.
التداخل بين الأجناس
في بقية الكتاب أو في فصوله التطبيقية وهي أربعة، كان الاهتمام بالتداخل الأجناسي في مجال الرواية ثم في مجال الشعر ثم الأقصوصة قبل التعريج في الباب الرابع على تفاعل النص الأدبي مع مختلف الخطابات والفنون.
1- من وجوه الطرافة في هذه الدراسة إعادة النظر في بعض المسلمات والتشكيك في عدد من القناعات والقراءات التي ارتبطت بآثار أدبية مشهورة ومعاصرة. منها تلك التي نظرت إلى كتاب "المرايا" لنجيب محفوظ باعتباره رواية حينًا وقصصًا قصيرة أخرى أو مقالات قصصية أو دراسة فكرية، يبحث ميهوب مجدّدا في "مرايا" محفوظ ليلقي الضوء على النظام العميق الرابط بين فصولها ذاك الذي يمنحها وحدتها الروائية من ناحية وليبحث أيضا فيها عن القرائن السيرذاتية المثيرة لشك المتلقي، وعن مظاهر التناص الذاتي المحيلة على نصوص سابقة لنجيب محفوظ، ويخلص إلى الإقرار بوجود مشروع سيرذاتي في المرايا رغم السرد المتشظي، ويدعم بذلك نوسان هذا الأثر بين الرواية والسيرة الذاتية.
على أن الباحث ميهوب لا يكتفي بهذا المثال على التداخل الأجناسي في مجال الرواية بل يواصل الحفر في أثر روائي آخر متسلحًا بنظرية باختين ليقدم أدلة أخرى على حوارية الرواية عبر مثال ثان هو رواية الشاعر التونسي محجوب العياري "أمجد عبد الدائم يركب البحر شمالًا" (صادرة عن أركنتار المغرب العربي - تونس 2006). وتتجلى هذه الحوارية عبر تعدد الأصوات وتفاعل الرواية مع الأقصوصة والشعر والسيرة الذاتية والبورتريه، إضافة إلى مظاهر التناص فيها مع شعراء عرب وغربيين والتناص الذاتي بين السرد الروائي وشعر محجوب العياري أو التداخل بين صوت الشاعر وصوت الروائي.
2- ولا يتوقف الباحث عند جنس الرواية بل يخوض غمار الشعر مبحرًا في المشروع السيرذاتي الساكن والمقيم في قصائد فاروق شوشة عبر ديوانه "أبوابك شتّى، ملامح من سيرة شعرية" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية القاهرة 2013، ورغم صعوبة الحديث عن "قصيدة سيرذاتية" حسب المنظرين الأوائل، ورغم إقرار الباحث بتوفر دراسات سابقة تناولت هذا النوع الهجين (مثل خليل شكري هياس) إلا أن محمد آيت ميهوب سعى إلى تبين حدود هذه الدراسات وهناتها موضحًا مشروعه المتمثل في دراسة "القصيدة السيرذاتية" لا الاكتفاء بالبحث عن "تسرب العناصر السيرذاتية إلى الكون الشعري". فهدفه هو الوقوف على أشكال التفاعل بين السيرة الذاتية جنسًا أدبيًّا قائم الذات والشعر، واستخلاص منطق "الحوار بين التخييلي والمرجعي، ومقوّمات التلاقح بين الجمالي والوقائعي (ص112). وهو ما حاول رصده في ديوان فاروق شوشة.
3- ولئن كان البحث عن بعض مؤشرات جنس السيرة الذاتية ومعالم السيرذاتي أمرًا ممكنًا ومتحققًا في الشعر حسب ميهوب، فإن إثباته في مجال القصة القصيرة قد يبدو أكثر عسرًا وطرافة، فأن يتحول الشاعر قصّاصًا ليستعيد في القصة القصيرة "ذاكرة القصيدة" وأن يسرّد الشعر توجّه يستدعي التأمل والتساؤل عن دوافعه وغاياته، يقدم محمد آيت ميهوب مثالًا لذلك الشاعر التونسي أبا القاسم الشابي الذي تحوّل في أخريات حياته إلى كتابة القصة (وهو أمر غير متداول في مجال الدراسات حول الشابي) عامدًا إلى ضرب من التناص الذاتي (استدعاء بعض نصوصه الشعرية في القصة)، ويفسر ميهوب هذا التوجه بعوامل عديدة منها نزوع الشابي إلى تأمل تجربته الشعرية وتقييمها بنقلها إلى "حضن أجناسي جديد"، ومنها الاستجابة إلى ظاهرة تلقي الأجناس الأدبية ومراعاة ميول القراء خاصة بعد ازدهار عرفته القصة في تونس بداية الثلاثينيات واهتمام الصحف بنشرها آنذاك.
ويتناول الباحث في نفس الفصل ضربًا آخر من التداخل الأجناسي تجلوه المزاوجة بين الأقصوصة (القصة القصيرة) والسرد السيرذاتي في ضرب من التمرد على قوانين القصة القصيرة وضوابطها. ويستدعي لذلك مجموعة قصصية للكاتب التونسي حسن مشري الموسومة ب "انكسارات هشام السعيد" (منشورات قصص - تونس 2006) حيث يستدل على حضور مقومات السرد السيرذاتي في المجموعة مؤكدا أن "القدرة على استيعاب مختلف الأجناس الأدبية ليست حكرا على الرواية، بل يمكن أن تتاح لجنس أدبي محدود المدى النصّي، قليل الإمكانات السردية مثل القصة القصيرة" (ص191).
4- إن علاقة الرواية بفن السينما قد تبدو أكثر بداهة ووضوحًا في مستوى الواقع والبحوث، إذ تأكد التفاعل بينهما منذ بداية القرن العشرين، وتجلّى خصوصًا في استلهام السينما لعدد من النصوص الروائية وصياغتها فنيًّا. غير أن محمد آيت ميهوب سينظر في الاتجاه المعاكس حيث أصبحت الرواية الحديثة هي التي تستعير من السينما تقنياته وتوظف العديد من خصائص الخطاب السينمائي. بل هي قد تعمد لبناء عالمها الروائي إلى ضروب من التناص بين الخطابين، وقد اختار الباحث لتحليل هذا التداخل بين الفنون نماذج روائية وقصصية هي رواية "ذات" لصنع الله ابراهيم، ورواية "عيد المساعيد" للروائي التونسي رضوان الكوني (الصادرة في تونس سنة 2005 على نفقة المؤلف) والمجموعة القصصية "الارتطام" لسمير بن علي (دار ورقة للنشر 2006).
ويعد النظر في التخييلي والتاريخي في رواية عبد الواحد براهم "تغريبة أحمد الحجري" (الصادرة عن دار الجمل - ألمانيا 2006) الوجه الآخر من وجوه التداخل بين الخطابات وهو ضرب من التطريس أو التناص المقصود بين نص قديم لرحالة أندلسي ونص روائي حديث كتبه عبد الواحد براهم، فكان التفاعل الخلاق بين أدب الرحلة والرواية الحديثة والخطاب التاريخي قصد إنشاء صورة جديدة عن التاريخ لها علاقة بالواقع المرجعي.
5- غير أن هذا التداخل الأجناسي والتفاعل بين النص الأدبي وبقية الفنون والخطابات لم يكن دائمًا علامة تطور إيجابي ومؤشر إبداع متجدد، كما يرى ميهوب، ذلك أن القصة القصيرة بحكم حضورها المكثف في المواقع الإلكترونية الأدبية ونتيجة ضعف علاقتها بالصحافة المكتوبة اليوم، لم تشهد في العالم العربي انبعاثًا وتجددًا كما شهدته القصة والأدب الرقمي في الغرب، لقد انتشرت المواقع الأدبية في الشبكة العنكبوتية وأضحت الإنترنت "وسيطا أساسيا إن لم نقل الأول بين قراء القصة القصيرة وكتابها في مشارق العالم العربي ومغاربه"، لكن البحث في أثر النشر الإلكتروني في بنى القصة ومقوماتها السردية وما صاحب هذا النشر من نقد لا يعكس قيمة فنية حقيقية لهذه النصوص.
نظر الباحث في عدد من المواقع الإلكترونية المهتمة بالقصة القصيرة وفي طريقة تصنيفها للنصوص فلاحظ غياب القواعد في النشر، وعدّد مظاهر الضعف الفني، وكثرة الأخطاء اللغوية وغلبة الخطاب الوعظي والخلط في مستوى التصنيف، إذ تتداخل فيها القصة القصيرة مع القصيرة جدًّا مع الحكايات الشعبية والأخبار. كما بحث في النصوص النقدية الموجهة لهذه القصص ملاحظًا أن "النقد المنتشر في هذه المواقع هو في أغلبه نقد افتراضي سطحي متسرّع لا يمكن اعتماده بأيّ حال شهادة على نجاح النص القصصي وطرافته حتى وإن حاز على عدد هائل من الزوار والمشاهدات والتعليقات" (ص225).
ومع ذلك فقد رأى إمكانية أن تستفيد القصة القصيرة مستقبلًا من الإنترنت حتى تخلق أشكالًا جديدة من الكتابة وطرائق جديدة للسرد، وهو موقف يلتقي فيه مع بعض الدارسين المؤمنين بأهمية السرد الرقمي والتفاعلي ودور الوسائط الجديدة في ضخ دماء جديدة للقصة والرواية وغيرها من الأجناس الأدبية ومنهم سعيد يقطين.
6- يعود ميهوب في الفصل الأخير إلى السينما لا ليكرر ما قاله سابقًا وإنما للبحث من جديد في العلاقة بين الخطابات الأدبية والفنون أو بين الخطاب الشعري والخطاب السينمائي، انطلق الباحث من دراسات غربية تؤكد الوعي بأهمية السينما في القصيدة منهم الشاعر أبولينير الذي تنبأ منذ 1917 بهذا الأثر المهمّ حين قال: "لن يلبث الشعراء أن يجعلوا الصورة هي قوافيهم". وقد تدعم هذا الرأي بعد ذلك بتيار وسم ب "القصيدة السينمائية". ومن مظاهر هذا التداخل بين الخطاب الشعري والسينما تقنيات المونتاج والكولاج (الإلصاق) في النص الشعري وعين الكاميرا وتعدد زوايا النظر والمخططات والمسوّدات. وقد أورد الباحث نماذج من الشعراء الذين وظفوا بعض هذه التقنيات هم أمل دنقل وبدر شاكر السياب ومحجوب العياري وعبدالله المتقي.
7- يعتبر كتاب محمد آيت ميهوب "التداخل الأجناسي في الأدب العربي المعاصر" دراسة مستجدة ومهمة لهذه الظاهرة التي وسمت العديد من الكتابات الإبداعية اليوم ورمت بالقارئ في غمار الحيرة والتسآل، ولم يسلم الناقد من هذه الحيرة فقد جلاها تضارب القراءات والتأويلات وخاصة التصنيفات بين الدارسين. وهو أمر إيجابي إذا تولّد عنه تطوير لنظرية الأجناس. لكنه يعتبر أكبر دلالة على تمرد المبدع عمومًا على كل محاولات التسييج والحصار التي تفرضها النظريات.
إن قيمة هذه الدراسة لا تكمن فقط في ما توفره للباحث وللقارئ عامة من رؤى ونظريات حرص صاحبها على تدقيقها وتعميقها وتوضيحها بالأمثلة التطبيقية، بل تتجاوزها إلى الجمع بين الجانب العلمي والفكر المعمق الدقيق وجمالية الأسلوب وروح الأديب وشاعريته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.