في المحاضرة التي ألقاها الكاتب اللبناني إلياس خوري، مساء أمس الإثنين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في افتتاح مؤتمر الجماليات والسياسة، حذر من الانزلاق مع التيارات الإسلامية في صراعات ثقافية، ورأي أن اسباب صعودهم بعد الثورات العربية، التي رفض أن يلقبها بثورات الربيع العربي، كان أمراً طبيعياً إذ قدم الإسلاميون مشروعاً لسد فراغ القيم الذي خلفته النظم الديكتاتورية الاستبدادية على مدار العقود الماضية. يحمل خوري التيارات المدنية والليبرالية مسئولية صعود تلك التيارات الإسلامية للسلطة، مع عجزهم عن تقديم أي رؤية سياسية أو مشروع سياسي موحد، يحمل رؤية للمستقبل، فبعض تلك النخب المعارضة إما ملوث بالديكتاتورية التي صنعتها الأنظمة المستبدة أو أنهم لا يجيدون الاشتغال بالسياسة، وعجز النخب المعارضة مؤشر خطر، فالعودة للديكتاتورية بالدول العربي احتمالية قائمة طوال الوقت. وتزيد تلك النخب الأزمة بانزلاقها مع التيارات الإسلامية بصراعات ثقافية وهوياتية بينما تترك التناقضات الرئيسية التي يعاني منها المواطن، علي الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون أن تحاول تقديم رؤية تسد الفراغ الذي يحاول الإسلاميون الآن سده بشكل أساسي عبر مشروع للقيم يملأ الفراغ الذي أدي لانحطاط قيمي نتيجة الضغوط التي يتعرض لها المواطن في حياته اليومية. وفقا لجريدة الاهرام ويري صاحب "باب الشمس" التي حولها المخرج المصري يسري نصر الله إلي فيلم تحول لأيقونة من أيقونات السينما المصرية، أن التحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن هو بناء مدونة وكود أخلاقي جديد يسد الفراغ القيمي والأخلاقي ويعيد بناء الفكر والوعي بعدما خلفه الاستبداد من فراغ أخلاقي وروحي كبير، عبر استلهام الفكر العقلاني لتأسيس نهضة عربية ثالثة، تروي عطشنا للقيم الاجتماعية في زمن العولمة والقيم النيوليبرلية. وتناول خوري الثورات العربية، بالتحليل الذي كان مدخله عيون الأطفال وبراءتهم في السينما الإيرانية بعد الثورة واسينما السورية المصرية، فكلما تأزم العالم، واحتاج للنظر إلي أزماته من منظورات أخري جديدة ومختلفة، كانت عيون الأطفال هي السبيل للنظر إلي الأمور بطريقة مغايرة. تحمل الثورات العربي، خصيصة فريدة كما يقول خوري، فهي ليست مجرد ثورات ضد أنظمة وإنما ثورات لأجل القيم الأولية التي امتهنتها تلك الأنظمة، الكرامة والحرية والعدالة، وتفتح تلك الثورات التي دشنها جيل لم يعد قادراً علي احتمال القمع والاستبداد، باباً جديداً في علم التغيير الاجتماعي، فهذا جيل قام ولم يعد قادراً علي احتمال القمع، فقام بثورة دون برنامج سياسي وأدوات جديدة لكنها ناقصة. تقف حكايات القمع الدموي التي قام بها الديكتاتوريون العرب، لتثبت أن الخيال الدموي للديكتاتوريين العرب فاق كل خيال، وفي ذلك يستوي التهريج الدموي للقذافي، مع الجمهوريات المافيوية الوراثية والتي جري تعميمها من العراق وحتي تونس وسلبت من كل نظام عربي شرعيته. فقد نظام يوليو بمصر شرعيته بعد هزيمة 1967، فمع فشله الاجتماعي والاقتصادي، كانت شرعيته الوحيدة مستمدة من قدرته علي بناء جيش قوي يحمي البلاد، وسقطت تلك الشرعية بحرب يونيه 67، وتبعها مشروع التوريث، الذي قضي علي كل شرعية باقية لتعيش الأنظمة العربية أزمة طاحنة اسمها أزمة الشرعية. يبقي السؤال العميق والمحير، كيف استطاعت تلك الأنظمة العربية أن تستمر رغم أنها بلا شرعية، وكيف يمكن أن تأتي الثورة علي تلك الأنظمة كمفاجأة حتي للذين قاموا لها. طرح خوري إجابات كثيرة محتملة، منها شرعية المقاومة ضد إسرائيل وهي التي اعتمد عليها النظام السوري، ولكن تلك ليست الإجابة فلم يسقط النظام المصري الذي وقع اتفاقية مع إسرائيل بل استمر بعدها لثلاثين عاماً وأكثر، يبحث خوري عن الإجابة في التستر وراء القومية العربية، أو الخوف من شبح الإسلاميين ولكنه لا يجد الإجابة. علينا البحث في مكان آخر عن الإجابة، وعلينا البحث في كل بلد عربي علي إجابة عن حالته، فلسنا أمام ثورة عربية واحدة، وعلينا البحث عن الإجابة ليس في طبيعة الأنظمة ولكن في طبيعة النخب المعارضة فالمشكلة لم تكن في آلة القمع وحدها التي دمرت كل شيء في بلادها ولكن في نخب المعارضة، التي لم تستطع التوحد حتي الآن، ويري خوري أنها إن لم تبحث عن برنامج سياسي حقيقي فقد لا تنجح في التغيير حتي بعد 60 عاماً وليس ثلاثين فقط كما اقترح أحد الحاضرين. اجترحت الأنظمة العربية شرعيتها من الفراغ الذي خلفته تلك النخب وبؤس الثقافة العربية، تلك الثقافة التي كان المفكر المصري نصر حامد أبو زيد الذي عاش في المنفي ومات بمصر، علامة علي بؤسها وفخرها في الوقت عينه. تحتاج النخب العربية، لتأسيس مدونة أخلاقية تعيد تأسيس الوعي بالديمقراطية والمواطنة وتسد فراغ الأخلاق والقيم، وتحتاج للإجابة عن الأسئلة التي طرحها خوري ولاتزال إجاباتها مفتوحة علي كل الاحتمالات. وعن البرامج الاقتصادية للتيارات الإسلامية، التي تصنف على أنها ذات سياسات نيوليبرالية، والتي تتوافق مع النظام الاقتصادي العالمي وكانت سبباً لانهيار الأنظمة العربية، قال خوري إن تلك السياسات النيوليبرالية ليست نتاج تفاهمات وتسويات مع الولاياتالمتحدة، وإنما هي جزء من تكوينها فالأعمال الخيرية التي كان يوكلها إليها الأنظمة الاستبدادية لم تعد تجدي في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية ووجودهم أمام تحديات أكبر. واعتبر خوري أن الصمت والسكون الذي يلف ممالك الخليج النفطية، التي تعتقد بأن الثورات لم تمسها بل هي التي تدير تلك الثورات من بعيد هي لحظات مؤقتة لن تدوم طويلاً.