كل الأزمات قد تهون ويمكن التغلب عليها إلا أزمة العقول لأنها تعكس خللا حقيقيا في مسيرة الشعوب.. وأزمة العقول لا تحدث بين يوم وليلة انها ليست ماسورة مجاري تنفجر أو عمارة تتهاوى أو حريق يدمر حيا من الأحياء انها تراكمات من التخلف والجهل وغياب الوعي وهي لا تحدث بين ليلة وضحاها انها تراكمات من عصور القهر والإستبداد وامتهان الكرامة والحريات، وللأسف الشديد ان أزمات العقول تطفح في أكثر من جانب وأكثر من صورة انها قد تبدأ بالفكر المضطرب وتنتهي بالسلوك المنحرف أي انها تجمع الفكر والسلوك معا وحين تختل موازين العقل تطفح على السطح أمراض كثيرة أقلها خطرا عشوائية القرار وانهيار منظومة الفكر واختلال مقاييس الأشياء.. نحن نتحدث عن ظواهر اجتاحت حياتنا سنوات طويلة وللأسف الشديد اننا لم نفكر في أسبابها ولم نعرف طريقنا للخلاص منها بل اننا في أحيان كثيرة كنا نتردد في طرح الكثير من القضايا اما خوفا من السلطة أو خوفا من المجتمع أو خوفا على أنفسنا من اتهامات قد تلحق بنا فنؤثر السلامة ونتعامل مع القبح كأنه حقيقة مسلمة في حياتنا. من أكثر الظواهر التي أضرت كثيرا بالعقل المصري لغة الحوار ان الحوار ليس فقط ما يجري من حوارات ساذجة على شاشات التلفزيون أو ما نقرأ في الكثير من الصحف التي تتعامل مع الإنسان بإستخفاف شديد وليست أيضا قرارات صادمة يطلقها مسئول على غير علم أو مشورة.. ان لغة الحوار تشمل أسلوب حياتنا في العمل والتفكير والرفض والقبول وهي تبدأ من علاقة أبناء الأسرة الواحدة ببعضهم البعض وتنتهي عند وصاية فصيل ديني أو سياسي أو فكري يريد ان يفرض وصايته على المجتمع كله.. كانت لغة الحوار أكثر أزمات العقل المصري تأثيرا ومنذ سنين بعيدة غاب الحوار عنا واكتفينا بأن نجلس كلنا في مقاعد المستمعين. ان سلطة القرار هي الأعلى صوتا.. وسلطة الظروف هي التي جعلتنا قطيعا أمام الوظيفة والمنصب واحتياجات ومطالب الحياة اننا لا نرفض لأن الرفض له ثمن ولأن من تكون لديه سلطة الرفض يجب ان يكون لديه استعداد لأن يدفع الثمن وقد اعتدنا طوال حياتنا ان نأخذ حتى ولو كان ذلك على حساب الكرامة والكبرياء.. أزمنة طويلة اعتدنا فيها ان نصرخ بيننا وبين أنفسنا وان نخاف زوار الفجر وزوار الظهر وما بينهما زوار لكل الأوقات.. لم يتوافر لنا يوما ذلك المناخ الذي يشجع على الحوار حتى وصلت المحنة إلى الأسرة والزوج والأبناء، ان الصمت هو الحق المشروع لكل هؤلاء ولاشئ غيره.. حين انتفض المصريون في 25 يناير ضد نظام ظالم كانت خطيئته الأكبر انه جرد مصر كلها من أهم وأخطر مصادر قوتها وهي عقل الأمة، سطت مجموعة من الأشخاص على كل مؤسسات الدولة من بقى عشرين أو ثلاثين عاما وربما أكثر لم يتغير فيها فكر ولا أسلوب حياة ولا رغبة في صنع أي شئ جديد.. الشئ المؤكد ان عقل الأمة شاخ وكانت ثورة يناير تعبيرا عن هذا الرفض وللأسف الشديد ان عصابة من عصابات العهد البائد سطت على الثورة حتى تخلص المصريون منها في 30 يونيه وان بقيت الآثار السيئة التي خلفتها عهود سابقة غاب فيها الحوار وتجمد الفكر وتشوه سلوك الناس.. كان من الضروري ان تظهر آثار السنوات العجاف بعد ثورة يناير وكما ظهرت فيها حدائق خضراء وشباب واعد ظهرت فيها أيضا مستنقعات وعقول جرداء وطفح الواقع القديم بكل سوءاته على وجه المجتمع في السلوكيات والأزمات والكوارث .. حين نستعرض أهم وأخطر الأزمات التي عبرت على مصر في الفترة الأخيرة سوف نكتشف ان أهمها وأخطرها كان من الثمار المرة للغة الحوار التي سيطرت على الشارع المصري. كانت لغة الحوار السبب الرئيسي في معظم الإنقسامات التي ظهرت في حياة المصريين وكانت شيئا غريبا على الإنسان المصري وهنا كانت الإنقسامات الدينية بين الوسطية والتطرف بين من تحدثوا بأسم الله ومن حاولوا فرض وصايتهم بأسم الدين ثم كانت الإنقسامات بين أبناء النخبة الواحدة حتى وصلنا إلى درجة التشويه والتخوين والإدانة، وتحاول وسط هذه الإنقسامات ان تبحث عن فكر واع أو حوار خلاق أو رغبة حقيقية في التواصل فلا تجد أمامك غير عقول مهلهلة فقدت الوعي والبصيرة.. بعد ان كانت مصر نسيجا واحدا متكاملا وصلت بنا الإنقسامات إلى أبناء الأسرة الواحدة ثم انتقلت إلى أبناء الجامعة الواحدة ثم إلى أبناء المهنة الواحدة هؤلاء أطباء وهؤلاء صحفيون وهؤلاء مهندسون وهؤلاء رجال أعمال وهؤلاء إعلاميون ومنظرون، وفي كل هذا غابت لغة الحوار حتى عجزت فئات النخبة بكل رصيدها الفكري والثقافي ان تنجو من هذه المحنة وتحول الشارع المصري إلى حلبة بين قوى غاب فكرها السياسي ووعيها الحقيقي وتخلت عن هموم المجتمع وقضاياه أمام مصالحها الخاصة.. هل يعقل ان كل هذه الفئات المميزة والرشيدة عجزت ان تتواصل مع بعضها بالحوار وتصل إلى درجة الصدام التي تهدد أمن الوطن واستقراره.. هل يعقل ان هذه المهن التي تمثل أهم القوى في مسيرة المجتمع قد فقدت القدرة على ان تتحكم في سلوكياتها لتتحول إلى قوى ضغط وارباك وفوضى للمجتمع كله.. لماذا لم تعد لدينا القدرة ان نسمع بعضنا البعض وان نواجه المشاكل والأزمات بالفكر والمنطق والحوار كل هذا لأن هيبة العقل سقطت وغابت معها لغة الحوار. من أشهر وأسوأ معارك الحوار التي عشناها في الفترة الأخيرة ان يخرج وزيران من الحكومة بسبب كلمة وليس أكثر.. وان تدور معركة رهيبة بين المثقفين حول أعمال يقال انها إبداع دخلت بأصحابها السجون.. وبدلا من ان يناقش المهتمون قضية الإبداع الحقيقي والإبداع الوهمي دخلوا إلى منطقة أخرى هي قضية الحريات وسجن المبدعين وكان الأولى ان يكون السؤال: هل نحن أمام إبداع أم أمام أشياء أخرى وهل الحرية تعني فتح الأبواب بلا حدود أم ان هناك ضوابط أخلاقية وإبداعية واجتماعية وثقافية يجب ان نضعها في الإعتبار؟!.. كلمة أخرجت وزيرا من السلطة وكلمة أدخلت كاتبا السجن كل هذا حدث في غياب الحوار الجاد الذي يضع أصول الأشياء وقواعد الفكر والسلوك بين البشر. أخطأت الحكومة حين لم تحسب حسابا لقضية تيران وصنافير ولم تمهد بالحوار طريقا تسلكه في هذه المحنة حتى تحولت القضية إلى سجال بين طوائف المجتمع المنقسمة أساسا على نفسها.. لقد فتحت هذه القضية أبوابا كثيرة للخلاف بلا مبرر وكان ينبغي ان تطرح في صورة حوارات وتساؤلات ووثائق ولا نصدم بها الشارع مرة واحدة خاصة ان ملايين الشباب لم يسمعوا عن هذه الحكاية منذ عشرات السنين، كان آخر عهدنا بهذه القضية يوم ان قرر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر منع السفن الإسرائيلية من العبور في مضيق تيران هل بعد كل هذا العمر نصدم الشارع بكل هذه الأحداث، ان السبب في ذلك كله اننا لا نؤمن بالحوار وان نسمع الصوت الآخر والرأي الآخر وهذا من أخطر جوانب القصور التي أصابت الشخصية المصرية في السنوات العجاف حين فسد التعليم وفسدت الثقافة وتسطح الإعلام. ان الشعب المصري بكل طوائفه وفصائله واتجاهاته لم يقدر حتى الأن حالة الحرب التي تعيشها الدولة مع الإرهاب ليس في سيناء وحدها ولكن على كل ربوع الوطن، هل يعقل ان تدور كل هذه المعارك على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف وفي الشوارع وفي النقابات المهنية جميعها تقريبا بينما هناك جيش يحارب وشهداء يسقطون.. هل يعقل ان يدور السجال بين فئات مسئولة وصاحبة دور ورسالة بينما شهداء الشرطة يواجهون الإرهاب بشراسة في كل ارجاء مصر.. هناك قضايا كثيرة ينقصها الحوار وهناك قضايا أكثر ليس هذا وقتها على الإطلاق ولكن الإنسان يتشكك أحيانا ان هناك أيادي خفية مدسوسة تحاول إفساد اللحظة علينا.. هناك قضايا كثيرة أشعلت الشارع رغم انها كان من الممكن ان تعالج دون ان يسمع عنها أحد وهنا تأتي مسئولية وأهمية الحوار فما أسهل إشعال الحرائق خاصة ان هناك أطرافا كثيرة تتربص بنا ولا تريد لهذا الوطن ان ينهض مرة أخرى. ان الشئ الغريب المؤسف ان الإعلام المصري فشل في كل معاركه الداخلية والخارجية نحن أمام حوار مريض يقدمه الإعلام في الداخل وأمام غياب كامل عن التأثير والدور والمسئولية في الخارج والسبب في ذلك هو غياب لغة الحوار.. انها غائبة أمام مهنية فاشلة وقدرات محدودة وفرص ضائعة.. وهي غائبة أمام إعلام خارجي يهاجم مصر بضراوة وكان ينبغي ان يكون إعلام مصر ندا وقادرا على الرد وكشف الحقائق ولكن للأسف الشديد ان إعلامنا يمارس دورا غريبا في زيادة الإنقسامات وإشعال الفتن وإذا اعترض أحد على ذلك وجدت من يصيح أين حرية الإعلام.. هل حرية الإعلام هي هذه المعارك الليلية الصاخبة هل حرية الإعلام هي تقسيم الدولة إلى فئات وفصائل هل حرية الإعلام هي هذه البرامج التافهة والساقطة ما بين السطحية والفوضى والشذوذ. كان الإعلام المصري من الأسباب الرئيسية لتشويه العقل المصري وإهدار لغة الحوار وللأسف الشديد ان الدولة بكل مؤسساتها عجزت عن مواجهة هذه الكارثة أمام إجراءات مترددة وحالة ضعف شديدة يعيشها إعلام الدولة وأمام أيادي كثيرة تعبث في الظلام ولاتجد من يقطعها.. هناك قوى خفية لها حسابات مشبوهة تلعب في هذا البلد ولدينا أجهزة تدرك مسئوليتها ودورها الوطني في حماية مصر ولكن من حين لآخر يشب أمامنا حريق وتحدث كارثة وندرك ان هناك من يتآمر علينا واننا أحيانا نقدم العون لمن يفسدون حياتنا. غياب لغة الحوار مرض مصري قديم هذه حقيقة مؤكدة فقد مرت علينا أزمنة ونسينا فيها طعم الكلام والرفض والإقناع واستخدام العقل بصورة إيجابية وحين طفحت علينا أمراضنا المزمنة بعد 25 يناير كان ولابد ان نتصدى وان نحاول الخروج من هذه المحنة وان نعالج هذا العقل العبقري الذي كان يوما أهم وأغنى وأغلى ثروات هذا الوطن، ان عودة الحوار الجاد المترفع المؤثر والفعال هي أول أبواب الخروج من حالة الفوضى التي يشهدها الأن العقل المصري الذي خرج تائها في الشوارع يسأل الناس عن زمن الحكماء والعقلاء من رموز هذا الوطن.. أين عقلاؤنا يا سادة؟!. ..ويبقى الشعر لا تَسألوني الحُلمَ أفلسَ بائعُ الأحلامْ مَاذا أبيعُ لكم؟ وصوتِي ضاعَ وأخْتنقَ الكلامْ ما زلتُ أصرخُ في الشوارِعِ أوهمُ الأمواتَ أنَّي لمْ أمُتْ كالناسِ لم أصبحْ وراءَ الصمتِ شيئاً من حُطامْ مَازلتُ كالمَجنونِ أحملُ بعضَ أحلامِي وأمضِي في الزحَامْ ******** لا تسألونِي الحُلمَ أفلسَ بائعُ الأحلامْ فالأرضُ خاوية ٌ وكلُّ حدائِق الأحْلامِ يأكلهَا البَوَارْ مَاذا أبيعُ لكم ْ.. ؟ وكلُّ سنابلِ الأحلام ِفي عيني دمارْ ماذا أبيعُ لكُم ؟ وأيامِي انتظارُ.. في انتظارْ انَّي سئمتُ زمانكُمْ وسَئمتُ سُوقَ البيعِ والحلمَ المُزيفَ.. والرقِيقْ وسئمتُ أنْ أبقَى أمَامَ النَّاسِ دَجالاً أبيعُ الوهمَ في زمنٍ غَريقْ كلُّ الذي قلناهُ كانَ ضلالةً كَذبًا وزيفًا.. وادعَاءْ مَا زلتُ أسألُ هلْ تُرَى حَفروا القبورَ ليدفنُوا الموتَى.. أمِ الأحيَاءْ؟ ******** لا تَسألُونِي الحُلمَ أفلسَ بائِعُ الأحلامْ ما عَادتِ الكلماتُ تُجدِي بَارتِ الكَلمَاتُ.. وانفضَّ الَمزَادْ النار تأكلنا فهل تُجدِي حكايَا الوهْم ِ.. والدنيَا رمادْ؟ أأقولُ صبرًا؟ ليسَ في الدُنيَا بَلاءٌ غيرَ صبرِ الأبْرياءْ أأقولُ حُزنًا؟ ليسَ في الدُّنيَا كَحزنِ الأشْقياءْ أأقولُ مَهْلاً؟ ضَاعَتِ الأيَامُ مِنْ يَدنَا هَبَاءْ ******** لا تسْألونِى الحُلمَ قومُوا مِنْ مَقابركُم.. وثُورُوا أحرقُوا الأكْفانَ في وَجْهِ الطغَاهْ كُونُوا حَريقًا.. أو دَمَارَا لا تجعلُوا قبرِي ككلَّ النَّاسِ صَمتًا.. أو دُموعَا مازلتُ أرفضُ ان أمُوتَ اليومَ حيّا كُلنا مَوتَى.. وليسَ الآنَ للمَوتى حَياهْ ولتحفروا قبري عميقا وادفنونِي وَاقِفًا حَتَّى أظلَّ أصِيحُ بَيْنَ النَّاسِ لاَ تَحنُوا الجبَاهْ مُوتُوا وقُوفَا لا تمُوتوا تحتَ أقدَامِ الطغاةْ قصيدة "بائع الأحلام" سنة 1989 نقلا عن جريدة الأهرام