في زمن غامت فيه الموازين، وتاهت فيه البصائر، صار الإخلاص ضربا من الجنون، والنبل تهمة تلقى على من لا يجيد الحيلة، والصدق طريقا وعرا لا يمشيه إلا من نذر نفسه لحق لا يشترى. هنا، في هذا الركام من التناقضات، ترى المخلص يحارب بصمته، ويقصى بنقاء سريرته، بينما يكرم المخادع بلباقته، ويرفع المنافق بقدر ما يتقن التمثيل في مسرح الحياة. فالمخلص… زهرة تنبت في صخر القسوة..لا يعرف غير وجه الله مقصدا، ولا يرى في البذل منّة، بل واجبا يضيء به دروب الآخرين. يعمل في صمت كنبع يتفجر من جوف الأرض، لا يطلب جزاء ولا شكورا، يكفيه أن يرى ابتسامة تولد على وجه محتاج، أو ألما ينزاح عن صدر ضاق بالهموم. لكن ما أكثر ما يخذله الناس! كأن العطاء جرم لا يغتفر في زمن يعبد المال ويقدّس المظاهر. قال تعالى:"هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ" .لكن يبدو أن هذا الجزاء مؤجل ليوم توزن فيه القلوب لا الجيوب، وتقاس فيه القيم لا الأثمان. #يا_سادة نحن فى عصر؛النصاب والمنافق.. الذين يتقنون اللعب بالبيضة والحجر، فهم أبناء الحيلة، وأسياد التزييف، يعرفون متى يبتسمون، ومتى يتنكرون.يجيدون هندسة الكلمات، وتجميل الأقنعة، حتى يخالهم الناس عقلاء زمانهم، وهم في الحقيقة أبرع الممثلين في مسرح الرياء. يبدلون وجوههم كما تبدل الحرباء ألوانها، ويخدعون الناس وهم يظنون أنفسهم أذكى الخلق. ويحضرونى هنا قول الله تعالى:"يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ" ؛ولأن المجتمع قد استمرأ هذا الزيف، صار يصفق للمحتالين، ويقصي الصادقين، حتى اختلطت الحقيقة بالوهم، والفضيلة بالمهارة في الكذب. #وهنا أعرج على تاريخنا ومفكرينا فكم من صادق أُهين لأنه قال الحقيقة، وكم من نبيل أُقصي لأنه لم يجد الانحناء!..ألم يكن سقراط صادقا حين واجه قومه بالحكمة، فأسقوه السم؟ وألم يكن الحلاج مخلصا في حبه لله، فصلب لأن لسانه سبق زمانه؟ بل ألم يكذب الأنبياء وهم صفوة البشر، لما قالوا للناس "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"؟إنها سنة الحق في مواجهة الزيف.. أن يصلب المخلص، ويتوج المنافق، إلى أن يدور الزمان دورته ويعاد الميزان إلى موضعه. فالفيلسوف" كانط" قال:"شيئان يملآن النفس إعجابا متجددا: السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي."فأين هذا القانون اليوم؟ لقد غطاه غبار المصلحة، حتى لم يعد الناس يرون من القيم إلا ما يدر ربحا أو يكسب جاها. #فيا_أيها_المجتمع؛ الذي يكرم الوجوه الملساء وينسى القلوب البيضاء، تذكر أن الأمم لا تنهض إلا حين تعرف كيف تزن رجالها بالضمائر لا بالذهب. أنصفوا من يبذلون دون ضجيج، وامنحوا الصادقين مكانتهم قبل أن تفقدوهم.فإذا رحل المخلصون، انطفأ النور، وعم الصمت، وصار الكذب سيد الكلام. #يا_أبناء_هذا_الزمان؛ لا تجعلوا اللعب بالبيضة والحجر دينا جديدا.أعيدوا الاعتبار للنبل، قبل أن يصبح الوفاء حكاية من الماضي.فالحق، وإن غاب طويلا، لا بد أن يعود، كما تعود الشمس بعد ليل أثيم.