كان بيت بسيط في أحد أحياء القاهرة يضج بالحياة ذات يوم، أب كادح لم يعرف من الدنيا إلا عرق جبينه، وأم تخبئ تعبها بين ضحكات الرضا. عاشا عمرهما يصنعان من شظف العيش كرامة، ومن الفقر غنى. لم يكن لهما من الدنيا سوى أولادهما، وكان "أحمد" – ابن القلب – أمل السنين، قطعة من أحلام الأب ودموع الأم. حملته الأيام إلى الجامعة، وتباهى به الجيران: "ابن الحج طلع مهندس… رفع راس أبوه للسماء!" لكنّ الأقدار كانت تخبئ شيئا من السواد في طيات هذا الضوء. كبر "أحمد" جسدا، وصار له شأن بين الناس، غير أن قلبه ظل غريبا عن موطن الرحمة. نظر إلى أبيه الذي أنفق شبابه لأجله، فرآه مجرد عقبة أمام "المستقبل"، لا سندا له في الدنيا ولا بركة في الرزق. وحين وقف الأب يرفض أن يكتب له البيت، لم يكن يعلم أنه يوقع آخر أوراق عمره، وأن بر الابن الذي دعا له به عشرين عاما قد ذبل في ساعة غضب. يا لله… كيف يسقط الإنسان من أعلى درجات الإنسانية إلى حضيض الوحشية في لحظة؟ كيف ليد طالما أمسكت بكف أبيها خوفا من الزحام أن تمسك سلاحا في وجهه؟ كيف لصوت كان يوقظ أمه كل صباح بقبلة على جبينها أن يتحول إلى صمت يدفنها تحت الخرسانة؟ ليست القصة عن جريمة تروى في صفحات الحوادث، بل عن قلب مات وهو حي. فالعقوق ليس فقط حين ترفع صوتك على والديك، بل حين تنسى أنهما الباب الذي تفتح لك به رحمة السماء. هو موت بطيء للضمير، يبدأ بتبرير صغير وينتهي بدم كبير. لقد قتل أحمد أباه وأمه، لكن الجريمة الأشد كانت حين قتل نفسه، حين طعن إنسانيته، وحين فقد بركة العمر والرزق والروح. إنه نموذج نادر، شاذ عن الفطرة، لا يقاس عليه، لكنه يذكرنا بآية منسية في كتاب الله: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا." فى النهاية بقى أن أقول؛ يا من تسمع وتقرأ، لا تجعل بينك وبين والديك جدارا من كبرياء، فالدنيا تدور، ومن يهين أباه اليوم، قد يهان من ولده غدا. ارفقوا بقلوب أنهكها الدعاء لأجلكم، فإن لحظة رضا من أمك تعدل عمرك كله، ونظرة حبّ من أبيك تفتح لك أبواب السماء.