في قلب دلتا مصر، حيث تختلط رائحة الأرض المزروعة بعبق التاريخ، تقف قرية سلامون القماش شاهدة على عادة ضاربة في الجذور؛ احتفالها بمولد سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك العرس الروحاني الذي تتجدد معه الذكريات جيلاً بعد جيل. منذ مطلع شهر ربيع الأول يبدأ الأهالي في تجهيز السوق القديم، المكان الذي يتحول لليالٍ معدودة إلى مسرح كبير يجمع الفقراء والأغنياء، الصغار والكبار، البائعين والمتصوفة، والباحثين عن لحظة نور وسط زحام الحياة. تُنصب "السارية" عالية في سماء القرية، تحمل الراية البيضاء وكأنها تُعلن بدء موسم الفرح، فيلتف حولها الدراويش في حلقات ذكر، تتمايل أجسادهم على وقع الدفوف، مرددين المدائح في الحبيب المصطفى. لكن المشهد يصل ذروته في الليلة الكبيرة؛ تلك الليلة التي لا تنام فيها القرية. تضاء الشوارع بمصابيح ملونة، وتتناثر حلوى المولد على موائد بسيطة يتشارك فيها الأهالي ما تيسر. يهرع الأطفال إلى الزينة والدمى السكرية، بينما يتدفق الرجال والنساء إلى الساحة حيث تُقام الحضرات وتصدح أصوات المنشدين، فتمتزج الدموع بالابتسامات في حالة فريدة من الصفاء. الاحتفال هنا ليس مجرد عادة، بل هو حالة انصهار روحي واجتماعي؛ حيث يتبرع الأهالي بما يستطيعون لإحياء الليلة، فيشعر الفقير أن له نصيبا في الفرح، والغني يجد متعة في المشاركة . تتجدد روح التضامن بين أبناء القرية، وكأن المولد يصبح مناسبة لتطهير النفوس قبل أن يكون طقسا احتفاليا. ولعل ما يميز مولد سلامون القماش عن غيره هو طابعه الشعبي الأصيل؛ فلا بهرجة مفرطة ولا مظاهر استعراضية، بل بساطة تنبع من قلب ريفي صادق، تجعل الزائر يشعر أنه عاد إلى زمن قديم، زمنٍ كان فيه الاحتفال بالمولد مساحة للدفء الإنساني والبركة. إنها الليلة التي تُعيد تشكيل الوجدان الجمعي لأهالي القرية، حيث يلتقون على كلمة سواء: الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حب يتجدد مع كل ذكر ومديح، ومع كل قلبٍ خاشع يردد: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد".