سيثيا مملكة قديمة زحفت حدودها من الدانوب غربا إلى الصين شرقا، واستطاعت أن تصد أشرس الهجمات الفارسية على شواطئها المترامية هناك رغم قلة المحاربين ونقص المؤن، في حين كانت السفن الفارسية تسد حلق المحيط وتشكل جسرا خشبيا لسبعمئة ألف حذاء متعطش للإمبراطورية. لكن قصة أبناء سيثيا مع الغزاة أمر مدهش حقيقة، ولولا أن أبا التاريخ سطر تلكم القصة لما صدقها أحد. تقول الرواية المشكوك في متنها أن أبناء سيثيا علموا بأمر الغزاة قبل أن تطأ أقدام أول جندي شواطئهم، وأدركوا أنهم هالكون لا محالة، فاحتالوا على العجز بالدهاء. خرج أبناء المملكة عن بكرة أبيهم تسبقهم النساء والولدان، ويتبعهم الجنود البواسل الذين لم يتركوا بيتا إلا دمروه، ولا حقلا إلا أحرقوه، ولا بئرا إلا ردموه. ودخل فرسان الفرس المدينة المحروقة فلم يجدوا فيها حرثا ولا نسلا، ولم يجدوا حياة ولا أحياء. وظل الجنود يغذون السير أملا في قطرة ماء أو بعض الكلأ، لكن آمالهم كانت تتراجع كلما تقدمت أحذيتهم الثقيلة. وبدأ يأس التيه يمتد من البطون إلى الصدور، فتلكأ الجنود، ونظروا إلى الخلف، فلم تصل أعينهم إلى رمال الشواطئ الناعمة، ونظروا أمامهم، فلم يروا إلا مساحات من الرماد المتطاير يغطي وجه السماء الكالحة، ونظروا إلى قادتهم، فرأوا عيونهم الزائغة وجباههم المعفرة بتراب الندم، فعلموا أنهم قد أحيط بهم وأنه لا مهرب من الموت إلا إليه. عندها ألقى المحاربون أسلحتهم وشرعوا في بناء مقابرهم، وساعتها أرسل قائد الفرس المحبط جدا رسالة إلى ملك سيثيا يتهمه بالجبن، فرد عليه ملك سيثيا أن الجبان من ينبش القبور ليصنع مجدا زائفا. وبعد أن استبد اليأس بقائد الجيش الفارسي، جاءته هديته من غريمه قائد السيثيين إدانثيرسوس. وحين فتح داريوس الصندوق، وجد به طائرا وجرذا وضفدعا وخمسة سهام. وترجم المؤرخون نص الرسالة كالتالي: "إن لم يحملك الهواء أو البحر أو الأرض خارج بلادنا، فسوف نمطرك بوابل سهامنا." عندها، وبعد أن اجتهد حواريو القائد في فك شفرة الرسالة، لم يجد الرجل أمامه إلا سبيل الجرذان، فكر على عقبيه هاربا يتبعه جنوده عدوا ولهثا. وعند الجسر الخشبي، كان الموت هناك يتربص بوجوههم الممتقعة وصدورهم الواجفة ورقابهم المعروقة وأياديهم الراعشة. لكن التاريخ الذي يعيد نفسه يغفل بعض التفاصيل أحيانا فيخدع بعض الواثقين بمزاميره. والقادة الذين يتبعون خطى إدنثيرسوس في حرق بلادهم وردم آبارها طمعا في كرسي مورث أو قصر منيف لا يشبهونه في شيئ وإن تشابه الرماد والسواد. فجنود إدنثيرسوس لم يهدموا المدن فوق رؤوس ساكنيها ولم يدكوا المآذن فوق المصلين ويروعوا الآمنين وينتهكوا الحرمات. لم يحل جنود إدنثيرسوس بين العباد وأقواتهم والمرأة ورضيعها، ولم يسفكوا دما حراما ولم يتوضؤوا بدماء أطفالهم، بل تراجعوا إلى الصفوف الخلفية حتى يصنعوا جدارا من اللحم اليابس بين نسائهم ومنتهكي حرماتهم. ولم يتبروا ما علوا تتبيرا كراهية في البلاد وسخطا على العباد. ولم يجعلوا عالي المآذن سافلها انتقاما للرب ممن ضل سواء سبيلهم أو انحرف عن معتقدهم واختلف عنهم في نسكهم. بل دمروا بيوتهم وفي عيونهم تترقرق العبرات ومن حلوقهم تتصاعد الزفرات، لأنهم يعلمون أنهم سيدفعون ثمن البناء من قوت عيالهم حين يعودون. فرق كبير يا سادة بين قادة يحرقون بلادهم ليعودوا إليها، وقواد يحرقون التاريخ ليبقوا خارجه. فرق بين جنود حرقوا ديارهم حفاظا على عفة حرائرهم، وجنود حرقوا ديار مواطنيهم لينتهكوا حرماتهم. فرق بين مقدس ومقدس. فقدسهم كان الوطن والشرف والكرامة، أما قدس ذوي الأحذية الثقيلة في بلادنا المحروقة المنهوبة المفلسة فكرسي يتحرك فوق بساط الشهوة والمنصب والجاه. سيذكر التاريخ حتما حين يقارن بين إدنثيرسوس وبشار تفاصيل الحرق والبعث والنشور. لكن إدنثيرسوس حتما سيبقى في ذاكرة التاريخ وحتما سيخرج طاغية الشام من بابه الخلفي إلى مزبلته دون أن تبكي عليه السماء أو رافعي الأكف نحوها. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.