يبدو أن ولع الفرس بالحروب وميلهم إلى الغزو جبلة أصيلة فيهم، فقد روى هيرودوت الذي رحل عن عالمنا في القرن الخامس قبل الميلاد دون أن يعلم أنه قد ترك لنا وليدا من صلبه أو يعترف ببنوته حكاية غريبة عن بروتوكولات عبدة النار في الاستعداد للحرب. يقول الرجل أنهم كانوا يستبقون الحرب باجتماع عاجل يضم كافة الجنرالات لمناقشة استعداداتهم الحربية من جند وعتاد ومؤن وخلافه. وفي ذلك الاجتماع كان المؤتمرون يحرمون الخمر ويستبعدون كل من فاحت منه رائحتها أو تغيرت بفضلها نبراته. وبعد الاتفاق على كافة التفاصيل يدير الحاضرون كئوس الرحى فيما بينهم حتى تدور الرؤوس وتثقل الألسنة. وعندها، يبدأ الجمع في تناول شئون الحرب من جديد ليتخذوا قرارات أقل وعيا وأقل تحفظا. فإذا ما اتفق ما تفتق عن وعي الرجال مع ما فاح من أفواههم المخمورة أعلن مجلسهم العسكري الحرب فورا. في حِل نحن من تصديق رواية الرجل التاريخية، لأننا تعلمنا من بنيه وأحفاده أن التاريخ يكتبه المنتصرون وأصحاب الهوى، إلا أننا لا نمتلك حتى اليوم دليلا واحدا على انتماء الرجل إلى أي حزب يوناني حاكم في تلك الآونة أو حصوله على تأشيرات سفر إلى بلاد الفرس أو وجود شبكة مراسلين تعمل لصالحه هناك. كل ما نعلمه عن الرجل أنه عاش في اليونان بضعا وخمسين سنة قضى جلها في دراسة تاريخ الحضارات المصرية والبابلية والفارسية القديمة. لكننا إن تخلينا عن ثقافتنا الديكارتية المعاصرة وصدقنا الرواية دون تمحيص في سيرة الرواة، ستقابلنا بعض الأسئلة الشائكة عن إمكانية توحد المرء وجدانيا مع فكره، وهو أمر يستحيل التحقق مع حشد من القادة العسكريين الذين يمتلكون حتما طموحات ذاتية قد لا تتفق كثيرا مع توجهات الدولة أو رغباتها. عصي على التصديق توحد هؤلاء جميعا على هدف قومي واحد وجلوسهم في نفس المقاعد بعد زوال تحفظات الوعي وسقوط أحكام المنطق. ولو افترضنا جدلا توحد النزعات والميول الفردية مع التطلعات والطموحات الأممية، سيواجهنا سؤال آخر متعلق بحسن نوايا الهيئات الرشيدة التي أحصت أصوات الغائبين عن الوعي وانتماءاتهم الأيديولوجية. لكننا حين نلقي بعلامات الاستفهام خلف ظهور النصوص، ونتعامل بواقعية براجماتية مع النص التاريخي، سنجد في تقديس أبناء فارس لمفهوم الدولة وتقديمه على ما عداه من مصطلحات إنسانية أو دينية ما يبرر إلى حد ما تلك الظاهرة التي بسطت لجنود فارس الولائم في كافة العواصم، وأسقطت تحت سنابك خيولهم تيجان الملوك وعروشهم. لم أرد هنا بالطبع الحديث عن هيرودوت ولا عن جيش فارس الذي لا زال يعبث بخارطتنا الإقليمية ويعيث في إنسانيتنا فسادا ويحصى حاجة جيوشه من جند ومتاع ومؤن ليُغِير على ما تبقى لنا من كرامة في دنيا الناس. لم أرد هنا التملص من النص للولوج إلى المعترك السوري الذي دهست فيه سنابك الخيل الفارسية أمن أشقائنا وكرامتهم، ولطخت بدماء الأحقاد جبين الإنسانية والعروبة. لم أرد التحدث عن سفنهم العابرة لتاريخنا والمارة بين جلودنا الحية وعظامنا الميتة، ولم أرد التطرق إلى غفلتنا عن دمائنا وحرماتنا المستباحة ولا عن صرخات نسائنا تحت فحولتهم ولا عن غرق سراويل أطفالنا في ماء الخوف تحت شفرات نصالهم، لأنني أعتقد أن كلماتي لن تحرك ساكنا من رجولتنا فشلت في رجّه آلاف الصور والأفلام الوثائقية. فقط أردت أن أتعجب. أردت أن أتعجب من توحد هؤلاء حول راياتهم السوداء الكاذبة، وتفرقنا تفرقا غير معصوم تحت ألوية حقوقنا المغتصبة. فقط أحببت أن أضع علامات استنكار بين فواصل الإحباط التي تفرقت فوق صفحات تاريخنا. كيف اتفق الفرس في السر والعلانية وألّفوا بين الغيبوبة والوعي في تفاصيل خططهم، وفشلنا نحن في مد جسور الوعي أو التاريخ أو الجغرافيا أو الدين أو النسب أو الإنسانية كما فشلنا في التوحد تحت راية زيفنا وقهرنا وضياعنا وخيباتنا المتكررة؟ لماذا تخلينا عن جسورنا في الوعي والغياب وتحولنا إلى قطعان نافرة لا تجيد إلا لف ألسنتها حول أعواد الحنطة وسيقان الجدل. لماذا يخذلنا الوعي فيجعلنا نتصايح ونتلاعن، وحين يستبد بنا السكر نتصايح ونتلاعن، وكأننا نريد عن عمد أن نؤكد مقولة أبي التاريخ: "أعرف أن البشرية لا تبقى طويلا في نفس المكان"؟ **أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.