بقلم د. رفيق حاج الاستقامة هي ضرورة حياتية هامة جدا لإقامة العلاقات المتينة بين رجال الاعمال وبين رجال الاعمال وزبائنهم ومزوديهم والى تنشيط الحركة الاقتصادية في البلد. يجب نصب "أهمية محدودة" لموضوع الربح في الشركات والمصالح الاقتصادية ولا تجوز استباحة كل الطرق من اجل الحصول عليه هل يوجد للأعمال قيم خاصة بها, تختلف عن تلك التي نعرفها في الحياة العادية؟ هل يُعقل ان نكون مستقيمين ونزيهين في تعاملنا مع افراد عائلتنا وزملائنا ومعارفنا, ومحتالين ومراوغين فيما يخص "البيزنس" والمصلحة والشركة؟ هل نُبدي تفهما لمن يتجاوز القوانين والمتبعات في عالم الاعمال, ونعاقب ونحاسب من يفعل ذلك في الحياة العادية؟ طبعا- لو كانت الاجابة على هذه الاسئلة بالنفي لما قمت بكتابة هذه المقالة. هنالك اصحاب اعمال يقومون بالوشاية على منافسيهم لسلطات الضريبة ليوقعوا بهم, وهنالك شركات لإنتاج الحليب تقوم بخلطه بمادة "السليكون" المسببة للسرطان لتزيد من فترة صلاحيته, ومصانع تقدّم تقارير كاذبة لسلطات الحفاظ على البيئة حول كمية الغازات السامة التي تنبعث من مداخنها, وأخرى تقوم بسكب نفاياتها الكيماوية الفتاكة الى البحار والانهر فتهلك الحياة بها. وبين الفينة والاخرى نسمع عن شبكات تسويقية التي تقوم بتزويد اللحوم للزبائن بعد ان انتهت فترة صلاحيتها. الهدف من وراء هذه التجاوزات التي تقوم بها تلك الجهات هو طبعا كسب الارباح الطائلة على حساب صحة المواطن ورفاهيته الذي قلما يجد الآلية المناسبة لردع الاخطار عنه. طبعا ما لا شك به, ان مثل تللك الخروقات يجب ان تعالج من قبل الجهات المسؤولة وخاصة من قبل الجهاز القضائي الذي يجب ان ينزل اقسى العقوبات على من يتهاونون في حياة الناس, لكني في هذه المقالة لم اقصد التطرق لهذا النوع "الفاضح" من خرق القوانين والقيم وانما لنوع آخر وهو ذلك الذي يقع على الحد الفاصل بين الممنوع والمكروه والذي من الصعب ترسيخه في المعاملات الرسمية واتفاقات العمل. على سبيل المثال, هل يجوز لنا ان نتراجع عن كلمتنا بعد ان وعدنا مزودا شفهيا عن شراء بضاعته؟ هل يجوز لنا ان نقوم ببيع ببضاعتنا لأحد الزبائن بشكل مباشر "متناسين" بأننا تعاقدنا مع وكيل حصري لتسويق بضاعتنا؟ وهل يجوز ان نخبئ معلومات عن الزبون حول المنتوج الذي يريد اقتنائه خشية ان نخسر الصفقة؟ هنالك ايضا امثلة أخرى المحسوبة على حالة غياب القيم والأصول المهنية الغير مكتوبة كالتجسس على تحركات المنافسين واعمالهم عن طريق زرع موظف يعمل لديه لصالحنا. هنالك ايضا ظاهرة معروفة في عالم الاعمال وهي عملية إغراء الزبون للتوقيع على صفقة معينه عن طريق وكيلة مبيعات فائقة الجمال والدلال. لا تنسوا ايضا ظاهرة "سرقة الادمغة" من المنافسين عن طريق اغراء عامليهم ومهنييهم ومدرائهم بشروط عمل أحسن. لا شك بأن المجتمعات تميل الى التواجد في "الوسط" في التعامل مع الاخلاقيات في العمل فلو انضممنا الى حزب "الصِدّيقين" فإننا قد نخسر صفقات سمينة ونفوّت علينا فرصا عظيمة للربح واذا انضممنا الى حزب "المستهترين" بالقيم والاخلاقيات فسينكشف أمرنا وعندها سيعزف عنا زباؤننا ومزودونا ومتعهدونا الذين نتعامل معهم مما قد يؤدي الى خسارات فادحة قد تودي بالمصلحة كلها. ان التطور التكنولوجي الهائل الذي حصل في الثلاثين سنه أخيرة ادى الى حدوث ثورة ايجابية في مجال أخلاقيات العمل حيث عظمت قوة الميديا في كشف الخروقات ونشرها على الملأ . بالإضافة الى ذلك هنالك انفتاح لدى عديد من الشركات والمصالح الاقتصادية حول دمج اهداف اجتماعية بالإضافة الى الاهداف الاقتصادية, وفي هذا قال هنري فورد "ان المصلحة التي لا أهداف لها غير الربح هي مصلحة فقيرة.." اما اينشطاين فقد قال "حاول الّا تكون رجل ناجحا.. وانما رجلاً ذا قيم..". حسب رأيي المتواضع لا يوجد فرق بين "القيم الشخصية" و "القيم الخاصة بالمصلحة". ان من يغش في الامتحان ويخون زوجته ويكذب على من حوله هو نفس الشخص الذي يغش في تركيبة المنتوج ويخون شريكه في العمل ويكذب على زبائنه. الاستقامة هي ضرورة حياتية هامة جدا لإقامة العلاقات المتينة بين رجال الاعمال وبين رجال الاعمال وزبائنهم ومزوديهم والى تنشيط الحركة الاقتصادية في البلد, والثقة المتبادلة تشكّل العمود الفقري للتعامل الاقتصادي بين الشركات في المجتمعات الراقية حيث تسرّع مسارات الصفقات وتقلّص من كلفتها. يجب نصب "أهمية محدودة" لموضوع الربح في الشركات والمصالح الاقتصادية ولا تجوز استباحة كل الطرق من اجل الحصول عليه وعلى كل مصلحة الا تكتفي بوضع خطوط حمراء لعامليها ومدرائها ووكلائها وانما الى دمج قيم اجتماعية سامية في فعالياتها ونشاطاتها كالتبرع للأمور الخيرية ومساعدة المحتاجين. لقد قرر 16 مليارديرا أمريكيا جديدا بينهم مؤسس موقع "فيس بوك" مارك زوكيربرغ التبرع بجزء كبير من ثرواتهم أثناء حياتهم, ولعل ابرزهم هو الملياردير بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت المشهورة الذي قام بالتبرع بنصف ثروته الذي يتراوح 28 مليون دولارا, ولعل اجمل تعليق كتب حول هذا الموضوع ما قاله د. احمد الربعي "لو كان بيدي لعلقت هذا الخبر على بوابات المدن العربية الممتدة من البحر الى البحر، ولأرسلت الخبر بالبريد المسجل الى كل رجال الاعمال العرب الذين يملكون ثروات لا تأكلها النيران! ولوزعته مع دفاتر الاطفال في المدارس، ووضعته على طاولات الافطار في كل بيت، ولأرسلته الى كل الذين يخطبون في المساجد، والذين يعلّمون في المدارس.." ما لا شك فيه ان دمج قيما انسانية في اهداف المصلحة يؤثّر على ممارساتها اليومية وتصرفها مع المحيطين بها, فالمصلحة التي تتبرع بنصف ثروتها للمحتاجين والفقراء لن تقوم بغشهم او استغلالهم وكذلك الامر بالنسبة الى قيم اخرى. البريد الإلكتروني لكاتب المقالة: [email protected]