عندما تولى الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة منصبه عام 1999 طالب "بالعوربة" بديلا عن"العولمة"، وكان الرئيس العراقي صدام حسين عندما انتهت حرب العراق وإيران،قد طالب بمحاولة التأثير على النظام العالمي الجديد الذي يتشكل، واستبدل التأثيرعلى النظام العالمي الجديد بغزو الكويت الذي بدأ به عصر التفتيت العربي، وكانالعراق ضحيته الأولى. انتهت الأموربالواقع العربي إلى استبدال نداء القومية العربية إلى التعايش على تخوم نظام عالمي أحادي القطبية، واستبدل العرب أهداف الاستقلال والوحدة، بخصومات بينية بين الأقطار العربية، واستبدلوا قضية فلسطين كمحور للتحرر العربي بتحويلها ساحة صراع ونفوذ عربي - عربي، واستبدلوا دعم حق شعب أخرج من أرضه، إلى صراع حول السلطة في أرض محتلة. نسي العرب التاريخ،وصاروا على أبواب الخروج منه، ونسي العرب أن الواقع فوق أرض فلسطين لم يعد ناتج النكبة الأولى والتقسيم وقيام دولة إسرائيل، بل تجاوزها إلى نتائج هزيمة 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين والجولان وسيناء، وعندما خرجت مصر من الصراع مكتفية بسيناء مجردة من السيادة المصرية، استبدلت هدف إزالة آثار العدوان بمقولة إن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا، استبدل العرب إرادتهم، بالهرولة إلى الإدارة الأمريكية غير عابئين بمصالحها وتناقضها مع مصالحهم. الاستبدال علي المستوى القومي العربي، كان مؤشرا إلى دخول زمن التردي. ولم تكن وقائع الثورات الشعبية في المنطقة العربية تجري خارج زمن التردي العربي، هي محاولات شعبية للخروج من تلك الحالة، ولكن المواجهات معها كانت أعمق في الزمن والتخطيط وتنوع الإمكانات، من قدرة الشعوب على استكمال مسار الثورة. السودان واليمن وليبيا وسوريا، جميعها دلالات على اختلال التوازن بين حركة الشعوب في سعيها إلى الخروج من زمن الاستبداد من السلطات الحاكمة، أملا في تحقيق مصالحها المباشرة والتي يمكنها أن تكون قاعدة صلبة للمصالح الوطنية والقومية، وبين المواجهات الخارجية والأهداف الأجنبية التي لا تتورع عن القتل والعدوان وتشكيل المحاور، وجل الهدف يتجاوز مجرد أمن إسرائيل والثروات العربية إلى غاية التفكيك وتفتيت الأوطان العربية، وهدم الدولة. ووقائع ما يجري فوق أرض مصر، لا يبعد كثيرا عن هجمات الناتو على ليبيا، أو الدم المسفوك على تراب سوريا، أو ضياع جنوب السودان، أو الاقتتال في اليمن، النتيجة واحدة وتؤكد أن الهدف هو تفتيت الواقع العربي وبكل الأدوات والأساليب . البداية كانت حصارالعقل في مصر بمقولة "سرعة تسليم السلطة لحكومة مدنية" دون أن تملك مصر دستور الثورة، والنهاية مطلب صندوق النقد الدولي بوجود مراقب مالي له بالبنك المركزي، أي العودة إلى الإشراف الأجنبي المباشر على الاقتصاد المصري حتى يمنح مصر القرض الذي تحاول السلطة أن تجعل منه مدخل الوجود وحل المشاكل الاقتصادية لمصر. بين البداية واللحظة الراهنة والتي ليست بالنهاية، كان واضحا أن هناك من يعلم ماذا يريد ولديه أدواته الداخلية والتي تمثلت في جماعة الإخوان، فقد تواصل معها عبر ستة أعوام فيما هو منظور من أخبار ومعلومات متداولة، وسبر أغوارها، وحدد معها مطالبه وقبلت بها. الأهداف الأمريكيةكانت واضحة على النحو التالي: 1. حصار عائد ثورة الشعب، وتفتيت حالة الاحتشاد. 2. الحيلولة دون حدوث المفاجأة الشعبية ثانية. 3. دخول مصر في لعبة الاستقرار الأمريكي بالمنطقة. 4. الحفاظ على أمن إسرائيل. والملاحظ المباشر دون تعمق لما يجري على أرض مصر، يجد هذه الأهداف محل تحقيق، ولن نعدد مظاهر ذلك ولكننا نرصد ما يلي: 1. استبدال شعارالثورة "عيش حرية عدالة اجتماعية"، بالصراع على أسلمة الدولة، والفرز على أساس ديني والدخول إلى صراع مذهبي بين إسلام الإخوان وما عداه من إسلام. 2. استبدال الصراع المصري الإسرائيلي حول سيناء بصراع مع جماعات الإرهاب الديني التي تحاول إعلانها إمارة إسلامية، وإلى صراع مصري حمساوي إذا جاز التعبير. 3. استبدال دولة الثورة التي هي الدولة المصرية دون جماعات الفساد، بدولة الجماعة، واستبدلت أهداف المرحلة الانتقالية في غاياتها من أجل بناء نظام جديد يتطلع إليه الشعب، بأهداف الاستحواذ والسيطرة الإخوانية. 4. استبدال الهوية المصرية بعمقها الحضاري وثقافتها الإسلامية الصحيحة، إلى هوية تقوم على الديماجوجية الدينية، بل بلغ بأحدهم قوله "اللهم أمتني على الإخوان!"مستبدلا كلمة الإسلام بلفظ الإخوان. 5. استبدال هيكلة وزارة الداخلية للعودة بأدائها إلى شعار "الشرطة في خدمة الشعب"، إلى إعادة تكليفها بالقمع ومواجهة الحركة الشعبية بالشارع المصري، مما أعاد ظاهرة زوار الفجر والاعتقالات والتعذيب تجاه كل النشطاء من عناصر الثورة. 6. المحاولات المستميتة لتفكيك الدولة، واستبدال هدف بناء جيش وطني قوي بالهجوم المباشر عليه من عناصرالجماعة، ومحاولات هدم القضاء وإدخال عناصر الإخوان إلى سلك القضاء، ومحاولات هدم المحكمة الدستورية، والهجوم المتوالي على الأزهر بهدف السيطرة، واتخاذ موقف بالعدوان المادي على الكاتدرائية المرقصية والمقر البابوي، وتأجيج الفتنة الطائفية. 7. الهجوم المتوالي على جهاز المخابرات العامة المصرية. هذا كله أمر يراه الجميع، ويرصده، وأخطر ما يمكن عرضه هو العلاقات العربية العربية، فاستبدال وحدة الهدف العربي والمصير العربي والمسؤولية المصرية تجاه ذلك واسترداد دور مصرالقومي، استبدال ذلك كله بأن العرب مصدر مالي لمواجهة الأزمة الاقتصادية المصرية،أحال علاقة مصر بالعرب إلى حالة أقل ما توصف به، إنها حالة من الانتهازية، وليست حالة من الانتماء الواحد والمصالح الواحدة. استبدلوا الدورالقومي المصري إلى حالة من الاستجداء حتى باتت مصر ومواقفها وسياسيات الجماعة عامل انقسام عربي عربي. وإذا جرى تاريخ بداية مرحلة التقسيم العربي بدخول صدام حسين إلى الكويت، فسيجري تاريخ مرحلة التفتيت العربي بوصول الإخوان إلى السلطة في مصر. واستبدلوا الوطنية والقومية بوهم أممية الخلافة، ففقدوا الوجود وطنيا وقوميا، وفقدوا مبرر التكامل القومي، والفارق جوهري بين التكامل القومي العربي، وبين سياسة التسول بتوافقات الحد الأدنى. إن ظاهرة الاستبدال وصلت إلى صناعة النخبة الجديدة، والأحزاب الكرتونية من جديد. لقد نجحت الهجمةالمضادة للثورة بكل روافدها وما امتلكت مفاتيحه، من إجراء الاستبدال في مضمون وشكل واهتمام عناصر شاركت في الثورة، فأحالتهم إلى ذات الصورة من النخبة المتسولة لدور ومنصب وموقف التي ورثناها من نظام ما قبل الثورة، ونجحت الهجمات المضادة للثورة إلى تخليق أحزاب كرتونية جديدة، تلوك الكلمات والشعارات دون مضمونها، فصار الاتهام للثورة بأنها لم تأت بجديد ولكنها أعادت تجميل نظام مبارك القديم بذات مضمونه مع استبدال للأوجه. واستبدلوا مفهوم العدالة الاجتماعية، بالتربص بحاجات المواطنين، وصار وحش الغلاء قرينا لأي حديث عن التنمية، وفقد مفهوم التنمية المستقلة معناه باستبدال مهام البناء والإنتاج بوصاية صندوق النقد الدولي على الاقتصاد. في كتاب"جواسيس جدعون" التاريخ السري للموساد، لجوردون توماس وهو واحد من كتبت ثمين قيمة الموساد، نقل عن وليام كيسي مدير المخابرات المركزية الأمريكية في مارس1986 قوله "تبتكر الأمة مجتمع الاستخبارات الذي تحتاجه، وتعتمد أمريكا على المعرفة التقنية لأننا مهتمون بالاكتشافات وليس بالحكم السري، ويعمل الإسرائيليون بشكل مختلف، والدافع لأعمال الموساد، على وجه الخصوص، هو بقاء الدولة على قيدالحياة". ولو راجعنا مقولة رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية الجنرال عاموس يادلين في أكتوبر 2010 "إنمصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلي، لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً،ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر". منتصف هذا الشهرخرج تصريح نقلا عن رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، بنى جنتس: إن العلاقات الأمنيةالإسرائيلية مع مصر في ظل النظام الحاكم الجديد تحسنت بشكل كبير أكثر مما كانت عليه خلال الفترة الانتقالية، وأن هناك تطورا في التعاون الأمني مع القاهرة منذ عملية عمود السحاب، مضيفاً:"نتائج هذا التعاون الأمني أدهشني وفاجأني". إن هذه المقولاتالثلاث، وربطها بالتصريحات التي نقلها رئيس حزب الوسط المصري عن مرسي، بأن المخابرات المصرية كونت تنظيما من البلطجية لاستخدامه، هي ما يستدعي أن نستبدل نحن السؤال عمن كان يعنيهم عاموس أدلين، خاصة لتطابق ما يحدث مع ما قاله، وعن أسباب اندهاش رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي، وعن مفهوم الأمن القومي لدى السلطة في مصر خاصة وإن كان التعريف الأولي له هو ما قاله كيسي عن الموساد " بقاء الدولة علىقيد الحياة"، فهل استبدلت السلطة المصرية مفهوم الأمن القومية إلى"تفكيك الدولة ونفيها من قيد الحياة". ظاهرة الاستبدال العربية والمصرية تكشف أن العرب في حاجة إلى مراجعة التحديات التي تواجه وجودهم، وأخطرهاتحدي الهوية واستيعاب التاريخ ووحدة المصير أيا ما كانت أوهام الاستبدال الجارية في العقل العربي وتتجسد دما في واقعه.