بقلم د. رفيق حاج من يتمتع بمستوى عالٍ من "الذكاء العاطفي" يعي مشاعر الآخرين ويدرك حدودها ومعالمها. نجاح الإنسان وسعادته يتوقفان على مهارات لا علاقة لها بالشهادات. هنالك العديد من الأشخاص الذين تخرجوا بامتياز لكنهم لم ينجحوا في الحياة الأسرية والمهنية والعكس صحيح. وهذا طبعا لا يعني عدم وجود أهمية للعلم، ولكن لمواجهة الحياة يحتاج الناس إلى الفطنة والفراسة وهي أعلى من الذكاء ان اوّل ما يتبادر الى اذهاننا عندما نصادف مصطلح "الذكاء العاطفي" هو الدهشة والاستغراب من جمع هاتين الكلمتين في قالبٍ واحدٍ, فهنالك "الذكاء" على انواعه الذي نعهده ونشهده لدى المتفوقين من التلاميذ والعلماء والمخترعين ونعتبره هبة خالصة من الله سبحانه وتعالى يهبها لمن يشاء من عباده, وهنالك "العاطفة" التي تُحرّك احاسيسنا ومشاعرنا وتثير بنا الفرح والحزن والشوق واللهفة والحب وطالما عزوناها الى القلب مع انه ليس اكثر من مضخّة تضخّ الدم وتوزّعه الى انحاء الجسم. وكثيرا ما تُذكر العاطفة كنقيضٍ للعقل والذكاء فكيف جمعناهم في مصطلح واحد وقيمة واحدة تسمى "الذكاء العاطفي"؟ هذا فعلا أمرٌ محيّر. هل للذكاء توجد عاطفة؟ او للعاطفة يوجد ذكاء؟ هذه ما سنحاول استيضاحه في هذه العجالة. تعريف الذكاء العاطفي (emotional intelligence) هو قدرة الإنسان على التعامل الإيجابي مع نفسه ومع الآخرين بحيث يحقق قدراً ممكناً من السعادة لنفسه ولمن حوله وذلك عن طريق تحفيز نفسه وإدارة عاطفته بشكل سليم. من يتمتع بهذه القدرة يعي مشاعر الآخرين ويدرك حدودها ومعالمها ويستطيع ان يبني سيناريو مسبق لتصرفات من حوله استنادا على خبرته السابقة معهم او مع امثالهم. بعبارة اخرى يلمّ صاحبها بأطباع البشر ونقاط قوتهم وضعفهم ويستطيع ان يقيّم الوضع دون الحاجة الى معلومات دقيقة ومستندات رسمية او اللجوء الى تحليلات علمية, وهو خبير بلغة الجسم ويتقن التفاوض والجسر بين الهوات ويتنبّأ بقدوم الحدث قبل حصوله. يقول العلماء ان هذا النوع من الذكاء هو العامل الرئيسي وراء نجاح الكثيرين من رجال الاعمال والساسة المرموقين والقادة الكبار الذين أثّروا على حياة البشرية جمعاء بالرغم من انهم لم يتخرّجوا من الجامعات والمعاهد الاكاديمية العليا ولم يحظو بألقاب واوسمة ولم يكون اصحاب اختراعات وبراءات. لطالما حيّرني سؤالٌ حول نجاح صاحب مهنة معينة وفشل آخر فهنالك بعض المحامين الذين طبّقت شهرتهم الآفاق وجمعوا ثروة طائلة من عملهم وهنالك من لا يدخل عليه زبون واحد في الشهر, وهنالك من الاطباء من من ذاع صيتهم في كل ركن وناحية وهنالك من يعملون يوما واحدا في الاسبوع, وكذلك الامر بالنسبة للنجارين والحدادين والبلاّطين والبنائين واصحاب الكراجات فمنهم من ينجح بعمله ويحظى بالعيش الكريم ومنهم من يلتقط انفاسه بصعوبه ويعمل ليل نهار لتوفير المأكل لأولاده. هل تعتقدون ان مستوى المهنية التي يتمتع بها صاحبنا هو العامل الرئيسي في نجاحه؟ هل الشهادات التي يحملها هي تلك اوصلته الى القمة؟ بالطبع لا, فهنالك عدة عوامل أخرى لا تقل اهمية وعلى رأسها قدرتهم على التواصل مع الناس وفطريتهم وحدسهم الصائب وتفاعلهم مع الاحداث وحرصهم على وجود صلات وثيقة مع رؤسائهم في العمل وفهمهم لحاجات زبائنهم الحالية والمستقبلية. هذه العوامل جامعة تُسمى الذكاء العاطفي. وقد بينت معظم الدراسات التي أجريت في السبعينيات من القرن العشرين إن القادة والمدراء يعتقدون أن العمل يحتاج إلى عقولنا وليس إلى قلوبنا, لكن المشهد اختلف تماما مع اقتراب الألفية الثانية من نهايتها فالدراسات والإحصائيات الحديثة التي أجريت في العشرين سنة الماضية أظهرت بشكل واضح إن القائد الناجح هو الذي يؤثر في الآخرين ويحرك في نفوسهم مشاعر الحب والولاء للمؤسسة التي يعملون فيها. ووفقا ل جاكسون ولشا يمثل الذكاء العاطفي %85 من أسباب الأداء المرتفع للأفراد القياديين. هنالك ايضا تأثير ملحوظ للذكاء العاطفي على الأداء المؤسسي، وأنة باستخدام الذكاء العاطفي يمكن مضاعفة إنتاجية الموظفين في بعض الأدوار التي يقومون بها. لهذا السبب هنالك اعتقاد سائد بأن النساء ينجحن في الوظائف الادارية والقيادية لتفوفهن على الرجال بما يخص الذكاء العاطفي. الذكاء الذهني هو مركب موروث برمّته لكن الذكاء العاطفي فمعظمه مكتسب, او بعبارة اخرى نحن نملك القدرة على تطوير ملكة الذكاء العاطفي اكثر بكثير من قدرتنا على تطوير مستوى الذكاء الذهني, وفي كثير من الحالات يكون الذكاء العاطفي كافيا للوصول الى الاهداف المرجوة. انظروا الى المئات من رجال الاعمال الناجحين الذين من حولكم فتجدون ان اغلبهم اكمل بصعوبة الدراسة الثانويه, او انه فشلوا في دراستهم الجامعيه وهناك من يفاخر بينهم بأنه ابتدأ حياته كعامل بناء وآخر كعامل نظافة وآخر كبائع بقدونس في السوق. نجاح الإنسان وسعادته يتوقفان على مهارات لا علاقة لها بالشهادات. هنالك العديد من الأشخاص الذين تخرجوا بامتياز لكنهم لم ينجحوا في الحياة الأسرية والمهنية والعكس صحيح. وهذا طبعا لا يعني عدم وجود أهمية للعلم، ولكن لمواجهة الحياة يحتاج الناس إلى الفطنة والفراسة وهي أعلى من الذكاء. علينا ان نعلم بأنه عندما نقود انفسنا علينا ان نستخدم عقولنا , وعندما نقود الناس علينا استخدام عاطفتنا. نسعى في مدارسنا وبرامجنا التعليمية لتطوير القدرات الذهنية لدى الطالب ونصبّ كل اهتمامنا بأن يحصل صغارنا على نتائج وعلامات مرضية بانتهاء تعليمهم, ونغفل عن اهمية تطوير القدرات الاجتماعية والسيكولوجية الخاصة بالذكاء العاطفي. هنالك الكثير من الطلاب الناجحين والمتفوقين في دراستهم الغير قادرين على التفوه بعبارة واحدة سليمة امام الحاضرين او الغير قادرين على بناء علاقات اجتماعية مع الآخرين ويعانون من الوحدة والتجاهل. بعضُ منهم لا يُدرك كيف يغازل فتاه وآخر كيف ينتمي الى زمرة من الزملاء. هل هذا يعني ان ان نعزف عن تطوير الذكاء الذهني ونصبّ جل اهتمامنا بالذكاء العاطفي؟ بالطبع لا, لأن اثناهما مطلوبان ومكمّلان لبعضهما البعض ومن حباهُ الله بهاتين الملكتين فهو قريب من الكمال ومن يعاني بنقص واحدة منهما فسيؤثّر ذلك سلبيا على انجازاته ومن ينتقص اثناهما فكان الله في عونه. البريد الإلكتروني لكاتب المقالة: [email protected]