حين كنت صغيرة وغريرة ، كان لي أب طيب يرعاني ، بالفطرة يعلمني الحكمة ، يتحدى كل تفاهاتي ، يتصدى بالرفق لبعض مناوراتي حين أحاول هربا من سوط الكلمة ،،،واراوغ كي أتحرر من سطوة التعليم تلقينا بالقوة ، كان أبي أميا يتفقد صفحات كتاباتي ويرتب أوراقي ويعد أقلامي ،،ينتظر بلهفة صغائر خواطري،، ويعجب بنمط عباراتي حين أحادثه ، عايش أبي الحروب وعاش بي دور الحكواتي ، بالسرد والنثر و بالقول ، عرف الأغريق والرومان وعرف الفرنجة والإنجليز،، واتعجب إذ كيف لأمي مثله أن يرطن بعض اللغات ويفهم بالحساب والجبر في الحياة ، وقد أجبر أن يهجر موطنه مرات ،من آباء الآباء حتى يومي لا يحسب كم عدد الهجرات ، مصري لا يعرف سواها موطنه الأصلي ،،، أتفحص وجهه و أفاجاه ببعض ما تعلمت ويتفهم ، يا أبي هذا أنف فرعوني وهذي سمرة متوسطية وعيونك يا أبي شرقية أما الشعر فلا أدري أسواده من طمي النيل؟ أم هو حريري روماني؟ وهذا القوام الأغريقي وسمات الروح العربية ، يبتسم الثغر الطيب ويتمتم فرعوني أم إغريقي أم روماني وعربي ، يتنهد الأب الشاب ويغوص بعيدا يأتيني صوت الأسطورة من الحكايات كان يا ما كان ، يحكي أبي عن سنوات عجاف وعن بقرات سمان،،، ويحكي عن مواسم الجفاف ...ويمتطي سهوة فرس فرعوني ويحكي عن ثورة كانت، وعن أبطال وعن حلم غائب ،، يقول أبي تيمنت حينها حتى رغبت بتسميتك ثورة ثم عدلت وناديتك جمهورية ... أما أنا فلم أعي وقتها التسميات الثورية ولم أنشغل بمعناها ،،، حتى المنادون أضاعوها حين استخفوا بها، شاب أبي وشببنا معه وتلقنا تعاليم الدين والدنيا،، وخطونا فوق خرائط الاحلام ، وعشقنا ناصر وغنينا للوطن الأكبر حتى ثملنا فكبرنا قبل الأوان ،تخطيت سنيني الغضة وعشت إنكسارات الحلم ...شببت وما سئمت أن أركن إلى فضاءات الحلم في حكايات أبي حتى بلغ عامه السبعين شابا لا يشوب وجاهته كدر ، كان يحيا العمر كما عصافير الحقول ، وكما الطيور لا يحمل هم لقوت الغد ،، وحين مات لم يعاني مرضا ، بل كان يستمع نشرة الأخبار ذات صباح، حين سقط كوب الشاي من يد أمي فتعوذنا ، هل حملت نشرة الأخبار سما يسرى في مجرى الدم من أذنيه لا أدري ، ألهاني موت أبي يومين عن متابعة الدنيا ، وحين أفقت ، كنت أخطو فوق خارطة أخرى غير التي في خاطري وفي دمي ، مات أبي على سريره دونما مرض سوى الحكمة ، لكن أمي لا تزال تعتقد أنه شهيد.