بقلم ضياء حسني ذات يوم كنت أحضر فيلما تسجيليا ، كان يقدم فيه شخصية نسائية تدعي أنها الابنة الغير شرعية للفنان الراحل نجيب الريحاني. ظلت تلك الشخصية تتحدث طوال الفيلم عن ذكريات والدتها مع الفنان الراحل نجيب الريحاني ، و كيف كان يأتي لزيارتهم في أوربا و غيرها من التفاصيل . كنت أشاهد الفيلم في مكان به عامل لصيانته و حراسته للمقر جذبه الفيلم فأخذ يشاهده معنا للنهاية ، ثم جاء وقت النقاش و أخذت الآراء تتصارع و الأصوات تعلو ، فانسحبت في هدوء ليلقاني العامل، في الخارج و يقول لي في حكمة البسطاء " أكيد يا أستاذ دي مش بنته " فنظرت له بدهشة فأستطرد ردا على نظراتي تلك قائلا ( إلي يخلي واحدة ست زي دي تدفع فلوس و تعمل فيلم تقول فيه أنها بنت نجيب الريحاني أكيد لأنها مقدرتش تثبت قدام المحكمة أنه أبوها (؟؟؟؟؟ خرجت ضاحكا على بساطة و سذاجة هذا العامل البسيط الذي تصور أن السيدة في الفيلم هي من صنع هذا الفيلم لتدعي ما ليس فيها و ربما لتطالب بما لا يحق لها. و لكني أثناء عودتي للمنزل تذكرت كلمات هذا الشخص البسيط و وجدت فيها تلخيص وافي شافي لتقيم تلك النوعية من السينما التسجيلية التي تدعى أنها تنقل الحقيقة أو تقدم الواقع و لكنها في حقيقة الأمر لا تقدم سوى حقيقة مزيفة و واقع منقوص. فقد ظن هذا الشخص البسيط أن الفيلم الذي رآه هو فيلم مدفوع الثمن قامت السيدة التي تظهر فيه بإنتاجه لتروج لوجهة نظرها و ليس فيلم من صنع مخرج الفيلم.... لماذا ؟ لأنه لم يرى في الفيلم سوى وجهة نظر السيدة المدعية عبر سردها لقصة بنوتها لنجيب الريحاني و قد ترك المخرج و جهة نظرها تسود و تسيطر ولم يقوم بدوره بأي محاولة للبحث و التحقيق في الوقائع التاريخية التي تذكرها و التحقق منها أو القيام بعرض كافة وجهات النظر المؤيدة و المعارضة ... فجاء الفيلم و كأن السيدة هي من صنعت الفيلم و ليس المخرج. بالطبع هذا ليس متعمدا ، و لكن النواقص التي صاحبت صناعة الفيلم و منهج بحثه للقضية المطروحة أدي إلي تلك النتيجة ، التي لخصها هذا العامل البسيط في تصوره أن الفيلم صنعته السيدة بنقودها ( أو بنفسها ) و ليس المخرج. هذا العيب القاتل و الخطير الذي يسيطر على السينما التسجيلية المصرية هو ما يجعلها سينما قاصرة و غير معبرة عن الواقع ، بل قد تكون مزيفة له. شعرت بنفس القصور عند مشاهدتي لفيلم المخرجة اللامعة تهاني راشد الأخير "جيران "، و هي صاحبة فيلم "البنات دول " و الذي عرض في مهرجان كان السينمائي و قد كانت لي عليه نفس الملاحظات . ففي فيلمها السابق " البنات دول " قدمت المخرجة نموذج لأطفال الشوارع ( من البنات ) ، أو بالأحرى تعرضت للبنات الذين يقطنون الشوارع في مصر ( حتى لو كانوا في سن المراهقة )، و بالرغم من جراءة الموضوع و بغض النظر على الصيحات الأخلاقية التي صاحبت ظهور الفيلم و عرضه في مهرجان كان السينمائي ، من فريق ( سمعة مصر ) صاحب السيمفونية الخشبية المعروفة التي نسمعها كل مرة مع كل من يحاول أظهار الواقع الخفي لمصر في الفترة الحالية ، ونتائج الاضطراب الاجتماعي الحادث فيه ألا أني كانت لدي نظرة نقدية لتلك النوعية من السينما التسجيلية. فتهاني راشد تذهب للواقع المراد تصويره مصطحبة كاميرا التصوير ، منظمة لقاءات ( معظمها تقريبا ) مع من يقطنون الحيز الجغرافي التي تصور فيه ( المكان ) و تترك لهم حرية أن يتحدثوا عن نفسهم و حياتهم دون أدنى تدخل منها ، ظنا منها أنها بذلك تقدم الحقيقة بشكل محايد دون أي تدخل يوجه الأحداث في اتجاه وجهة نظرها . المشكلة أن البنات الذين ظهروا في الفيلم جاءوا بصورة سلبية ، مجسدين الفكر المسبق لدى المتفرج الذي يري أن ما وصلوا إليه هو نتيجة لأخطائهم التي ارتكبوها، بل أن هناك البعض ظن أن ما يشاهدوه من ويلات هو عقاب إلهي عما اقترفوه من ذنوب ( الحمل سفاحا – المخدرات ... الخ ) . و لماذا يتولد هذا الإحساس لدى المشاهد ، لأن السيدة تهاني لم تهتم بالموضوع كظاهرة بل اهتمت بمظاهر تلك الظاهرة المتمثلة في البنات اللاتي قامت بتصويرهم. فهى لم تقم بأي بحث خارج عين الكاميرا عن وضع الأسر التي تهرب بناتها للشارع ، و هل يكفي الفقر فقط لهروب الأبناء؟ بل أن اختيارها للبنات فقط كعنصر من تلك الظاهرة ( بالرغم من أن الفيلم يشير إلي أن الجنسين يقطنون الشارع ) بدا و كأن الاختيار من البداية كان لإدانة بنات الشوارع ( و هذا بالطبع ما لا تقصده ) . التصور بأن ترك الكاميرا تلتقط ما يحدث أمامها دون تدخل يذكر ، أو ترك أصحاب الواقع الاجتماعي المراد دراسته يتكلمون أمام الكاميرا دون توجيهم هو نقل للواقع بحيادية ( و هو أسلوب مشابه لتيار السينما المباشرة التي كان عميدها التسجيلي الفرنسي الشهير جان روش ) هو ضرب من الخيال . لأن المخرجة هي من تختار الواقع المحدد ( صورت بنات الشوارع في المهندسين مثلا و لم تصورهم في السيدة زينب ) و قد يكون بنات الشوارع في هذا المكان المعين لا يمتهنون مهنة مثلا و في المكان الأخر يعملون في جمع القمامة ، و بالتالي تلقى الضوء على الاستغلال الاقتصادي الذي يعاني منه فصيل منهم .... لا يظهر و لا يوضح كل هذا عندما لا تتناول الموضوع كظاهرة . كما أنها تقوم بمونتاج الفيلم و تحديد حجم اللقطات و اختيار زوايا التصوير و كل تلك عوامل تدخل منها في مسار العمل و الذي لا يجعل منه عمل محايدا بأي شكل من الأشكال . جاء تقديم بنات الشوارع في فيلم " البنات دول " و كأننا نري فيلما عن البقر الذي يعيش في شوارع الهند و يمشي في الطرقات دون أن يتعرض له أحدا ، أو القرود التي تعيش بين البشر في العديد من ولايات الهند ، دون أن نعلم مدى قدسية تلك الحيوانات في الديانات الهندية ( أو لا نعرف بشكل كاف ) فجاء الأمر و كأننا أمام كائنات غريبة نتعاطف معها ... نكرهها و لكن الأمر يقتصر على من نشاهدهم أمامنا على الشاشة دون أن نعرف الكثير عن الظاهرة في مصر و أسبابها أو ما تفعله الجهود الأهلية لمساعدة تلك البنات ، فقط نستمتع بالاستعراض التي تقدمه لنا المخرجة و غرابته . في فيلمها جيران قامت بنفس الشيء و لكن النتيجة كانت أكثر وقعا على المشاهد. فهي حضرت اجتماع عقده السفير الأمريكي لجيرانه في حي جاردن سيتي الذي تغلقه تقريبا الاستحكامات الأمنية ، و قامت بتصويره ، و جاءت لها فكرة صنع فيلم عن هذا الحي و من يقطنوه و الذين يعتبرون وفقا لعنوان الفيلم " جيران " و قامت السيدة تهاني بأجراء لقاءات مع يقطنون هذا الحي ( أو كانوا يقطنونه ) من سكان قصور و بدرومات و تركت لكل فرد يسرد حكاياته كما يشاء دون أن تتدخل في سرد كل منهم للتاريخ من وجهة نظره ( التي يحق له أن يعبر عنها كما يشاء ) ، و بالطبع بما أن معظم السكان في السابق كانوا من نخبة ما قبل الثورة من الأثرياء جاءت وجهة نظرهم معادية للثورة و عبد الناصر و هو ما أثار حفيظة الكثيرين ، بالرغم من ظهور شخصيات أشادت بالثورة و بعبد الناصر . لكن المشكلة أن المخرجة استمرت في منهجها السابق فلم تقم بأي بحث تاريخي جاد سواء عم يقال من قبل الضيوف ، أو عن التغيرات الفعلية التي شهدها الحي منذ أن أنشاؤه في عهد الخديوي إسماعيل كما يذكر في الفيلم . فنحن لا نعرف شيء عن الحي ألا عبر شهادات من يظهروا في الفيلم ، و بالطبع هذا ليس كافي و لا معبر عما يحدث و عما حدث ، فمن كان يسكن قصور جاردن سيتي وقت أنشاؤه في عهد الخديوي إسماعيل ؟ لا نعرف . من قطنه بعد أن جاءت الثورة و ( صادرت القصور ) ؟ كيف ظهرت الطبقة المتوسطة الجديدة في الحي ( محمود أمين العالم و علاء الأسواني النموذجين التي يقدمهم الفيلم ) ؟ هل هم من أنصار الثورة أم من الطبقة الجديدة التي سادت المجتمع في ذلك الوقت ؟ البنوك التي احتلت الحي في السبعينيات هل هي نتاج لقرار الحكومة أم لبيع تلك القصور من قبل أصحابها من بعد عودتها إليهم؟ و حتى عندما ذكرت الفندق الضخم الذي أتم تشيده مكان قصر فخم تم هدمه ( أظهر الفيلم صور القصر ) لم تحدثنا عن القصر و لا عن نمطه المعماري، و الأخطر أنها لم تذكر لنا أي شيء عن المخالفات و آليات الفساد التي سمحت بهدم القصر وبناء الفندق على أرضه بالرغم من وجود قانون يمنع هذا، وقد سجن محافظ الجيزة السابق لمخالفته لهذا القانون . كما أن ظهور عادل السيوي الفنان التشكيلي الشهير ليحدثنا عن ذكرياته في المدرسة الوحيدة الحكومية الموجودة في الحي ( الإبراهيمية ) لم تبذل المخرجة أي مجهود بحثي حول ما أذا كان مبنى هذه المدرسة هو مبني لمدرسة منذ وجوده أم هو قصر من القصور تحول لمدرسة ( و من بناه و من تبرع بالأرض، أو هو قصر من القصور المصادرة ). سينما تهاني راشد بالرغم من جديتها الشديدة و محاولتها سبر أغوار موضوعات لم يتطرق إليها الكثيرين ألا أنها تنهج منهجا تظنه هو قمة الحياد في نقل الواقع ، ألا أنه يؤدي في الحقيقة لإخفاء الكثير من عنصر الواقع ( حتى لو بشكل غير متعمد ). الواقع و الحقيقة لا يظهران فقط عبر عين الكاميرا بل يجب البحث عنهما بالتحقيق و الدراسة ، فليست الحقيقة هي ما تنقله الكاميرا فقط . و ليس الواقع هو صور ذلك الواقع. كاتب وصحفي وناقد فني بجريدة الاهرام