بقلم د. عادل عامر بلى إنها الأمة! هي هذه الأمة التي تهرع إلى المساجد والأندية لتسمع إلى من يبصرها بعيوبها، ويزيل الغشاوة عن عيونها!. هي هذه الأمة التي تبكي حين يتلى عليها أمر من الله تركته، أو تحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم عصته، أو حوادث تاريخ سلفها الصالح الذي نسيته!. هي هذه الأمة التي لا يختلف عامتها عن خاصتها في فهم العلل التي أنشبت مخالبها في مجتمعنا فشلّت حركته وعاقت تقدمه، بل لا يختلف عامتها عن خاصتها في معرفة الدواء ولكنها تنتظر الأطباء!. هذه الأمة التي يثيرها نداء، ويبعث حميتها تاريخ، ويسيل عبراتها ماض زاهر، وحاضر ثائر، ومستقبل حائر!. هي هذه الجماهير التي رأيتها تتدافع بالمناكب شيباً وشباباً، فلاحين وعمالاً، علماء وجهالاً، إلى الأماكن التي تدعى إليها، فإذا هي كالأرض العطشى تنتظر الماء، بل كالجسم المريض يرجو الدواء، بل كالجنود المشتتين يتطلعون إلى القائد. إنها أمة لو وحدت قائدها لزغردت أمجادها!. لا تستطيع وأنت تشهد بواكير الوعي الاجتماعي تتجلى في تلك الاجتماعات والحفلات إلا أن تتساءل: لماذا لا تستقيم أمورنا الداخلية حتى اليوم؟ أهو إعراض من الأمة أم تقصير من القادة؟ أما هذه الأمة فالله يعلم وقادتها يشهدون أنها ما قصرت في بذلٍ، ولا ونت عن مساعدة، ولا تلكأت عن تضحية، ولا أصمّت آذانها عن نداء، أفرأيت لو أن قادتها الذين قادوها في ميادين النضال السلبي أرادوا أن يقودوها إلى معركة الإصلاح الإيجابي، أكانت تعرض عنهم وتتخلف؟ أوَمِنَ المعقول أن تجيبهم في الحرب ولا تجيبهم في السلم، وأن تمشي وراءهم في الموت، ولا تسير معهم للحياة، وأن ترضى بالخراب والدمار والمنافي والسجون ثم لا ترضى بالبناء والاطمئنان، والإصلاح والعمران. لا! ليست العلة من هذه الأمة ومن اتهمها بذلك فقد جحد فضلها، أو جهل حقيقتها، ولكنما العلة من هؤلاء القادة؛ لم يكادوا ينتهون من النصر حتى ركنوا إلى اللذة والنوم، فمن طالبهم بالعمل أنكروا قصده، ومن ناقشهم الحساب أحالوه إلى الماضي، ومن رغب منهم الجد والاستقامة رموه بالبله والجمود!. ومن عجبٍ أنهم وقد نسوا هذه الأمة في وقت الظفر فلم يذكروا إلا لهوهم ومنفعتهم ونيابتهم وضمان مصالحهم، ما يزالون حتى الآن يمنون بأنهم لها يعملون، وفي سبيلها يسهرون، ولسعادتها يحكمون!.. والأمة تستمع إليها في هذه الدعاوى فيذهلها البهتان، وتؤلمها المراوغة ويحز في نفوسها تنكب السبيل! أمن أجل الأمة هذه المؤامرات لا المؤتمرات؟! ومن أجلها تلك الحفلات والرحلات؟ أو من أجلها تلك الأندية والمقامر والليالي الساهرات؟ ومن أجلها تلك القوانين التي تداس والدستور الذي ينتهك، والرشوات التي يغضى عنها، والمحسوبيات التي تقرب الأغنياء وتبعد الأكفاء، وتعطي الأشرار وتحرم الأخيار، وترفع الخونة وتنسى المخلصين؟!.مسكينة هذه الأمة! عليها الغرم في أموالها وديارها وراحتها وثقافتها وعقيدتها، ولبعض الناس الغنم من أموال الدولة وجاهها ونفوذها وكبريائها.. ولهم السلطة المطلقة في أن يفسدوا ما شاءوا من عقيدتها وثقافتها وأخلاقها وتقاليدها!. كلا أيها القادة! إن أمتكم تريد منكم شيئاً غير هذا؛ تريد أن تحفظوا عقائدها، وتحترموا آدابها، وتصونوا أموالها، وتحقنوا دماءها، وتوفروا طمأنينتها. إنها تريد منكم أن تعنوا بالقرى كما تعنون بالمدن، وبشؤون المحافظات كما تعنون بشؤون العاصمة، وبأبناء الفقراء كما تعنون بأبناء الأغنياء، وبتثقيف سكان الريف والصحراء كما تعنون بتثقيف أولاد الكبراء والزعماء!. إنها تريد أن تعيش في نعمة سابغة، وأمن وارف، وعلم مفيد، وعدالة شاملة، وخلق يسمو بها للسماء ولا يهوي بها إلى الحضيض؟ هذا ما تريده منكم الأمة، وفي سبيله تدفع لكم الضرائب وتحترم القوانين، وتنفذ الأوامر، وتبذل الطاعة، وتدعو لكم بالبقاء، وكل انحراف بها عن هذه الأماني خيانة للأمانة، وتفريط بالحق، وتهديم للدولة!. أيها القادة! إن هذه الأمة فتحت أعينها فجنبوها الظلام، وجمعت شملها، فهيئوا لها الأعلام، وعرفت أمراضها، فاختاروا لها الأطباء، وسلكت الطريق فكونوا لها خير الهداة. يا هداة الركب! كيف تصلون وقد انحرفتم عن الجادة؟ ومتى تصلون وقد أعمتكم المادة؟ وفيم تقودون إذا ضللتم الهدف وفقدتم الغاية ما أعتقد أن جيلين اصطدما في عصر واحد كما يصطدم الشباب العربي مع شيوخ السياسة العربية في عصرنا الحاضر؛ فشيوخ السياسة عندنا نشأوا في عصر الضغط والإرهاق، وفي عهد التملق والحذر والمداراة، فلما خاضوا معركة السياسة ألفوا أنفسهم أمام دولة طامعة قوية تُدلُّ بقوتها وتتيه بكبريائها، ولم يحاولوا أن يكونوا خياليين في مطالبهم من هذه الدولة؛ فقصروا حركتهم على ما يمكن تحقيقه من مطالب الأمة، ولم يشاؤوا أن يصطدموا مع المستعمرين إلا مكرهين! فإذا أصابهم نفي أو سجن أو عنت أو عذاب، كان ذلك نتيجة تعسف المستعمر أكثر من أن يكون نتيجة عملوا لها بأنفسهم وعرفوا خاتمتها وهم في أول خطواتها. ومن حسن حظ هؤلاء الزعماء أن كان في الأمة بقية من إيمان!. حفزها للعمل والتضحية، ونفخ فيها روح الأنفة والكرامة، ثم ألقاها في أتون الثورات والمعارك والاصطدامات؛ فقوافل الضحايا والشهداء والجرحى والمشوهين، وآثار الخراب والثكل واليتم والفقر، إنما كان نتيجة لازمة لثورة الأمة النفسية التي أجج الإيمان أوارها، ولم يكن نتيجة روح أثارها زعماؤنا الشيوخ، ولا خطط أحكموا وضعها!. ولما حاول المستعمرون أن يفاوضوا الأمة الثائرة لم يجدوا أمامهم إلا هؤلاء الشيوخ وهم على وطنيتهم وإخلاص كثير منهم ورغبتهم في إنقاذ أمتهم، لم يكونوا على قدر كبير من متانة الأعصاب، لأنهم في الواقع كانوا يجهلون حيوية الأمة، وطبيعة الاستعمار، ومن ثم كانوا يعتقدون بضعف أمتهم، وقوة أعدائهم، فكان أقل ما يلوح لهم به المستعمر كافياً لأن يعدوه كسباً عظيماً ونصراً مبيناً. كذلك فعلوا عام 1936 في سوريا وفي مصر؛ إذ كانوا ينعتون ما حصلوا عليه من معاهدات يومئذ بينهم وبين المستعمرين بأنها وثائق الشرف والاستقلال! هذا بينما لم يتورعوا عن إضافة ذيول سريعة للمعاهدة تُفقد كل ما بقي للأمة فيها من مظاهر الاستقلال. ذلك الجيل الضعيف في أعصابه، الشاك في حيوية أمته، الفزع من قوة أعدائه، البسيط الطيب الذي يخدع بالمواثيق بل بالابتسامات والتحيات! هو الذي يقف اليوم حائلاً دون اندلاع النار! نار الشباب الذي يستهين بالصعاب، نار الإيمان الذي يهزأ بقوى الأرض، نار الكرامة التي لا تعرف أنصاف الحلول ولا متوسط الأمور! هذه النار هي التي تضطرم في نفوس الجيل الجديد، ولكن شيوخ السياسة يحاولون إطفاءها؛ لأن الحكمة تقضي بالوقوف في وجه السياسة الهوجاء! ويريدون بالهوجاء كل تطرف في الوطنية، وتصلب في الحقوق، واعتزاز بالكرامة، ويرون من مظاهر هذه السياسة الهوجاء، كل ثورة وكل تظاهر، وكل عنف مع المستعمر؛ لأنهم أعطوه الموثق الأكيد أن يسيروا معه إلى نهاية الشوط، فكيف يتركون هؤلاء الشباب يغضبونه ويثيرون حفيظته، فتضيع الكراسي، ويذهب الجاه، وتفوت المغانم، وذلك كله عندهم معناه ضياع الاستقلال!. إننا نمسك اليوم بالعصا نقرع بها ظهور الخوالف، ونهدد بها سلطان الباغين، ولكن شيوخنا الكبار يريدون أن يحملوا الزهور والرياحين ليشهد لهم المستعمر أنهم أهل للحكم ومحل للثقة، ومهما حاولوا أن يقنعونا بسداد آرائهم، وصدق حكمتهم؛ فنحن مع اقتناعنا بذلك نريد أن نسير!. نريد أن نسير! فلا يبقى في الأمة ضعيف ولا خوَّار ولا جبان. نريد أن نسير! فلا يبقى في البلاد غش ولا كذب ولا استهتار. نريد أن نسير! فلا يبقى في الدولة اختلاس ولا رشوة ولا استئثار. نريد أن نسير! فلا يبقى في الوطن أجنبي يمسك بخناقنا باسم "التحالف" بعد أن يئس من ذلك باسم "الاستعمار". من مفاسد هذه الحضارة أنها تسمّي الاحتيال ذكاءً, والانحلال حرية، والرذيلة فنّاً، والاستغلال معونة. نريد أن نسير ورؤوسنا مرفوعة، وكرامتنا مصونة، وتراثنا محفوظ، وقلوبنا مؤمنة، وأيدينا طاهرة، ورسالتنا تشق طريقها إلى القلوب لننقذ الدنيا مرة أخرى!. أيها الساسة الشيوخ، إننا نريد أن نسير فأفسحوا لنا الطريق.