النرويج من قريب بقلم : د. سهير إسكندر منذ 23 دقيقة 10 ثانية كانت النرويج هذا العام مختلفة تغلفها سحابة مليئة بالدموع الحارقة.. هكذا رأيتها هذا الصيف. إن فقدان ما يربو علي خمس وسبعين شخصاً من الشباب علي يد قاتل متطرف يعد أمراً غريباً علي هذا البلد المسالم. ظلت مشاهد الجنازات تحتل الموقع الأساسي في نشرات الأخبار والبرامج الخاصة وكلها لشباب ينتمي إلي حزب العمال النرويجي تم القضاء عليهم عمداً وهم يمضون إجازتهم في إحدي الجزر الجميلة. في تلك التجمعات تقدم جميع الأنشطة الفكرية والسياسية والرياضية. قبل المذبحة بساعات قليلة كانت «جرو» رئيسة وزراء النرويج الشهيرة السابقة قد جاءت إلي الجزيرة لتتواصل مع أجيال جديدة وتقدم خبراتها لأبناء الحزب. بعدها كان القاتل المتهم «أنشي بريفيك» قد ألقي عبوته الناسفة وسط أوسلو وانتقل بسرعة علي تلك الأعداد أمام بعضهم البعض. ثم وصف القاتل أنه أصولي مسيحي يستهدف الأجانب المسلمين بشكل خاص. كل حدث هنا يتم معالجته بوضوح وشفافية ويطلع الرأي العام علي أسبابه وتطوراته. كنت أسمع بعض الهمسات حول شخصية القاتل النرويجي الذي أتاح له الحظ السعيد أن يعامل معاملة إنسانية ويمكث أيامه في غرفة مريحة بها تليفزيون وكمبيوتر (وفقاً لقوانين السجون هنا). سمعت أن القاتل الذي يمكث فترة التحقيق في غرفة فردية يظن بنفسه البطولة ويثق أن دعواه وقضيته في التخلص من الأجانب ستلقي انتشاراً وترحيباً، وأنه صار محور اهتمام الإعلام النرويجي والعالمى! كم كان واهماً أو مختلاً! من الطريف أن مذكرات القاتل تكشف عن إعجابه الشديد بفكر «القاعدة» حيث كان يحلم بأوروبا العصور الوسطي وفرسانها وكان يود لو أن عملياته لقيت نجاحاً متكرراً فإن ذلك سيسهل عمليات القاعدة في أوروبا بما يعجل بالحرب الأهلية الكبري التي يتمناها الأوروبيون والمسلمون وهذا يوضح كيف يفيد الإرهاب من الإرهاب في المدي الطويل. ينتمي القاتل وإن يكن بصورة إجرامية سيكوباتية إلي اليمين المتطرف في أوروبا الذي يرفض سياسة النرويج بالسماح لأصحاب الثقافات المختلفة والأديان والأعراق المتعددة بالتواجد علي أرضها. يري أنصار اليمين المتطرف أن اليسار والليبراليين قد خانوا الهوية الأوروبية وفتحوا أوروبا للإسلام الذي يعد في نظرهم العدو الحضاري أيضاً فقد تأثر القاتل بأفكار المفكرين الصهاينة واليمين المحافظ. اتسمت مراسم توديع الضحايا في «أوسلو» بالشاعرية والجمال والحرص علي تواجد كبار المسئولين في المراسم الأساسية وقد حضر رئيس الوزراء الكثير من هذه المراسم وقال في إحدي كلماته المؤثرة إنه يعرف المشاعر الحزينة التي ستكتنف الكثير من الأسر حينما تأتي احتفالات الكريسماس هذا العام بينما بعض الأبناء مقاعدهم فارغة علي مائدة الاحتفال السنوي الكبير. في تلك الاحتفالات الجليلة كنت أسمع (من المترجم) تقديماً لأهم ملامح حياة الشخصية التي يتم نعيها وأشهر صور وبعض كلمات أحباء تلك الشخصية. في نفس المنطقة التي كنت أقطن فيها في أوسلو تصادف وجود قتيلة من أسرة كردية يصف كل الجيران مقدار دماثة تلك الفتاة وروحها الوثابة الرائعة. معظم الموجودين في المكان من كل الأعمار والثقافات ساروا في تشييع جنازتها المهيبة التي أدمت القلوب. كانت أمها تبكي قائلة: لقد هربنا من العراق خوفاً من القتل ولكن ها أنت تقتلين يا أميرتي.. ظلت تنادي الابنة وهي تنزل إلي قبرها «كل حبي يا أميرتي». سار في تشييع الفقيدة رجال الدين من المسيحيين والشيوخ المسلمين. في التليفزيون تكررت المشاهد لأعداد من الأهل والأصدقاء يذهبون من جديد إلي الجزيرة التي شهدت المذبحة يسألون عن آخر لحظات عاشها الضحايا والكلمات التي نطقوا بها وكيف استقبل الأبناء ذلك القتل الجبان. كم رأيت الزهور الجميلة تلقي في البحر ومعها الدموع في ميادين أوسلو افترشت الأرض كل صور الشباب الجميل الذي لاقي الموت وبجانبه الزهور والشموع. كان الحزن يأخذ بمجامع القلب بينما يصر رئيس الوزراء وهو من حزب العمال وغيره من الساسة من مختلفي الاتجاهات علي أن النرويج لن تغير من سياساتها ولن تفرض وجوداً أمنياً مكثفاً رغم بشاعة الحدث. (من المعروف أن رجال الشرطة في النرويج لا يحملون أي أسلحة).. «ستظل النرويج كما هي تحتضن كل الثقافات والأديان جملة متكررة سمعتها كثيراً بعد ترجمتها لي نقلاً عن التليفزيون أو حتي من بين أحاديث الأصدقاء النرويجيين. في ذكري مرور شهر علي المذبحة كان مؤثراً جداً خطاب العزاء الذي ألقاه ملك النرويج.. لا يحتاج أي إنسان - أو هكذا أظن - إلي معرفة طويلة بهذا الملك حتي يتأكد أنه أمام شخصية نبيلة قمة في العاطفية والحب حينما يتحدث. في كلمته البديعة غالب الملك دموعه حتي غلبته.. وجه كلمة من القلب أحب أن ألخص بعضاً منها بدأها قائلاً: الأعزاء جميعاً الآن وقد استخدمت تقريباً كل الكلمات في الأسابيع الأربعة.. كم كانت ثقيلة.. ولهذا السبب نفسه من الطيب أن نكون مجتمعين معاً.. كأب وكجد وكزوج يمكنني أن أشعر كيف يكون ألمكم وكملك للبلاد أشارككم الشعور كاملاً (هنا بكي الملك).. في الوقت المنصرف مضيفاً خلف بشر أعزاء إلي مقابرهم وأتيحت لنا فرصة أن نتعرف علي كل شخص من الضحايا عبر قصصهم المروية في الإعلام. لقد فقدنا أناساً كانت أمنيتهم أن يستخدموا حياتهم لتقديم الخير للمجتمع سوف نكرم ذكراهم بالعمل قدماً بنفس القيم التي اعتنقوها. أكرر اليوم ما قلته بعد حدوث المأساة: إنني مصمم علي الإيمان أن الحرية أقوي من الخوف.. لقد ذكرتنا المأساة بالأساسيات التي تربطنا جميعاً أيضاً في مجتمع متعدد الثقافات. خلال الأسابيع التي أمضيتها في أوسلو سمعت كثيراً أن خير انتقام سينال المتهم القاتل هو كونه سيتأكد أن جريمة لم تؤثر إطلاقاً علي أسلوب الحياة في النرويج. مع كل هذا فقد بدا كل ما نقل عن المتهم من تعليقات شديدة الاستفزاز إذ لم يبد منه أي شعور بالذنب تجاه فعلته فقط قوله: إنه متألم جداً أنه أثناء ذهابه للجزيرة التي شهدت المذبحة اضطر إلي دهس فأر صغير! علي الجانب الآخر الأكثر مرحاً احتفلت النرويج في تلك الفترة بمرور عشر سنوات علي زواج ولي العهد وزوجته كان زواجهما قد أثار عاصفة من النقد وقتها بسبب أن الأميرة ليست من الأسرة المالكة، فضلاً عن أن كان لها طفل من زواج سابق. شهدنا أحاديث طريفة وصريحة في حديث الأمير وزوجته عن بعضها البعض. تحدثت الأميرة بثقة وحب عن الزواج الذي غير كل حياتها إلي آفاق رائعة. عبرت الأميرة عن معاناتها عندما تركها الأمير مضطراً بعد فترة من لقائهما إلي أن حسم الأمر بينهما بالزواج. عرض البرنامج التليفزيوني مشاهد من حياة ولي العهد وأسرته في المنزل الصيفي وكم كان مدهشاً قلة عدد الغرف وبساطة الآثاث وقلة الخدمة. لقد أوجدت الأسرة المالكة طريقاً مباشراً لقلب مواطن النرويج عن طريق البساطة والتواضع وهي صفات يحترمها أهل البلاد جداً بمثل ما يكرهون العجرفة والتعالي. مع وجود اتجاهات طبيعية في الرأي العام تقترح إلغاء الملكية في النرويج تشبها بالديمقراطيات الأوروبية فإن ما يكتسح الرأي العام هو حب هذا الملك وأسرته بحيث استبعدت تماماً فكرة أي تغيير مع وجود هذا الملك الذي لا يشكل أي ضغط علي مسار الديمقراطية فهو شديد الحرص علي حرية وعدالة المجتمع النرويجي.