لم يُبدع المصريون يوماً قدر إبداعهم في التغلب على الحزن وترويض وخلق الأمل من قلب المعاناة.. يبدو ذلك جلياً حينما يتسلل إليهم العيد بينما الواقع أشد قسوة بسب صعوبة الحياة الاقتصادية لكنهم يجيدون رياضة التفاؤل كما لم يجدها شعب آخر.. مصر الجميلة لا تراها فقط في أحياء الاثرياء الذين تتكاثر ثرواتهم أو في منازل أسر الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء للوطن لكن «المحروسة» تعرف الطريق للعيد حتى بين المقابل حيث العديد من الأسر تقيم جنباً الى جنب مع الأموات.. هؤلاء يجدون أنفسهم مضطرين للفرح ولو باستعارة سعادة غابت عن الملامح طويلاً كي لا يورثوا البؤس لأطفالهم.. في العيد كذلك تمثل الاضحية معنى نبيلاً دعا اليه الاسلام ولأجل ذلك يُعد «الأضحي» جسراً يتلاقى عليه الفقراء والاثرياء حتى تستأنف الحياة مسيرتها خاصة مع تزايد الاعباء بالنسبة للسواد الأعظم من المصريين وتكون الصكوك وسيلة لمساعدة البائسين والفقراء. دخل الربيع يضحك لقانى حزين نده الربيع على اسمى لم قلت مين... حط الربيع أزهاره جنبى وراح وإيش تعمل الأزهار للميتين.... عجبى!! ظلت تلك الرباعيات لصلاح جاهين تسكن ذاكرتى و تخترق أذنى وأنا أتفقد أحوال طبقة تعيسة من السكان يزداد عددها يوماً وراء يوم وتزداد مشاكلها.. حياة أفرادها بين المقابر لكنهم أحياء. قد يرتجف جسدك أثناء مرورك من أمام المقابر، فماذا لو كنت تعيش بداخلها مع أموات كادوا أن يثوروا علي من يقاسمهم التراب؟ لقد استكثروا على الأموات المساحات الخالية بين القبور فاستوطنوها... فالمكان هناك يتسع للموتى لكنه يفتح ذراعيه أيضاً للأحياء، لتستيقظ علي منظر الشواهد الصماء، وتنام خائفاً من اللصوص الذين يطرقون الأبواب ليلاً، فلا تسمع سوي صمت الموتي وصراخ أقاربهم، ولا تستنشق غير رائحة العظام بعد تحللها، ويا ويلك لو حلت بالمكان جثة حديثة حيث ستداهم أنفك لأيام روائح تفسد عليك الاحساس بالحياة.. هناك اختفت أيضاً ابتسامة الأطفال.. اختفت لتحل محلها هموم عميقة أكبر من أعمارهم، لم تسعهم الأحياء الراقية والشعبية أو حتي العشوائيات، فزحفوا نحو الأموات ليبحثوا عن مأوى. صديقة الموتى فى «مدافن السيدة نفيسة» كانت رحلتنا، التقينا بالحاجة «سعاد محمد» التى تعيش بالمقابر طيلة حياتها ولديها 7 أطفال تزوج منهم ستة ويعيشون بالقرب منها ولكن فى بيوت منفصلة، تقول: الفرق بيني وبين الميت.. أنني أتنفس وهو لا... وتصف الهدوء الذى يغمر المقابر بالممل والمحبط؛ فلا شيء يتغير ولا الموتي يستيقظون ولا هي تلحق بهم، الزمن توقف ولا نري بوادر المستقبل، هنا فقط الحلم يظل حلماً ولا يتحقق! وتواصل حديثها: الحياة في المقابر لها طابع خاص، فبعد غروب الشمس تختبئ السيدات والبنات داخل الأحواش خوفاً من متعاطي المخدرات والمنحرفين الذين يتخذون المقابر ملجأ لهم في الليل، ففي كل مرة نفتح فيها الباب لا نجد سوي الظلام، ونتظاهر بالسعادة لأننا في أطهر مكان بالأرض.. وكل ما أتمناه هو أن يرتاح أولادى من المعاناة ونعيش فى شقق مثل بقية الناس وتقوم الحاجة «سعاد» ببيع الورد أيام الجمعة لزائرى المقابر...وهى تضيف قائلة: ولاد الحلال دايما بيفتكرونا فى الأعياد. أما الحاجة أم منصور فهى تعيش هنا منذ 50 سنة ولديها 6 بنات وولدان اصطحبتنا الى داخل الحوش المكون من غرفة واحدة مظلمة تشمل على سرير وبوتاجاز وخزانة ملابس وكنبة أنتريه متهالكة، وغسالة تستند إلى أحد الأركان، وحبل ممتد من الشاهد إلي الحائط حاملا بعض الملابس المنشورة.. وهى لديها من الأحفاد 19 وهى لا تخشى من ليل المقابر قائلة: «تعودنا علي الموت، فكبرنا ولعبنا معه!!»، مضيفا: الحياة هنا هادئة وسهلة، وعندي انتماء للمكان، ولا أرغب في الاختلاط بالفوضي والسيارات، لأني أتوه وسط الأحياء. وتقول أمل ابنتها الكبرى - مطلقة ولديها طفلان- : أعمل فى مستشفى خاص حتى أساعد والداى فى نفقات المعيشة وهى تحمد الله على كل حال...وفى العيد بنفرح رغم أننا نسكن مع الموتى لكن الأطفال اعتادوا على ذلك ونحاول رغم كل الظروف الصعبة أن نجعلهم سعداء فى العيد، فأخى يأتى لزيارتنا ونقوم بذبح الخروف وتقسيمه علينا. أما الحاجة أم ماهر فتقول: حياتنا بسيطة عايشين مع الأموات ومصيرنا أن نلحق بهم.. كل ما أتمناه هو الفرج وتنظر الينا الحكومة بعين العطف ونحن راضون بقضاء الله «فعيشة الميت أحسن من عيشة البنى آدم» ...هكذا ختمت أم ماهر حديثها بكلمات تقطر حزنا وألما. وبالقرب منهم كان يجلس أبو كامل ويعمل «تُربى» وهو يقول: نفسنا فى شقق نحن هنا «منسيون» وأشار الى غرفة صغيرة يعيش فيها أسرتان عدد أفرادهما 12 فرداً منهم 8 أطفال.. والمؤسف هو أن أخاه قد تقدم منذ حوالى 7 سنوات للحصول على شقة لكن باءت محاولاته بالفشل.. ينهى حديثه قائلاً: «لا أريد سوي غرفة بحمام لبناتي بعيداً عن عيشة الميتين». وتقول أم اسلام – صاحبة كشك– وتعيش فى أحد الأحواش مع زوجها وأطفالها الستة، اننى أقوم أيضا ببيع الورد فى العيد لأن زوجى سائق والمصاريف كثيرة وعمله وحده لا يكفى لسد متطلبات المعيشة خاصة أن هناك اثنين من أطفالى فى المدارس.. ونحن نقوم فى العيد بشراء اللحمة ولا نمد أيدينا أبدا الى أحد والحمد لله مستورة وكل من يسكن هنا لديه عزة نفس ولا نقبل التسول..حتى يظل أطفالى دائما مرفوعى الرأس. وتختم أم اسلام حديثها قائلة: احنا انتخبنا السيسى وإن شاء الله البلد تقوم على ايديه. في بيوت الشهداء والعيد فى بيوت الشهداء، حزن وألم ولكنه يحمل كل معاني الوطنية والكرامة، زرناهم في بيوتهم، ورأينا عنكبوت الفراق.. الفراق على أعز الأحباب يكسو كل النوافذ والأبواب، ولسان الحال يردد فى شجن «عيد.. بأى حال عدت يا عيد» ونعنى هنا بيوت الشهداء والمثير هو انك إذا دخلت هذه البيوت وجالست أهلها فلن تجد سوى الرضا والتسليم بل والفرح بقضاء الله وحُكمه في أهل هذا البيت....اذهبوا إلى كل بيت شهيد فى العيد وقولوا لأسرهم كل سنة وأنتم طيبين، فلنطرق أبوابهم ونرسم على ملامحهم فرحة المشاركة ونقول لكل أم وكل أب وكل طفل أو طفلة إن دماء شهيدهم لن تذهب هدرا، انحنوا على أيادى أمهات الشهداء وقبلوها وأخبروهن بأنكم بديل لأبنائهن الذين راحوا فداء وطن بأكمله، أخبروهن بأن شهداءهن أحياء عند الله يرزقون، وأحياء فى قلوب الوطن خالدون مكرمون، قولوا لكل أم فقدت ابنها شهيدا إنكم أبناؤها، وقولوا لكل طفل فقد أباه شهيدا إنكم مكانه ستلبون نداءه عند الحاجة، لأن فى رقبتكم دينا لا يقدر بمال ولا بخدمات..اسمه الكرامة. يأتي عيد الأضحى هذا العام العام ودموع الألم لم تجف، حيث دخلنا في العديد من منازل وضباط الجيش والشرطة، الذين استشهدوا وهم يدافعون عن أرضهم، فرقهم الموت تاركًا الأحزان لأسرهم وأطفالهم. كان لنا لقاء مع والدة الشهيد الرائد محمد أبو شقرة – ضابط مكافحة الإرهاب الدولى – وهو كان من أكفأ 10 ضباط فى جهاز الأمن الوطنى و أصيب ب7 طلقات أثناء قيامه بأداء عمله بالعريش. تقول والدته بكلمات تقطر ألماً وحزناً: ان محمد كان مواظبًا على الصلاة، ومُحبًا للأطفال، وتكفل بطفل يتيم اسمه عبد الله، ووعده أن يكون في المستقبل ضابط شرطة، وأصرّت والدة الشهيد الرائد محمد أبو شقرة على التكفّل بهذا اليتيم بعد استشهاد نجلها. وكان الشهيد رحيماً بكبار السن والمحتاجين وغير القادرين، وكان يُوزّع بنفسه في الشهر الكريم الشنط الرمضانية على الفقراء، وكان يجلس على الأرض مع كبار السن في دور المسنين، وكان يأكل معهم بكل تواضع. والدة الشهيد محمد أبو شقرة، لم تعد تحتفل بأى مناسبة خاصة أو عائلية، وقالت: «أجمل هدية لى فى العيد المقبل أن آخذ حق ابني وأثأر له». وأكملت حديثها: «رغم فخرى الشديد به، كنت أعلم منذ البداية أن نهايته الموت، وكنت أعارض بشدة دخوله كلية الشرطة، وطلبت منه الالتحاق بالهندسة، لكنه رفض، وأصر على الشرطة، قائلا: (أريد أن أكون ضابطا مدافعا عن الوطن ضد المجرمين). تحكي أم الشهيد الرائد «طارق أسامة» الذي توفي في 30 يناير 2011 أثناء مهاجمة أقسام الشرطة، عن ذكرياتها معه وتقول: كان «طارق» محباً للحياة وإنساناً بمعني الكلمة، وكان يحب عمله وعطوفاً علي جميع العساكر والأمناء، وكان يقوم فى العيد بشراء عجلا ويقوم بذبحه وتفرقة اللحم على أمناء الشرطة، كان دائما يتذكر الغلابة خاصة فى الأعياد وكان أثناء تواجده فى العمل حريصا على أن يتصل بى لتهنئتى بالعيد أو يخطف لحظات قليلة حتى يأتى لرؤيتى ثم يعود الى عمله سريعا. وكان «طارق» يهتم أيضاً بكل شئوني فقد كان سنداً لي في الحياة وفقدانه صعب علي، فقد أصبحت الآن جسداً بلا روح وأنا لم أنسه ولا لحظة واحدة. أما أسرة الشهيد اللواء شرطه أحمد زكى سالم، شهيد الغدر، والذي اغتالته يد الإرهاب بتفجير سيارته أمام مسكنه في 23 ابريل 2014، يرون لنا كيف يقضون عيدهم ويفندون لنا ذكرياتهم مع الشهيد قبل وفاته خاصة خلال ايام العيد، مؤكدين أنه كان ابا وزوجا وابنا حنونا وبارا بوالديه وواصلا لرحمه، مشيرين إلى أن الحياة بعد فراقه ليس لها معنى وليس العيد فقط، مضيفين: «لو الأرض بتتكلم والطيور بتتكلم كانت قالت مين اللي ماشي عليها ومين بياكلنى». وقال كريم نجل الشهيد اللواء محمد السعيد مدير مكتب وزير الداخلية، والذى أستشهد في أثناء توجهه إلى عمله بمنطقة شارع الهرم بالجيزة في 28 يناير من العام الماضى، يقول والدي كان يحرص في تلك الأيام على قضاء العيد في قريته في محافظة سوهاج، وكان يصطحبنا للبلد، وكنا نشعر بفرحة كبيرة، خاصة ان تلك الايام كانت هي المناسبة الوحيدة التي يحصل فيها على اجازة من عمله. وأضاف أن الفرحة أصبحت غير مكتملة في ظل غياب القائد والمعلم، لم تفقده أسرته فقط، ولكن افتقده العديد من الفقراء، الذين كانوا يحرصون على الذهاب إلى والدى في تلك الأيام، فهو كان حريصاً على أن يكون رحيماً على الفقراء، وكنت أشعر أن المنزل عبارة عن جمعية خيرية، حسبنا الله ونعم الوكيل، فيمن تسبب في غياب فرحتى بالعيد.