كان المشهد الأخير لرحلة الفنان العالمي عمر الشريف من مسجد المشير طنطاوي من أسوأ المشاهد التي مرت علي الوسط الفني المصري عبر تاريخه، كل الذين يتابعون مصر منذ صباح الجمعة الماضية وهو اليوم الذي رحل عنا عمر الشريف توقعوا أن تكون جنازة هذا الفنان مظاهرة فنية ضخمة يحضرها الصغار قبل الكبار في هذا الوسط، لكن كالعادة كل الفنانين خذلوا عمر الشريف وخذلوا قبله هذا الوطن علي اعتبار أن هذا الفنان طوال مشواره وهو منحاز له وفضله علي كثير من البلاد التي أرادت أن تمنحه الجنسية، لذلك توقع كل محبي هذا الفنان ليس في مصر فقط لكن في كل أنحاء العالم أن يشاهدوا مشهد رائع يليق بأفضل من أدي مشاهد سينمائية من المصريين علي شاشة السينما العالمية، لكن كالعادة كان الوسط الفني غائب، اللهم إلا بعض الفنانين الذين يعدون علي أصابع اليد مثل حسين فهمي وسمير صبري الحاضر في كل المناسبات دائماً وخالد النبوي وميرفت أمين وأشرف زكي نقيب الممثلين وسامح الصريطي ومجدي كامل وزوجته مها أحمد والمخرج أحمد ماهر والفنان الكبير جميل راتب، رغم حالته الصحية المتراجعة لكنه حضر، وغاب كل من كانوا يتمسحون في عمر الشريف وهو علي قيد الحياة غاب كل من حاولوا أن يصدروا للعالم العربي أنهم أصدقاؤه، كما حضر من الشخصيات العامة الوزير الأسبق زاهي حواس، والغريب في الأمر والشيء العجيب أن الفنانين بكامل هيئتهم تجدهم حاضرين في أي مناسبة لأي قناة فضائية أو جهة إعلامية أو إعلانية ويتسابقون علي الانتشار في الحفل والتقرب من رجل الأعمال صاحب القناة أو القائم بإدارتها لا لشيء إلا من أجل أن يجد لنفسه دوراً في مسلسل أو الظهور في برنامج من إياهم ممن يحصلون منه علي الدولارات، والغريب أيضاً أن هذا يحدث في الوقت الذي اهتم فيه نجوم الصف الأول في السينما العالمية علي رثاء الفنان الراحل وليس هذا فقط لكن اسم عمر الشريف سجل في يوم رحيله، والأيام التي تلته أكثر الأسماء تداولاً من حيث البحث، وهذا هو الفارق بين إناس تعي وتقدر قيمة وقامة الفنان وآخرين لا يعون قيمة أي إنسان، ليت عمر الشريف لم يعد من الخارج لأنه هناك كان سيجد التكريم المناسب في رحلة العودة إلي العالم الآخر. بموت عمر الشريف علينا أن نقلب الصفحة ونغلق الكتاب لأن رحيله يعني أن الفصل الأخير من كتاب الإبداع قد انتهي، نعم مصر تمتلك مجموعة كبيرة من الممثلين من أصحاب المواهب الرفيعة وبها قامات لا يمكن إنكارها لكن في الوقت نفسه هناك أسماء في عموم الأمور لا يمكن أن تتكرر، ربما تجد ممثلاً أكثر موهبة من عمر الشريف أو ممثلة أكثر موهبة من فاتن حمامة أوأم كلثوم أو عبدالحليم أو عبدالوهاب، لكن لا يمكن أن تجد أحداً يكرر ما أنجزه هؤلاء العمالقة من حيث كم الأفلام أو الأغاني التي صنعوها والتي تمثل تراثاً مصر الذي لن يتحول إلي كم مهمل مهما مرت عليه آلاف السنين، هؤلاء تركوا تراث يوازي ما صنعه الفراعنة بناة الحضارة المصرية القديمة التي مر عليها خمسة آلاف عام بالتمام والكمال، في منتصف يناير الماضي رحلت السيدة فاتن حمامة سيدة الشاشة العربية، ووقتها ذكرنا في نفس هذا المكان والمساحة أن العقد انفرط ولم يعد من حبات اللؤلؤ التي انفرطت الكثير، ولم يمر أكثر من ستة أشهر حتي سقط آخر حبات اللؤلؤ من العقد. نعم لدينا مواهب نسائية كثيرة في التمثيل لكن هل من بديل تستطيع أن تمنحه ذات اللقب الذي حصلت عليه فاتن حمامة.. الإجابة طبعاً من المستحيل أن تجد من يعوضها. عمر الشريف من هذه النوعية التي لا تتكرر في بلد واحد إلا مرة واحدة، نعم لدينا عشرات النجوم من كبار الممثلين لكن من أين تأتي بعالمية عمر الشريف «لورانس العرب» أو فنان يؤدي مشهد من مشاهده في السينما المصرية، هل لدينا من هو في قيمته وقامته؟.. هل لدينا فنان يمكن أن يصمد علي الساحة العالمية طوال هذه السنوات الطويلة ثم ينسحب منها بإرادته؟ عمر الشريف من نوعية نجيب محفوظ ومن نوعية توفيق الحكيم ومن نوعية يوسف وهبي ومن نوعية فاروق الباز وأسامة الباز، من نوعية الخطيب وحسن شحاتة ومن نوعية خوفو وخفرع، ومن نوعية زاهي حواس وعبدالوهاب وأم كلثوم، الأسماء التي لا تتكرر علي مدار العمر، لذلك عندما نفقده فنحن نفقد معه معاني كثيرة وشريط سينمائي امتد لعشرات السنين.. وعلينا أن نعترف إننا منذ عصر فاتن والشريف لم يظهر نجم أو نجمة يمكنهم أن يكونوا بديلين لهما، نعم جاء أحمد زكي وقدم أعمالاً مبهرة حتي إن عمر الشريف نفسه قال فيها وفي أحمد زكي الكثير لدرجة أنه منحه الأفضلية عن نفسه، لكن من الناحية الواقعية والعملية لم يسد فراغ الشريف أحد. قد نتهم بأننا ضد المستقبل الذي ربما يمنحنا من هو أفضل، لكن إذا كان الله منحنا من هم أفضل موهبة في فترات ماضية بعد جيل عمر أو أثناء وجوده لكنهم لم يحسنوا استغلالها كما ينبغي، لذلك لا يمكن أن نعوض عمر الذي أحسن استغلال موهبته أحسن استغلال، لذلك وصل إلي العالمية وظل الباقون يتحدثون عنها من مقاهي القاهرة أو من شرفات منازلهم، علينا أن نعترف إنه آن الأوان أن نقلب الصفحة ونغلق الكتاب، ونتعايش مع الواقع الذي نعيشه الآن أنصاف مواهب يدعون النجومية في كل مجالات الفن تمثيل وموسيقي وغناء. أزمتنا في مصر أن كل ألوان الفنون تحولت إلي سلع، كل فنان يتعامل معها علي حسب الطلب عليه، لذلك أري أن غياب النجوم رغم انتقادنا له هو اعتراف ضمني من الفناين بضآلتهم أمام نجومية من غابوا عن الجنازة، فمن هم لكي يشيعوه إلي مثواه الأخير.