لا أحد ينكر أن المؤسسات الدينية الرسمية عليها الدور الرئيسي في تطوير الخطاب الديني، بوصفها تجسد منذ نشأتها لسان حال الأمة الإسلامية، لذا يمكنها أن تلعب دوراً إيجابياً لصالح المجتمع، خاصة فى ظل ما تشهده الساحة حالياً من التضارب فى الفتاوى التى تؤدى إلى البلبلة فى الفكر وإشعال نيران الفتن والمكائد والشرور برجال الأمة الشرفاء، وهو ما يعظم من دور القنوات الدينية الشرعية فى هذه الفترة لتقديم الخطاب الدينى السليم وصحيح الدين، الذي بات يعد قضية أمن قومي، الأمر الذى يتطلب تفعيل دور المؤسسات الدينية، تحت عيون ورقابة الأزهر الشريف، باعتباره ضرورة قومية للمحافظة على الوسطية والاعتدال وتوحيد ونشر الدعوة الإسلامية، ولقداسة بيوت العبادة، ودورها المتميز فى التصدى للمفاهيم الخاطئة، والأفكار المضللة، التى ينشرها شيوخ الفكر المتطرف، وتقوم بعملية «غسيل مخ» لعقول الشباب والبسطاء، وتحض على الكراهية والشغب والاقتتال. ولكى نحقق الغاية المنشودة فى الإصلاح، فعلينا أن نقوم بنشر صحيح الإسلام، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، التى عمت الفكر، وغرس القيم الصحيحة، ونشر الوعى والتنوير، وطرح رؤى وآليات للفكر الدعوى الحديث، وقبول العملية الديمقراطية، وإنهاء حالة الفوضى، والسماح بالاختلاف وفق رؤية الشرع، والبعد عن فكر التطرف والتكفير، وتجريم كل صور العنف والتطرف ورفع السلاح فى وجه المسلمين، تحقيقاً للوحدة الوطنية هدفاً جامعاً وموحداً، بما يرسى دعائم السلام والرحمة والتسامح واحترام الإنسانية، بعيداً عن كوابيس العنف والفتنة والتكفير.. ليبقى السؤال: هل الدعوة رسالة أم وظيفة؟ «توحيد الخطاب الدينى».. مصطلح يتردد على مسامعنا كلما طرأت مستجدات أو تطورات فى المجتمع، حتى إنه لا تمر مناسبة دون الحديث عن التجديد الدينى، وذلك بالعمل على تصحيح صورة الإسلام، ونشر قيم السماحة والرحمة وإشاعة الإخلاق الطيبة والحد من الأفكار الضالة والمتطرفة.. وما أكثر التصريحات التى يدعو الرئيس «السيسى» فيها الأزهر الشريف، ودار الإفتاء، ومجمع البحوث الإسلامية، ورجال الدين، للقيام بما وصفه ثورة دينية ذات أسس وقواعد سليمة لتصحيح الخطاب وتغيير طريقة التفكير الدعوى - يقودها أهل العلم - لتنقيته وتجديده وتطويره وتوحيده، خاصة فى ظل فوضى الفضائيات، وأفكار جماعات العنف الفكرى والمسلح، الذين يستندون إلى فتاوى الدم والخراب، وتحريف الكلام عن موضعه، وأيضاً وزير الأوقاف الذى أكد مراراً وتكراراً على المضى قدماً نحو بحث آليات التجديد - محملاً علماء الأزهر لواء التجديد والتوحيد. مفاهيم خاطئة.. ومحاولات للتصحيح بداية يرى الدكتور محيى الدين أحمد عفيفى، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، أن نشر صحيح الإسلام وتصحيح المفاهيم الخاطئة عنه، يتطلب تضافر الجهود بين كل مؤسسات الدولة وأطيافها المختلفة، ممن يقع عليها عبء توعية المجتمع وتثقيفه وقيادته فى وقت الأزمات. وأضاف: «كفانا رسائل سلبية تحض على الكراهية والانقسام، وخلق جو من عدم الثقة بين المصريين والمسئولين بالدولة، حتى يطمئن الشعب ويشعر بالأمل فى المستقبل». وأكد «أمين عام مجمع البحوث الإسلامية» ضرورة حماية المجتمع من الأفكار المتطرفة والهدامة، وتحصين الشباب المصرى ضد نزاعات التعصب التى باتت تهدد أمن الوطن واستقراره، وهذا يستلزم غلق جميع البرامج غير المؤهلة دينياً، من خلال الأزهر الشريف وعلمائه الأجلاء فى وضع الأسس العلمية والضوابط الشرعية التى يتم على أساسها تجديد الخطاب الدينى لتوعية الشباب من الانسياق وراء الأفكار الدموية، ومواجهة المتطرفين من قبل بعض المذيعين فى قنوات الفتنة والدم، والتركيز على الجوانب المضيئة للدين كعامل استقرار لا احتراب أو صراع، مشيراً إلى أن الأزهر الشريف من منطلق دوره العلمى وعبر تاريخه يعمل على نشر المنهج الوسطى، وتوحيد الصفوف فى الأوقات الصعبة من خلال تلاحم فئات المجتمع، بما يخدم صالح الوطن، ويؤدى إلى دعم الانتماء لمصر، وينبذ قوى التطرف ودعاة الفرقة. مطلوب خطاب مستنير والتقط طرف الحديث، الشيخ علي أبوالحسن، الداعية الإسلامى، رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف، قائلاً: «إن الخلاف لا يتعلق بما هو متفق عليه فى أصول وقواعد الشريعة، وإنما تجديد وتطوير الخطاب الدينى يستلزم توحيده أولاً، أى بوجود خطاب دينى جامع وموحد، يتميز بالبساطة والوضوح، يخاصم الغلو والتطرف والعنف بأرضية معرفية حديثة تمكننا من التواصل مع العصر والاعتراف بالآخر، بعيداً عن الانزلاق نحو تسييس الدين أو الإلغاء والإقصاء. ويشدد «أبوالحسن» على أن أهم آليات تحديث الخطاب الدينى هو التواصل مع العامة بأسلوب سليم وبقدر عقولهم، وفق رؤية وسطية تتفق مع ثقافة البشر والعصر الذى يعيشون به. ومن جانبها ترى الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة الإسلامية والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بفرع جامعة الأزهر بالإسكندرية، أن القصد من تطوير الخطاب الدينى هو القضاء على العنف ودفع عجلة التقدم.. ومن ثم يجب الاهتمام بالخطيب أو الداعية فهو الركن الأول والمهم فى هذا البناء، وبدونه لا يرتفع للخطاب بناء، ولا ترسخ له أسس، ومن هنا وجب العمل الدؤوب لإعداد العلماء والدعاة، الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية، والأخلاق، لأن المسلمين أحوج ما يكونوا اليوم إلى الداعية البصير والحكيم «أى قدوة حسنة»، وأيضاً العالم المتمكن، الذى إذا لجأ العوام له قضى بالحق، وإذا استفتى أفتى على بينة وبعد نظر وحسن تخطيط وتلطف فى الخطاب لكسب قلوب الناس، وأن يكون مهموماً بدعوته دون كلل أو ملل، ومخلصاً لها، وصادقاً فى قصده، حتى يمكن إبطال كيد الأعداء، وفضح خططهم، ورد تدبيرهم إلى نحورهم. وأضافت الدكتورة «آمنة» أن المسألة هنا ليست مقتصرة على الجوامع والدعاة فحسب، ولكن هناك أدواراً اجتماعية وثقافية كثيرة للعديد من المؤسسات المهمة بالدولة كالمؤسسات الإعلامية سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية، بالإضافة إلى الدور التربوى فى المدارس التى عليها تربية نشء جديد، إلى جانب دور الأسرة وهو الأكثر أهمية، وأخيراً دور وزارة الثقافة، مشيرة إلى أهمية تكاتف الجميع لكى نقدم صورة عقلانية عن كافة الديانات السماوية، بعيداً عن الصراعات والمطامع السياسية. ووافقها الرأى السابق، الدكتور محمد عبدالمنعم البرى، أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية الدعوة جامعة الأزهر، رئيس جبهة علماء الأزهر الشريف سابقاً، فيقول: الإسلام هو دين الرحمة، ومن ثم يجب أن يضم الخطاب الدينى جانبين هامين.. الأول: دعوى.. والثانى: دينى، بما يعود إلى أصالة الإسلام، وهذا يتطلب التركيز على ضرورة أن تحوى كلماته عن العمار والتوحيد نحو الإسلام الصحيح بما يملكه من معان إنسانية لها احترامها، كما أنه سوف يمنع حدوث انقسام أو تشرذم، وهو ما يحتاج إليه المجتمع فى الوقت الراهن. وأضاف: الإسلام هو رسالة عالمية تخاطب العقل والوجدان، وتصلح من شأن البشرية وتعمل على رقيها وسعادتها، وما دامت الشريعة الإسلامية هى شريعة الختام والتمام والكمال.. فلابد أن تتناغم مع الشرائع السابقة وتتفاعل مع جميع الأحداث والمستجدات، وتتواءم مع المطالب والحاجات وتتسع عباءتها لجميع الأطياف والأجناس. تصحيح الأفكار المغلوطة وعن رؤيته لتطوير الخطاب الدينى، يقول الدكتور محمود عاشور، وكيل الأزهر الشريف الأسبق: المسألة تحتاج إلى المفاهيم التى تتطلب منا التجديد، وتصحيح الأفكار المغلوطة التى يتبنى البعض نشرها غير متيقنين لأى قواعد علمية صحيحة، ومن ثم يجب أن يضطلع به من هو مؤهل له، من أصحاب رسالة التبليغ لنشر الإسلام الحق، وإدراك أصول الدين وفقه العصر والمرحلة، والتصدى لجماعات التكفير والفرقة والانقسام. وأردف الدكتور «عاشور»: أننا نرحب بالطبع بالقنوات التى تلتزم بالشرع والسنة والأخلاق والقيم والمثل الإسلامية، ولكن ما يقدم عكس ذلك فإننا لا نرحب بوجودها، فبعض تلك القنوات ترتكب الكبائر وتهاجم المجتمع. وشدد الدكتور «عاشور» على أهمية توافر شروط محددة فى الداعية أو الخطيب الذى يتصدر مشهد الدعوة، أولاً: أن يكون قدوة ونموذجاً ناجحاً يمثل واجهة الدين وصاحب رسالة، لأن الإخلاص أمر يحتاج من صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ولا يعفيه منها أن الدولة تهمشه أو الإعلام يتجاهله أو يقدمه بشكل لا يليق.. وثانياً: أن يكون حكيماً وعليماً وحليماً.. وثالثاً: الشعور بالمسئولية واحترام الوقت والتصدى للموجات الإرهابية فكرياً، والضعيفة علمياً.. ورابعاً: أن يتعايش الخطيب مع التطورات ومستجدات عصر الفضائيات والتكنولوجيا الحديثة والاجتهاد، وأن يبذل قصارى جهده للتقرب من المواطنين عن طريق الاطلاع على مجريات الأمور والرد على الأسئلة ومعرفة الاستفسارات، بما يوفق بين الدين والشرع والالتزام بمنهج الوسطية والاعتدال، وهو ما تعلمناه فى الأزهر الشريف، ومن ثم لابد أن نعلمه لأولادنا.. مضيفاً أن الداعية هو إعلامي فى حد ذاته وهو يمارس أقوى وأخطر شكل من أشكال الإعلام أو الاتصال المباشر، خصوصاً أثناء خطبة الجمعة مع المسلمين، حيث الاتصال المباشر الجمعى والتأثير السريع المباشر أيضاً، وأما عن الصورة السلبية فإن هناك من الدعاة من يسيئون لأنفسهم، حيث يتكلمون لغة لا يتكلم بها العامة، وينطقون ألفاظاً يعف اللسان عن ذكرها، ويقدم بعضهم نماذج مشوهة تسىء للدعاة، ويكتب بعضهم تعليقات على شبكات التواصل لا تتفق، وإنما الداعية الحقيقى ينبغى أن ينتقى اللفظ ويحفظ للبشر حياءهم. التطرف والإرهاب أكبر الأزمات وللخروج من هذا المأزق، يقول الشيخ شوقى عبداللطيف، مستشار وزير الأوقاف للقطاع الدينى فى شئون الفتوى سابقاً: إن توحيد الخطاب الدينى يتطلب تصحيح المفاهيم المغلوطة عن صورة الإسلام التى نشرها شيوخ الفكر المتطرف التى تزرع التطرف فى عقول الشباب، وتحث على العنف والقتال والفرقة والتشرذم، وهى أهم وأكبر الأزمات التى يتعرض لها المجتمع الإسلامى فى الفترة الأخيرة، وهو ما نهانا عنه الله عز وجل. وأوضح الشيخ «عبداللطيف» أن الخطاب الدينى الموحد هو الحلم الذى ينبغى أن يشغل عقولنا، وهذا يتحقق من خلال تعريف المواطنين بالفهم والتفسير الصحيح لآيات القرآن الكريم لمنع استغلالها من قبل المتطرفين فكرياً، وأيضاً نشر ثقافة الوعى، وإبراز الآيات التى تحث على العلم والإيمان والمساواة والوحدة وقبول التعامل مع الآخر وتقبل وجهات النظر المختلفة. التغيير قادم أما الدكتور فؤاد عبدالعظيم، إمام مسجدى الإمام الشافعى والحاكم بأمر الله ووكيل وزارة الأوقاف لشئون المساجد والقرآن الكريم الأسبق، فيؤكد: أن مواجهة الأفكار المتطرفة وتصحيح صورة الإسلام، يستدعى تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها، يكون شغفهم التغيير، وانفتاحهم نحوه، واستهدافهم جميعاً منهج أهل السنة والجماعة. وأشار الدكتور «عبدالعظيم» إلى أن الخطاب الدينى القويم، الذى ينأى عن التحزب هو ذلك الخطاب الذى يقوم على المنهج الوسطى المعتدل، الذى يميز جوهر الإسلام، ويقوم على التيسير والهوادة والتوازن والاعتدال، ويرفض الغلظة والعنف فى التوجية، خاصة أن الفكر المتطرف لا يقبل بالرأي الآخر. واستطرد: إن المساجد أنشئت لإقامة الشعائر الدينية وليس لأغراض سياسية أو نشر أهداف تيارات معينة تحرض على العنف والفوضى. متابعاً أن التجديد يقصد به إحياء جوهر الدين والعودة به إلى منابعه الأولى معرفة وفهماً وسلوكاً، بحيث يتجلى أثره فى الواقع الحياتى ولصالح البشرية، فيكون منظماً لشئونهم، ومصححاً لسلوكياتهم، فى إطار الثوابت والمقاصد الشرعية. ضوابط صارمة فى حين طالب الدكتور على ليلة، أستاذ علم الاجتماع السياسى بجامعة عين شمس، بترك الحديث عن الخطاب الدينى للعلماء والمختصين فى الدين فقط، مشيراً إلى ضرورة وضع ضوابط للحديث فى الأمور الدينية، وألا تستغل المنابر الدعوية لحساب أشخاص أو جماعة، أو يختلط ذلك بألاعيب السياسة أو يحمل شبهة للدعاية الانتخابية لطرف أو حزب سياسى معين دون الأحزاب السياسية الأخرى، خاصة أن مصر تستعد لانتخابات برلمانية جديدة، ومن ثم يجب أن يكون المبدأ الحاكم للدعاة «لا دين في السياسة.. ولا سياسة فى الدين»، وهذه المبادئ الأساسية التى ينبغى أن يلتزم بها الدعاة والوعاظ، حتى تكون خطاباتهم موجهة للدفاع عن الأخلاق العامة والقيم الإنسانية العليا والقيم السمحة التى جاءت بها كافة الديانات السماوية وآخرها كان الدين الإسلامى.. موضحاً أن بعض القنوات الفضائية تشحن الناس بكلام ليس له علاقة بالدين، وبالتالى يجب أن يحكم الأزهر الشريف دوره وسيطرته على هذه المنابر الدعوية، لأن الخطأ إذا تكرر سيكون كبيراً هذه المرة. وناشد الدكتور «ليلة» كل أبناء الوطن بأن يتصدوا للأعمال التخريبية التى تصدر عن التيارات المتطرفة وتمارس العنف والتطرف والشغب والاقتتال والفتنة بدعاوى عقائدية عن طريق «دعاة الفتنة والتكفير»، وأن يحاولوا جاهدين الضرب بيد من حديد على أيدى هؤلاء العابثين بمقدرات مصرنا.. ف «الدين لله والوطن للجميع».