ما الذى يجعل الكلمة خطراً؟.. هكذا تساءل جونتر جراس الكاتب الألمانى عندما حصل على جائزة نوبل عام 1999، وأخذ يعدد الكتَّاب الذين تمت ملاحقتهم منذ فجر التاريخ، ثم قال بملاحظته: «معظم الكتَّاب الذين لوحقوا لم يخالفوا الدين أو الدولة أو المبادئ السائدة بشكل مباشر، لكنهم أوضحوا حقيقة واحدة وهي أنه ليست هناك حقيقة واحدة، لكن هناك عدة أوجه للحقيقة». ويقول المؤرخ البريطاني هوبل: «إن أردت أن تلغي شعباً ما، تبدأ أولاً بشل ذاكرته، ثم تلغي كتبه وثقافته وتاريخه، ثم تكتب له كتاباً واحداً فقط وتنسب له ثقافة هذا الكتاب، وتخترع تاريخاً من هذا الكتاب وتمنع عنه أي كُتب أخرى عندئذ ينسى هذا الشعب من كان وماذا كان وينساه العالم». جاء قرار الإدارة التعليمة بالهرم، الموجه لمدرسة فضل الحديثة، بضرورة التخلص من الكتب المحرضة على العنف والتطرف من وجهة نظرهم، بمثابة الصدمة لغالبية المجتمع المصرى، خاصة أن طريقة التخلص من الكتب كانت بمثابة كارثة، حيث قامت وكيلة الوزارة ومديرة المدرسة، وبعض المدرسين، بجمع 75 كتاباً من الكتب الموجودة فى المكتبة الخاصة بالطلاب، ومنها كتب «أحداث النهاية» للداعية محمد حسان، و«عدو الإسلام» لجلال دويدار، و«منهج الإصلاح الإسلامى» للدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، و«جمال الدين الأفغانى» لعثمان أمين، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلى عبدالرازق، و«صفات المسلمة الملتزمة» للداعية السلفى محمد حسين يعقوب، و«أصول الحكم فى الإسلام» للدكتور عبدالرازق السنهورى، و«هذا هو النبأ العظيم» للدكتور زغلول النجار، وقاموا بحرقها فى فناء المدرسة، أمام التلاميذ والطلاب. هذا الحادث يذكرنا بحوادث حرق الكتب التي تعتبر مصائب تتذكرها الأجيال بعد الأجيال، والتاريخ ملىء بأمثلة عديدة شرقاً وغرباً. تعددت فواجع حرق الكتب والمكتبات بين العام والخاص على مدار التاريخ العربى والعالمى، فكانت فى الحالتين وبالاً على الإنسانية والحضارة، ومن الكوارث التي لحقت بالمكتبات الكبرى في العصور الإسلامية مكتبة ابن رشد. ففي يوم 16 فبراير 1198 ميلادي تمّ جمع كل الكتب الموجودة في مكتبة ابن رشد التي تضم إلى جانب كتب هذا القاضي الفيلسوف كتباً أخرى لابن سينا والفارابي وابن الهيثم وغيرهم ووقع تجميعها في الساحة الكبرى بإشبيلية ووسط حضور حاشد وأُرغِمَ ابن رشد على مشاهدة مئات الكتب لعشرات الفلاسفة والمفكّرين العرب وهي تُحرق وسط تكبير وصراخ الغوغاء بتحريض من بعض شيوخ الدين. وابن رشد هو أبوالوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، ولد في 1126م، في مدينة قرطبة أحد أبرز المدن الأندلسية «إسبانيا» في ذلك الوقت. وهو فيلسوف، وطبيب، وفقيه، وقاضِ، وفلكي، وفيزيائي، ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري.. يعد من أهم فلاسفة الإسلام في عصره، ودافع عن الفلسفة وصحح علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. تولى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، إلا أنه كغيره من العلماء والقضاة الذين دافعوا عن حرية الفكر، تعرض الفيلسوف والقاضي لاتهامات من عدد من علماء الأندلس والمعارضين المتشددين له بالكفر والإلحاد، فقد كان يرى أنه لا تعارض بين الدين والفلسفة، وعلى إثر تلك الاتهامات نفاه أبويعقوب يوسف إلى مراكش وتوفي فيها 1198م، وذلك بعد حرق كتبه ومؤلفاته، من أبرز مؤلفاته كتب: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» و«مناهج الأدلة»، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية في الأصول، «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، وقد أكد فيه ابن رشد أهمية التفكير التحليلي كشرط أساسي لتفسير القرآن الكريم. وظلت السلطات تمارس العنف نحو العلماء لهذا كانوا يحرقون كتبهم بأيديهم بدءاً من الفقيه الزاهد داود الطائي الذي ألقى بكتبه في البحر، والزاهد المعروف يوسف بن أسباط الذي ألقم كتبه غاراً في جبل وسدّه عليها، وأبي سليمان الداراني الذي قال: «والله ما أحرقتك حتى كدتُ أحترق بك»، وسفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وقال: «ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً»، وأبي سعيد السيرافي الذي أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار، وكذلك منهم «أبوذرا الحافظ» و«الدارمي» و«ابن جبير» و«الربعي» و«التوحيدي» و«القرطبي» وغيرهم من العلماء والمفكرين. لم تكن المكتبات الخاصة أوفر حظاً من مكتبة ابن رشد، فلم تنج أبداً من يد الجهل من أهمها مكتبة بني عمار، حيث أسس بنو عمار مكتبة ضخمة في طرابلس الشام تحمل اسمهم، تم حرقها من قبل الصليبيين في القرن العاشر الميلادي. كما كان من بين أهم المكتبات التي أحرقت على أيدي الحكام العرب أيضاً «مكتبة ابن حزم الأندلسي» المتوفى سنة 1063م.. وكانت مكتبته من بين أضخم المكتبات الخاصة في الأندلس.. وثار حوله الجدل مما حدا بالمعتمد بن عباد صاحب أشبيلية أن يأمر بحرق كتبه علناً، كذلك تم حرق مكتبة عبدالسلام بن عبدالقادر البغدادي المدعو بالركن، بأمر الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفى سنة 1225م. وعندما فتح السلطان محمود الغزنوي مدينة الري وغيرها سنة 1030م، قام بقتل الباطنية ونفى المعتزلة وأحرق كتب الفلاسفة.. واستخرج كتب علوم الأوائل وعلم الكلام من مكتبة الصاحب بن عباد وأمر بإحراقها، كما تعهد المنصور الموحدى «في القرن السادس الهجري» بحرق كتب الغزالي في المغرب العربي ولم يترك شيئاً من كتب المنطق والحكمة باقياً في بلاده، فأباد كثيراً منها بإحراقها بالنار. كما وصل الأمر إلى تدمير المكتبات الضخمة التي أسست من قبل الخلفاء أنفسهم، ورعتها الدولة من بيت مال المسلمين، وكانت بمثابة مكتبات وطنية أو مركزية عامة وفق مفاهيم العصر الحديث، فالمكتبات الرئيسية التي تأسست في العصور العباسية والفاطمية والأندلسية انتهت بشكل مفجع تماماً وضاعت الجهود التي بذلت في جمع الكتب والمخطوطات. فمكتبة دار العلم بالقاهرة التى أسسها الخليفة العزيز بالله الفاطمي في قصره، ثم بنى ابنه الحاكم بأمر الله مبنى خاصاً للمكتبة في عام 1005م بجوار القصر. وكانت أضخم مكتبة عرفها التاريخ في ذلك العصر.. تعرضت المكتبة للخراب والدمار، حين وقع الخلاف بين الجنود السودانيين والأتراك في عام 1068م. أما مكتبة الإسكندرية أول وأعظم مكتبة عرفت فى التاريخ، وظلت أكبر مكتبات عصرها، التى أمر بطليموس الأول بإنشائها 330 قبل الميلاد، وضمت أكبر مجموعة من الكتب فى العالم القديم، التى وصل عددها آنذاك إلى 700 ألف مجلد بما فى ذلك أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو، وفى عام 48 ق. م قام يوليوس قيصر بحرق 101 سفينة كانت موجودة على شاطئ البحر المتوسط أمام مكتبة الإسكندرية وامتدت نيران حرق السفن إلى مكتبة الإسكندرية فأحرقتها، حيث يعتقد بعض المؤرخين أنها دمرت حيث جعلت كتبها العامرة شعيلاً للحمامات لأربع سنوات. وكذلك مكتبة بيت الحكمة في بغداد وكانت تمثل الإشعاع الفكري العربي الإسلامي منذ أن أسسها هارون الرشيد ورعاها ابنه المأمون، إلى حين تم تدميرها على يد المغول، ووصف ويل ديرانت في كتابه «قصة الحضارة» مكتبة بيت الحكمة أنها مجمع علمي، ومرصد فلكي ومكتبة عامة. أما مكتبة سابور التى تأسست في مدينة بغداد فى عام 992م، وكان عدد الكتب التي احتوتها بلغ زهاء 10400 كتاب، من بينها مائة مصحف بخط ابن مقلة، التى أحرقها الملك طغرل بك السلجوقي سنة 1059م. ولم يخل التاريخ الحديث من حوادث حرق مخجلة كان أكثرها خسارة، حرق المجمع العلمي بالقاهرة الذى يعد من أعرق المؤسسات العلمية، الذى مرّ على إنشائه أكثر من مائتي عام، وضمت مكتبته 200 ألف كتاب، وفي ديسمبر 2011 احترق مبنى المجمع بشارع قصر العينى في خضم الاضطرابات السياسية التي شهدتها مصر عقب ثورة 25 يناير 2011 وأتت النيران على 70% من إجمالي الكتب والمخطوطات التي كان يحويها المجمع، فقضي الحريق على أغلب محتويات المجمع التي تضم مخطوطات وكتباً أثرية وخرائط نادرة، تمثل ذاكرة مصر منذ عام 1798، وكانت تشتمل على إحدى النسخ الأصلية لكتاب «وصف مصر»، التي احترقت فيما احترق من كنوز هذا الصرح العتيد، إضافة إلى أغلب مخطوطاته التي يزيد عمرها على مائتي عام، وتضم نوادر المطبوعات الأوروبية التي لا توجد منها سوى بضع نسخ نادرة على مستوى العالم، ووصف أحدهم بأن المجمع العلمي بأنه الأعظم والأكثر قيمة من مكتبة الكونجرس الأمريكي. وفي مطلع سنة 2014 في شهر يناير، قام السلفيون المتشددون أدعياء الدين بحرق مكتبة «السائح»، أضخم وأهم مكتبة في طرابلسلبنان، وكانت تضم ما يزيد على 80 ألف كتاب.