فيما يحق وصف الشاعر الراحل محمد الفيتوري بأنه ضمن مكانة خالدة في ديوان الشعر العربي المعاصر لريادته الشعرية المجددة سواء على مستوى المضمون او الشكل معانقا رحاب الحداثة فانه يحق ايضا القول بأن قصة الفيتوري الذي قضى عن 85 عاما إنما تؤكد على أن "مصر هي صانعة النجوم في الثقافة العربية وسماء الإبداع للناطقين بلغة الضاد". ولعل الشاعر الكبير الراحل محمد الفيتورى الذى حمل دماء مصرية - ليبية - سودانية ، كان افضل تعبير فى تكوينه ومسيرته فى الحياة والإبداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافى العربي وهو الذى عاش سنوات التكوين والدراسة فى مصر وانطلقت شهرته منها. فقصة الفيتورى فى الحياة والإبداع دالة لفهم أهمية الدور الثقافى المصرى الذى تجلى على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوى وهو يقدم ويزكى الشاب محمد الفيتورى للعمل فى مجلة اخر ساعة المصرية فى بدايات خمسينيات القرن العشرين ويقول لرئيس تحريرها حينئذ محمد حسنين هيكل:"إن مصر تاريخيا هى صانعة النجوم فى الثقافة العربية" متنبئا لهذا الشاب بأنه سيكون نجم جديد من نجوم الإبداع الشعرى تقدمه مصر للعرب. وقصة الفيتوري الذي توفي يوم الجمعة الماضية بمستشفى في العاصمة المغربية الرباط عن عمر يناهز 85 عاما دالة ايضا على مدى عمق وخصوصية العلاقة بين ما يعرف ببلدان "المثلث الذهبي العربي" اي مصر والسودان وليبيا وحقيقة التفاعل الطبيعي على المستوى الثقافي بين المصريين والسودانيين والليبيين . ولئن اتفق النقاد على أن محمد الفيتوري كان صوتا متفردا ومغايرا في الشعر العربي منذ خمسينيات القرن العشرين ومحمد مفتاح الفيتوري الذي يعتبره كثير من المثقفين المصريين "واحدا منهم" ولد بالسودان ونشأ بمدينة الإسكندرية وتخرج من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة ، وشغل مناصب دبلوماسية في سفارات ليبيا ، وكانت افريقيا حاضرة بصورة لافتة في عناوين دوواينه :"اغاني افريقيا" و"عاشق من افريقيا" و"اذكريني يا افريقيا". وواقع الحال أن مصر كانت حاضرة في إبداعات الفيتوري التي عبرت عن تعدد وثراء وتداخل مستويات هويته العربية والافريقية فيما ارتبط صاحب ديوان " سقوط دبشليم" بأوثق العلاقات مع مثقفين ومبدعين مصريين مثل الشاعر والكاتب كامل الشناوي الذي اخذ بيده في بداية مسيرته الابداعية التي استمرت حتى وهو يتجول بين عواصم ومدن مثل بيروت وروما والرباط. ولن تغيب عن الذاكرة الثقافية المصرية والعربية الدور الذي نهض به مثقف مصري كبير هو الناقد الراحل رجاء النقاش في تقديم إبداعات الروائي السوداني الكبير الطيب صالح صاحب "عرس الزين" و"مريود" و"ضو البيت" للقاريء المصري والعربي عموما ، فيما كان للكاتب الصحفي الراحل احمد بهاء الدين اضافة للناقد رجاء النقاش القدح المعلى في تقديم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش للمتلقي العربي من المحيط الى الخليج.
وبكل الحب والفهم كان الأديب السوداني الكبير الطيب صالح صاحب "ود حامد" و"منسي" يتحدث دوما عن مصر ومبدعيها بل انه كان كسوداني يقول عن المصريين انهم :"نحن" وكان يبدي دوما إعجابا كبيرا بقصائد العامية لشاعر العامية الأعظم عبد الرحمن الأبنودي الذي ودعته مصر والأمة العربية مؤخرا. ومن الطريف أن الطيب صالح الذي شغل لفترة منصب مدير الدراما في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تحدث بكل التقدير والإكبار عن الفنان المصري الكبير يوسف وهبي وتوقف طويلا امام "تواضع هذا الفنان الكبير اثناء تعاون بينهما في عمل درامي قدمته بي بي سي". ولعل استمرار الدور الثقافي والتاريخي لمصر "كصانعة للنجوم في الثقافة العربية" يتجلى في حالة الكاتب والروائي السوداني الشاب حمور زيادة الذي فاز في عام 2014 بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عن روايته "شوق الدرويش". وحمور زيادة من الكتاب السودانيين الذين يرون أن الشهرة الطاغية مصريا وعربيا للطيب صالح صاحب "موسم الهجرة للشمال" وضعتهم في مأزق وظلمت الكثير من الكتاب الجدد ولعل هذه الظاهرة تنطبق ايضا على حالة الشاعر محمد الفيتوري الذي يكاد يكون اشهر الشعراء الذين اقترنوا بالسودان الى جانب الشاعر الهادي آدم الذي ذاعت شهرته عربيا بعد ان تغنت سيدة الغناء العربي ام كلثوم بقصيدته :"اغدا القاك" وكذلك الشاعر الكبير الراحل جيلي عبد الرحمن الذي عاش في مصر منذ ايام الصبا. وقد يكون الهم السياسي لجيلي عبد الرحمن احد أقطاب اليسار الثقافي العربي قد جاء على حساب إبداعه الشعري فيما نشر اولى قصائده في مطلع خمسينيات القرن العشرين بمصر وتوزعت كتاباته مابين عدة صحف ومجلات مصرية مثل المساء والجمهورية وروز اليوسف حتى سافر للاتحاد السوفييتي السابق في عام 1961 وبعد أن امتدت إقامته هناك لنحو 20 عاما تنقل بين عدة بلدان حتى شده الحنين لمصر فضلا عن متطلبات العلاج الطبي بالقاهرة ليرحل عن الحياة الدنيا في شهر اغسطس عام 1990. ولم يترك جيلي عبد الرحمن للشعر العربي سوى القليل من الدواوين المطبوعة لعل اشهرها :"الجواد والسيف المكسور" وترجم العديد من قصائد الشعراء الروس وعرف بعلاقته الوثيقة وصداقته المخلصة مع المبدع المصري الراحل نجيب سرور. ولعل الشاعر الراحل محمد الفيتوري افلت مما يسميه البعض "بلعنة شهرة العمل الواحد على حساب بقية اعمال المبدع" كما كان الحال مع الهادي ادم الذي طغت قصيدته "اغدا القاك" على بقية قصائده المنشورة في ثلاثة دواوين وهي ظاهرة تكررت الى حد ما مع "رواية موسم الهجرة للشمال" التي طغت شهرتها على بقية إبداعات الطيب صالح.