في الصعيد الذي تعامل مع قدره من النسيان الحكومي صابرا ومطورا لموال الصبر الطويل، برزت نماذج لأعمال تطوعية فريدة من نوعها، استجابة لتحدي البيئة الصعبة حيث يضيق الوادي في الجنوب، ولا توجد مشاريع حقيقية للتنمية، فتفاعل أبنائه بأنفس راضية مع ظروفهم ليديروا معارك الحياة بجهودهم الفردية بعد أن تجاهلتها خطط التنمية لعقود، ليقدموا صورا مشرقة للعطاء. من هذه النماذج رجل طيب من إحدى قري قنا حفر دربا للعمل الخيري على الأسفلت اقترن باسمه ولو كان أهله يسمعون بموسوعة جينس للأرقام القياسية لكانوا سجلوا فيها انجازاته الخيرية. في منطقة تعتز بانتمائها القبلي، غرد الشيخ عبد العزيز خارج السرب، فأغلبية الذين استمتعوا بأعماله الخيرية لا يعلمون اسم ابيه ولا جده لأن انجازه الفردي طغى على لقبه العائلي مما جعل الناس تكتفي باسمه الأول الذي اقترن بالماء والخضرة واللون الأبيض وهي ثلاثية فلسفة الشيخ عبدالعزيز في الحياة التي جسدها على قارعة الطريق العام «الأسفلت» في أعمال بسيطة ولكنها معبرة توفر لعابري السبيل تحت شمس قنا الحارقة استراحات مجانية ممهورة بماء بارد وظل شجرة ومصطبة ومكان للصلاة. لا يبدأ عمله الخيري إلا بعد انتهاء عمله الرسمي، فكان يخرج بعد صلاة العصر، هو لا يملك من حطام الدنيا الا راتبه الضئيل الذي يتقاضاه عامل عادي في أحد مشروعات الري بقناطر نجع حمادي، متبرعا بجهده ووقته لخدمة الغير ابتغاء وجه الله من خلال مشروعات يطلق عليها «صدقات جارية» المصطلح سمعه في خطبة الجمعة ضمن الحديث النبوي: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فقرر أن ينشئ هذه الصدقات بجهده الخاص وتتخلص في غرس شجرة ووضع زير بجوارها، ثم تطور الأمر لبناء مصطبة على الطريق السريع مقابل قريته «بخانس» بمركز أبوتشت حيث لم يكن على طول الطريق الذي يمتد عشرات الكيلومترات أي استراحة أو مصدر للمياه أو حتى شجر يستظل تحتها العابرون. وعندما وجده أهل الخير عاكفا على هذا العمل بمفرده وأحيانا بمساعدة ابنه الصغير، تبرع بعضهم بمساعدته على استكمال البناء. لم يكتف الرجل ببناء الاستراحة بالطين وإنما قام بدهانها بما تيسر من الأصباغ الشعبية،ثم تظليلها من البوص (سيقان الذرة) وسعف النخيل لتكتمل الاستراحة بلونها الأبيض وتشمل مسجدا صغيرا و زيرا ومصطبة وشجرة، وفيما بعد اضاف لها مصباحا كهربائيا حتي تنير في المساء، وعندما نجحت الفكرة كررها بجوار المقابر في قريته، ثم في مواقع أخرى على طول الطريق السريع بين مركزي نجع حمادي وأبو تشت. وكان يوزع عمله على أيام الاسبوع، فيقضي يوم اجازته الاسبوعية في بناء الاستراحة والأيام الاخرى في استكمالها أو متابعة هذه الاستراحات وصيانتها. عندما علم رئيسه بإنجازاته، عرض عليه ان يتفرغ بعض أيام الاسبوع لهذا الجهد الخيري فرفض قائلا وكيف أستحل راتبي؟ وبعد أن ذاع صيته في المنطقة، قصده الناس للتبرك وتحدثوا عن كرامته. ولكنه نفي نفيا قاطعا حدوث هذه الكرامات، عندما التقيته لكي أجري معه حوارا نشرته مجلة «نصف الدنيا» منذ أكثر من 15 عاما،، حيث حللت عليه ضيفا في بيته المتواضع، فوافق بصعوبة على الحديث لخوفه من الوقوع في فخ الرياء، قائلا «انا لم افعل شيئاً يستحق الذكر». لم يتاجر الرجل بتدينه ولا بكراماته بل تبرأ منها مكتفيا بالدعاء لمن يطلب منه المساعدة. توفي الشيخ عبدالعزيز منذ سنوات وبقيت انجازاته الخيرية شاهدا على حكمة الرجل، ولكن ما شهدته المنطقة من طفرات معمارية بفعل اموال العائدين من الخليج، لم يضف شيئا يذكر لهذه الاستراحات، ولم تمتد يد الخير لترميمها، ولم نجد احدا من أغنياء هذا الزمن يبادر بمثل ما قام به فقراء الزمن الماضي باستثناء سيدة قامت بشراء براد (كولدير) بتحويشة عمرها ووضعتها أمام بيتها على نفس الطريق، ثم تبعها آخرون، أما الذين عادوا من الخارج مشيدين عمارات شاهقة فلم يفكر احد منهم في عمل شيئاً مماثل.. عمل الخير لا يتوقف على الثروة، وإنما ينبع من الإرادة الذاتية ومرضاة الله!