أربعة أعوام كاملة مرت علي ثورة يناير، عاش فيها المصريون حلما واحدا تبدد بمرور الأيام، ألا وهو عودة الأموال المنهوبة، مليارات الدولارات تم تهريبها خارج مصر خلال الأشهر التي أعقبت الثورة حتي خرج المصريون في شهر يوليو 2011 مطالبين بمحاكمة مبارك، وبعد أن تم حبسه وأبنائه ومنعهم من التصرف في أموالهم كانت معظم تلك الثروات قد خرجت من مصر، وكذلك فعل رجال مبارك حتي بلغ حجم هذه الأموال وفقا لبعض التقديرات حوالي 134 مليار دولار، وهو مبلغ كفيل بإنقاذ الاقتصاد المصري من عثرته، إلا أن الحكم الصادر في 29 نوفمبر الماضي بانقضاء الدعوي ضد مبارك وأبنائه في قضايا الفساد المالي، ألقي بظلاله علي حلم المصريين الذي تحول الي مجرد سراب، فالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد تنص علي ضرورة صدور أحكام نهائية باتة من محكمة عادية لإعادة الأموال التي ثبت تربحها من خلال الفساد، وهو ما تؤكد الدلائل أنه أصبح في حكم المستحيل، وبذلك تصبح ال64 مليون دولار التي تم إنفاقها علي لجان إعادة الأموال المنهوبة كبدلات سفر وانتقالات وتوكيل مكاتب محاماة أجنبية ذهبت أدراج الرياح، لأن مصر لن تستطيع الحصول علي شيء منها!! ومن المفارقات أن الحكومة عبر مؤسساتها التي لها علاقة بالرقابة ومكافحة الفساد لم يصدر عنها أي تصريح يتضمن الرقم الحقيقي والأموال التي تم تهريبها وكذلك فالمتاح حول القيمة الفعلية للثروات هما روايتان: الأولي 134 مليارا فيما تؤكد الرواية الثانية أن حجم الأموال المهربة يقدر ب225 مليار دولار، وهي حجم الأموال المنهوبة والمهربة خارج مصر طوال 30 عاما قضاها مبارك في الحكم، معظمها خرج في الأشهر القليلة التي أعقبت ثورة 25 يناير، وفشلت كل حكومات ما بعد الثورة في تحديد الرقم الحقيقي لهذه الأموال، ولكن البشائر كانت واضحة لوجودها في الخارج حينما أعلنت سويسرا عقب الثورة مباشرة عن تجميد 350 مليون فرنك سويسري أي حوالي 500 مليون دولار مودعة في بنوكها لصالح مبارك وأبنائه، وهو نفس ما اتبعته بريطانيا تجاه أموال مبارك المودعة في بنوكها، ورغم ضآلة المبالغ التي تم تجميدها والتي تعتبر نقطة في بحر الفساد، بالنسبة للمبالغ التي تم تهريبها بالفعل، فإنها أكدت وجود مليارات الدولار التي قام رجال مبارك بتهريبها للخارج، خاصة بعد أن نشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية إبان الثورة تقريرا أكدت فيه أن ثروة مبارك وأبنائه تقدر ب70 مليار دولار سبق ذلك نشر عدة تقارير تؤكد أن مبارك من أغني عشرة رجال في العالم، ولم يقم مبارك إبان حكمه بتكذيب أي من هذه التقارير، بل إن الفساد في عهده كان هو «عنوان الحكم» فقد استشري وانتشر وتوغل وأصبح هو الحقيقة الوحيدة التي عاشها المصريون طوال هذه الفترة ونتيجة لكل هذا خرج المصريون في 25 يناير مطالبين بإسقاط النظام الذي تنحي يوم 11 فبراير، إلا أن تقاعس المجلس العسكري الذي تولي يحكم البلاد عن محاكمة مبارك ونظامه أدي الي قيامهم بتهريب معظم أموالهم الي الخارج مستغلين قانون البنك المركزي الذي ينص علي إمكانية تحويل أي مبلغ للخارج مهما كانت قيمته دون إبداء أسباب ولم يتركوا سوي مبالغ زهيدة في البنوك المصرية، وهذا ما أثبتته تحقيقات النيابة والمحكمة في القضايا المتهم فيها مبارك وابناه ورجاله مثل أحمد عز وحبيب العادلي وأحمد نظيف وغيرهم، والذين لم تجد النيابة سوي مبالغ محدودة باسمهم في البنوك المصرية تم التحفظ عليها. الجدير بالذكر أن أموال مبارك ونظامه وفقا للخبراء خرجت من مصر وتم إخفاؤها في الخارج عن طريقين: الأول هو شركات «الأون شور» وهي شركات عالمية يتم تأسيسها إما في كوبا أو في بنما، وبأسماء أشخاص غير حقيقية وتمتد هذه الشركات في العالم كله، ويصعب تعقيبها أو تعقب الأموال التي شاركت في تأسيسها. أما الطريقة الثانية فهي تهريب هذه الأموال بأسماء وأشخاص موثوق فيهم، كالمساعدين أو المحامين أو الأقارب وفي الخارج تدخل هذه الأموال في حسابات سرية وبذلك أيضا لا تستطيع الدولة إثبات قيمة هذه الأموال ولا معرفة أماكنها. لجان ولجان وبهذه الطرق خرجت من مصر مليارات الدولارات وبعد تقديم مبارك وابناه للمحاكمة بتهمة الفساد راح المصريون يحلمون بعودة هذه الأموال التي من المؤكد أنها ستنقذ الاقتصاد المصري، وراحت الحكومات المتوالية تدغدغ مشاعر المصريين بمحاولاتها لإعادة هذه الأموال بتشكيل لجان لاستعادتها، هذا بالإضافة الي عدد من اللجان الشعبية التي عملت من أجل الهدف ذاته، ومع ذلك لم تفلح كل هذه الجهود في إعادة أي من هذه الأموال، منها 7 لجان تم تشكيلها عقب الثورة مباشرة كان أولاها المبادرة الشعبية لاستعادة الأموال المنهوبة، ويرأسها معتز صلاح الدين، وبدأت هذه المبادرة عملها من خلال 6 لجان في عدة دول أوروبية وعربية وأمريكية وهي إسبانيا وبريطانياوسويسراوكندا والنمسا وشرق أوروبا، بالإضافة الي العمل في كندا وأمريكا ودول الخليج العربي، وقامت هذه المبادرة بتنظيم عدة تظاهرات في هذه الدول للمطالبة بتجميد أموال مبارك وابنيه وهو ما نجح في الضغط علي الحكومتين السويسرية والبريطانية لتجميد الأموال بهما كذلك نجحت هذه التظاهرات التي نظمتها الجاليات المصرية في هذه الدول في توجيه الرأي العام العالمي واهتمامه بقضية الأموال المنهوبة والتأكيد علي أهميتها لمصر وشعبها. كذلك قام الدكتور محمد محسوب أستاذ القانون الدولي وقتها ووزير شئون المجالس النيابية فيما بعد بتكوين المجموعة المصرية لاسترداد أموال الشعب المصري، وضمت اللجنة مجموعة من أساتذة القانون الدولي، ومنظمات المجتمع المدني ودبلوماسيين في الخارجية، وكان دور هذه اللجنة التنبيه والتوصية ودفع الحكومة المصرية للعمل علي التواصل مع العالم الخارجي لاستعادة الأموال المهربة للخارج، وحددت هذه اللجنة حجم هذه الأموال ب3 تريليونات جنيه أي حوالي 700 مليار دولار، وانتقدت اللجنة الحكومة بسبب البطء في استرداد هذه الأموال، وأكدت اللجنة أنه لا توجد إرادة سياسية لدي إدارة المرحلة الانتقالية لاسترداد هذه الأموال، إلا أن الأمر الغريب أنه بعد انتهاء المرحلة الانتقالية وتولي الدكتور محسوب منصب وزير الدولة لشئون المجالس النيابية في عهد المخلوع محمد مرسي،لم يحرك ساكنا في هذا الصدد ولم يتحدث عن هذه القضية التي حمل علي عاتقه الدفاع عنها لعدة أشهر. كذلك شهدت هذه الفترة تشكيل لجنة أخري برئاسة الدكتور حسام عيسي أستاذ القانون الدولي ووزير التعليم العالي فيما بعد، وكشف الدكتور حسام وقتها أن حكومة الفريق أحمد شفيق تواطأت مع رجال نظام مبارك لتهريب الأموال خارج مصر إبان توليه السلطة عقب تنحي مبارك وأن الفريق كان سببا في تسهيل تهريب أموال مبارك ورجاله الي الخارج مشيرا الي أنه تقدم شخصيا للفريق شفيق بخمس مذكرات لمخاطبة الدول الأوروبية لتجميد ثروات مبارك ورجاله إلا أنه لم يستجب لها. كانت هذه اللجان مجرد لجان شعبية هدفها توعية الحكومة تجاه هذه القضية والضغط عليه وعلي حكومات الدول الأخري لتجميد أموال مبارك ورجاله أما علي المستوي الرسمي فكانت أول لجنة رسمية هي تلك التي شكلها المجلس العسكري في إبريل 2011 بعد تكرار المليونات المنادية بإعادة الأموال المنهوبة وتم تشكيل هذه اللجنة برئاسة المستشار عاصم الجوهري رئيس جهاز الكسب غير المشروع ومساعد وزير العدل، واستغلت هذه اللجنة قرار الاتحاد الأوروبي الصادر في مارس 2011، بتجميد أموال مبارك في 18 دولة تابعة للاتحاد إلا أنها لم تحرز تقدما ملموسا. ومن هنا قامت نقابة المحامين بتشكيل لجنة برئاسة محمد الدماطي رئيس لجنة الحريات بالنقابة وعضوية محمد عبدالرحمن وجمال حنفي عضوي المجلس تحت اسم «لجنة استرداد الأموال المهربة» وهدفها هو الضغط علي سلطات التحقيق المصرية لتقديم الفاسدين للمحاكمة، لأن استعادة الأموال لن تتم إلا بعد انتهاء التحقيقات وصدور أحكاما نهائية ضدهم، وتقدمت هذه اللجنة ب35 بلاغا ضد شخصيات قيادية بالحزب الوطني منها عاطف عبيد وأحمد نظيف وغيرهما ولكنها لم تزد علي ذلك. وفور انتخاب مجلس الشعب في 2012 تم تشكيل لجنة تقصي حقائق برئاسة عصام العريان لاسترداد الأموال، وعقدت هذه اللجنة عدة اجتماعات وأوصت بضرورة إصدار مشروع قانون لاسترداد الأموال المهربة للخارج، ولكن توصياتها لم تدخل حيز التنفيذ خاصة أن هذه المجلس كان عمره قصير وصدر قرار بحله بعد أشهر قليلة. ثم جاءت حكومة هشام قنديل وقررت تشكيل لجنة لاسترداد الأموال المنهوبة برئاسة الدكتور محمد أمين المهدي أستاذ القانون الدولي الذي تولي وزير العدالة الانتقالية في حكومة «محلب» الأولي وعضوية الدكتور حسام عيسي إلا أن مصير هذه اللجنة ظل غامضا حتي قامت ثورة 30 يونية 2013، ورفض الدكتور المهدي التعليق ل«الوفد» علي هذا الأمر مكتفيا بالقول «إنه قدم ما يقدر عليه وأن هناك مسئولين الآن يمكننا التوجه إليهم لمعرفة آخر ما آلت إليه الأمور». هكذا كانت هذه اللجان طريق لثلاثة من رؤسائها ليتولوا حقائب وزارية في وزارات مختلفة ولكنهم لم يقدموا أي جديد في القضية التي شغلت الرأي العام المصري لثلاث سنوات، وبعد ثورة 30 يونية عاد الحلم يداعب المصريين من جديد خاصة أن حكومة الدكتور حازم الببلاوي حذت حذو الحكومات السابقة، واتخذت علي عاتقها استعادة تلك الأموال المنهوبة، وعادت لجنة المستشار عاصم الجوهري للظهور من جديد ولكنها لم تأت بجديد. وأكدت التقارير أن عمل اللجان الحكومية تكلف 64 مليون دولار تم إنفاقها خلال الفترة الماضية كمصاريف انتقال وسفريات ومصاريف مكاتب محاماة في الخارج لأنه لا يمكن لمصر التقدم الي محكمة في الخارج إلا من خلال مكاتب المحاماة الأجنبية ورغم تأكيدات اللجنة الحكومية أن أيا من أعضائها لم يتلف أي بدلات سفر نظير سفره للخارج فإن الثابت أن الحكومات المصرية أنفقت الملايين ولم تتحصل علي أي شيء! ورغم كل هذا فوجئنا بقرار من المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء نشر بالجريدة الرسمية في شهر أكتوبر الماضي بتشكيل لجنة جديدة لاسترداد الأموال المهربة للخارج تحت مسمي اللجنة الوطنية التنسيقية لاسترداد الأموال المصرية المهربة في الخارج برئاسة وزير العدل المصري، وتضم في عضويتها 9 ممثلين من وزارات وأجهزة وهيئات مختلفة، ومهمة عمل اللجنة كما حددها القرار هي وضع خطة عمل لاسترداد الأموال المهربة في الخارج، والوقوف علي المعوقات التي تواجه عملية الاسترداد والتنسيق بين الأجهزة المعنية لاسترداد الأموال والتنسيق مع الجهات الدولية لاتخاذ إجراءات استرداد الأموال، وحدد القرار ضرورة عقد اجتماع شهري للجنة أو كلما دعت الحاجة الي ذلك بديوان وزارة العدل علي أن تقدم تقريرا لرئيس مجلس الوزراء مرة كل ثلاثة أشهر. الحلم المستحيل وما كادت اللجنة الجديدة تبدأ عملها حتي صدر الحكم في قضية القرن في 29 نوفمبر الماضي بانقضاء الدعوي في قضايا الفساد المالي، ولكن تقدم النيابة العامة بالنقض في الحكم جعل الباب غير مغلق تماما في وجه الحلم المصري الذي مازال قائما إلا أن الخبراء أكدوا أن تحقيق هذ الحلم يعد ضربا من المستحيل في ظل المتغيرات الجديدة التي طرأت علي محاكمة القرن فرغم أن الحكم لا يعد باتا ونهائيا تماما إلا أنه يعد مؤشرا واضحا علي عدم استعادة هذه الأموال للأبد، فالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مصر عام 2002، تنص علي أن الأموال التي يثبت تربحها من خلال الفساد لا يتم استعادتها من خلال حكم نهائي وبات من محكمة جنائية طبيعية وهو ما جعل السلطات المصرية تصر علي أن تكون محاكمة مبارك ورجاله طوال تلك الفترة الماضية أمام المحكمة الجنائية العادية وليست محاكم ثورة إلا أن الدكتور عادل عامر أستاذ القانون العام، ومدير المركز المصري للدراسات القانونية والسياسية يري أن هذا الإجراء كان سببا في ضياع هذه الأموال، وكان يجدر بالسلطات المصرية اتباع نفس النهج الذي اتبعته 150 دولة في العالم من قبل حتي يتم استعادة هذه الأموال، وأولها صدور قانون للعدالة الانتقالية فور قيام الثورة، ووقف العمل بقانون البنوك الذي سمح بتهريب ملايين الدولارات حيث إن هذا القانون كان ينص علي السماح بتحويل أي كمية من الأموال للخارج دون انتظار أي موافقات أو قيود من البنك المركزي وهذا هو النص الذي تم استغلاله من قبل رجال نظام مبارك لتهريب المليارات خارج مصر. وأضاف أنه بعد الثورة اعترفت كل من انجلتراوسويسرا بوجود ملايين الدولارات بها مملوكة لمبارك وأبنائه وكان علي الحكومات المصرية استغلال هذا الإجراء لضمان حصولها علي هذه الأموال مرة أخري، إلا أننا لم نفعل ذلك، وبالتالي أصبح من المستحيل الآن استعادة هذه الأموال خاصة بعد صدور الحكم الأخير والذي بات مؤشرا علي استحالة عودة هذه الأموال مرة أخري. قانون جديد جدير بالذكر أن لجنة الإصلاح التشريعي التي شكلتها حكومة المهندس إبراهيم محلب قد أعدت مشروع قانون لاسترداد الأموال المنهوبة من الخارج، وهو القانون الذي تردد أنه سيساهم في استعادة الأموال المنهوبة في عهدي مبارك ومرسي إلا أن هذا القانون لم يخرج بعد للنور، وإن كان ينص في المادة الثانية علي تشكيل لجنة لاسترداد الأموال برئاسة وزير العدل، وهو القرار الذي أصدره «محلب» بالفعل، ولكن القانون تضمن عدة بنود أهمها اتخاذ الإجراءات الواجب اتخاذها لدي الدول الأجنبية طبقا لنصوص اتفاقية الأممالمتحدة واتخاذ إجراءات لمنع سفر الجناة ومنعهم من التصرف في أموالهم، وإلزام القانون وزارة المالية بإنشاء حساب بنكي خاص بالبنك المركزي المصري باسم «حساب الأصول المستردة»، تودع فيه الأموال التي يتم استردادها من الخارج، كما منح القانون اللجنة طلب كشف سرية حسابات المتهمين بالاستيلاء علي الأصول وإجراء المفاوضات معهم لاسترداد الأموال، ولكن هذا القانون لم يخرج بعد للنور، حتي لو خرج هل سيكون له دور في استعادة الأموال المنهوبة، سؤال طرحناه علي الدكتور سعيد جويلي أستاذ القانون الدولي بكلية الحقوق جامعة الزقازيق، فأكد أن استعادة الأموال المهربة من الخارج تحكمها قوانين واتفاقيات دولية لمكافحة الفساد، وهي تنص علي ضرورة صدور أحكام نهائية من محكمة عادية وليست استثنائية لاستعادة هذه الأموال، وطالما أنه لا يوجد حكم نهائي وبات بالفساد فمن الصعب استعادتها واستطرد قائلا: حكم قضية مبارك يعتبر نهائيا ولكنه ليس باتا لأن هناك طعنا عليه ولذلك فمصير أموال مبارك مازال كما هو، والدول الغربية مازالت في انتظار صدور أحكام نهائية لفك التجميد عنها أو إعادتها لمصر، وأضاف أن القضية برمتها في أيدي القضاء الذي لابد أن يصدر حكما نهائيا وعاما وباتا حتي يمكن استرداد هذه الأموال.