تحدثت فى مقال الأحد الماضى عن شيوع استخدام النخبة والعامة لمصطلحات خاطئة فى توصيف العديد من الأحداث أو التعبير عن المعانى والأفكار, وكان ذلك الشيوع بدرجة ملحوظة عقب أحداث يناير 2011 لأسباب ودوافع كثيرة وهى دوافع وإن تقلصت الآن إلى حد كبير، إلا أنه مع استمرار استعمال مثل تلك المصطلحات فى الخطاب العام وخاصةً عبر وسائل الإعلام المرئية - فى هذه المرحلة الدقيقة التى نعيد فيها بناء مصر واستعادة حضارتها واسترداد ريادتها بين الأمم - فإن ذلك قد يعيق هذه المسيرة الوطنية بما يمكن أن يحدثه من تشكيك فى الموروث الثقافى الأصيل للشعب المصرى وخلخلة فى القيم والمبادئ النبيلة التى يتوحد بها وحولها كنسيج واحد، وبالتالى فقدانه لوحدته الوجدانية التى تمثل القوة الذاتية الوحيدة الداعمة للانطلاق نحو المستقبل المنشود. واليوم نستكمل الحديث عن بعض المصطلحات الخاطئة أو المستخدمة فى غير موضعها الصحيح، ونعرض لها فى ما يلى : (1) ناشط سياسى : تعبير شاع استخدامه لوصف كل من هب ودب ممن لا صفة لهم إلا علو الصوت بالصخب والضجيج فى أحداث مأساوية اعترت الوطن وبات الكشف عن كل حقائقها قاب قوسين أو أدنى. وهنا أرى من الملائم أن نبدأ بالمعنى اللغوى للفعل «نَشِطَ»، «بكسر الشين», فإنه بحسب المعجم الوجيز يأتى لوصف العمل ونحوه، فيقال نَشِطَ إليه أى خفَّ له وجدَّ فيه وطابت نفسه له, ويقال لفلان نشاط زراعى أو تجارى أو ما شابه بحسب العمل الممتهن, والقائم بعمل بذلك الوصف فهو نشيط, والناشط اسم الفاعل للمعتاد عليه. هذا باختصار المعنى اللغوى للفظ ناشط، فهل من عبّرنا عنهم فى مجال السياسة بهذا اللفظ هم فعلاً نشطاء سياسيون لهم باعٌ ملموس فى ذلك المجال ؟ وإذا كان كل أصحاب الأسماء المرموقة المحبوسين حالياً احتياطياً أو تنفيذاً لأحكام، قد تم القبض عليهم لنشاطهم الإجرامى المؤثم قانوناً وارتكابهم جرائم وصلت إلى حد التخابر مع دول وجهات أجنبية، وليس لاعتناقهم أفكاراً سياسية أو ممارستهم لنشاط مشروع، فهل يسوغ لنا إطلاق مصطلح الناشط السياسى على أى منهم ؟ وهل يجوز لوسائل الإعلام أو يليق بها عند تغطيتها لأخبار محاكمة هؤلاء المتهمين أن تستخدم ذلك المصطلح كلقب لأى منهم؟ إن استخدام هذا المصطلح فى هذه الحالة يُعدُ تضليلاً للرأى العام وإفساداً لعقله، لأنه يعطى انطباعا بأن هؤلاء المجرمين قُبض عليهم لنشاطهم السياسى المشروع وهذا ليس صحيحاً، كما أنه يستحضر أفعالهم الإجرامية فى الصورة الذهنية لدى المواطنين ويقننها كعمل وطنى مشروع، وتلك مصيبة كبرى . إننى أتمنى أن نراجع أنفسنا فيمن أطلقنا عليهم ذلك المصطلح، وأن نحترس كثيراً عند إعادة استخدامه. (2) الفن: مصطلح دارج ولكن للأسف جرى اختزال معناه منذ زمن طويل وقصره فى دائرة ضيقة بما شوّه معناه فى الصورة الذهنية للمواطنين، وحسر الأثر المرجو من استخدامه لتحقيق المعنى الحقيقى له. فالفن بحسب التعريف اللغوى هو «مهارة يحكمها الذوق والموهبة والتطبيق العملى للنظريات العلمية بالوسائل التى تحققها ويُكتسب بالدراسة والمَرَانة»، ويُقال فَنَّ فلانٌ فناً أى كثر تفننه فى الأمور فهو مِفَنٌ وفنان ويقال أفنت الشجرة أى كانت ذات أفنان. والفنان هو صاحب الموهبة الفنية وهو لفظ مبالغة من فن، والفنَّىُ هو المشتغل بالفن. ذلك باختصار هو المعنى اللغوى للفظ «فن» بحسب ما ورد فى المعاجم اللغوية، وهو تعبير عن صفة عمل وليس مرادفاً لعمل بعينه, ومن ثَمَّ فإن كل صاحب موهبة مفن فى عمله مجوّد له هو فنان بغض النظر عن نوع عمله، وبالتالى فقد يكون الفنان طبيباً أو مهندساً أو صحفياً أو محامياً أو فلاحاً أو عاملاً ...إلخ، ومن هنا يبرز التساؤل : لماذا التعمد فى قصر تلك الصفة على أعمال التمثيل والغناء والرقص والموسيقى دون غيرها ؟ ولماذا يُقرن دائماً لقب الفنان باسم المشتغل بهذه المهن، بل وفى كثير من الأحيان يستبدل اللقب باسم المهنة التى يمارسها ؟ وهل يعنى ذلك افتراضا حتمياً بأن أىَ منتج من هذه الأعمال بالذات هو منتج مجوّد ومتقن فيوصف بالفن على الإطلاق، ويصير القائمون به فنانين بلا استثناء؟ إن استمرار استعمال لفظ الفن والفنانين على هذا النحو الدارج المتداول فى المجتمع، يؤدى فيما أرى إلى نتائج سيئة من أهمها حرمان أصحاب المهن الأخرى من الحافز المعنوى للإجادة والإتقان، فضلاً عن إهدار الفن كقيمة إنسانية فى حال قصره على أعمال بعينها قد يكون الغالب منها هابطاً إلى درجة الفحش.