أكتب هذا المقال يوم الأربعاء، قبل اليوم المحدد لخروج تظاهرات سلفية يفترض أنها سوف تشهد رفع المصاحف فى مواجهة المجتمع والدولة. ولا أعرف كيف سيكون يوم الجمعة، لكن مظاهرات محدودة فى ثلاث جامعات فى القاهرة الكبرى يوم الخامس والعشرين من هذا الشهر شهدت رفع طلاب وطالبات من التيارات الدينية المصاحف. ويربط البعض بين حمل المتظاهرين السلفيين والإخوانيين للمصاحف وبين طلب مقاتلين مسلمين فى القرن السابع الهجرى الاحتكام إلى كتاب الله فى موقعة دارت بين أحد الخلفاء وبينهم فى إطار الصراع على الحكم. ويخلص من يعتمدون هذا الربط إلى أن ناشطى هذه التيارات الرجعية هم «الخوارج الجدد». وربما اعتمد من يشبهون الإخوان المسلمين والفصائل السلفية المنضوية تحت لوائها بالخوارج على شواهد مما تناقله الرواة عبر العصور، لكنى لا أميل لهذا التشبيه لأسباب أهمها أنى أرفض الفكر السلفى من كافة وجوهه ،وكل محاولة لفهم صراع سياسى يدور اليوم بين قوى معاصرة باستخدام أدوات تحليل ومفهومات ومجازات مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرنا هو مسلك سلفى وإن تصور أنه مناهض للسلفية. إدانة السلفيين بتشبيههم بقوم من القرن السابع الميلادى تعنى أننا نتبنى منهجهم الذى يقوم على تفسير الحاضر ورسم ملامح المستقبل باستخدام أدوات وخبرات ومفهومات انقضى زمانها، من زمان. والسبب الرئيسى فى انتشار مثل هذه المقاربات هو أن التعليم فى مصر سلفى - إخوانى منذ كان كمال الدين حسين وزيرا للتعليم، والثقافة مشبعة بتأثيرات إخوانية منذ أن كان رجال من أمثال عبد العزيز كامل وأحمد كمال أبو المجد مسئولين عن أجهزة الدعاية التى كانت تخضع لما يسمى «أمانة الدعوة والفكر» فى التنظيم الحاكم. وأنا احترم جوانب مهمة فى شخصيات هؤلاء الرجال وفى تواريخهم الشخصية والمهنية، خاصة كمال الدين حسين وعبد العزيز كامل ،لكنى أرفض سلفيتهم عموما، وسلفية أبو المجد خصوصا. بتعبير آخر لا يجب أن نحارب السلفيين بأدوات السلفيين، لأن هذا خطأ شكلا وموضوعا. هو خطأ شكلا لأنه ينطوى على إقرار ممن يلجأ لمثل هذه المقاربات بصحة منهج الإخوان: فإن كنت تقر بصحة منهجهم السلفى الرجعى فلماذا تحاربهم؟ وهو خطأ موضوعا لأن الإخوان ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ مصر والعالم الإسلامى السنى، تماما كما أن الخومينية ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ العالم الإسلامى الشيعي. كلاهما مرض ظهر حديثا لمقاومة الحداثة. لم يبدأ هذا الشذوذ فى مصر لكنه بدأ فى شبه القارة الهندية، وانتقل منها إلى الجزيرة العربية، وأخيرا ظهر فى مصر ،فى العام 1928. وربما وجد المؤرخون مبررا لظهور الوهابية وحركة الإخوان فى الجزيرة العربية عموما وفى نجد خصوصا ،فقد كانت تلك المناطق شديدة التخلف ،عندما بدأ محمد بن عبد الوهاب «الدعوة» فى 1740، «بالتزامن مع حركة شاه ولى الله فى الهند» أما أن يأتى من يحاول أن يصوغ وعى الناس فى مصر فى القرنين العشرين والواحد والعشرين على النحو الذى صاغ به محمد بن عبد الوهاب وعى سكان نجد فى القرن الثامن عشر فهذا شئ يشبه الجنون. وتشبيه هذا العمل بما فعله رجال فى القرن السابع الميلادى هو عبث سخيف. الأقرب إلى المنطق أن نعد التيارات السياسية المعاصرة التى تسمى نفسها إسلامية - كلها - شكلا من أشكال الهروب من الحداثة بكل مشكلاتها. وعلى هذا النحو فالسلفيون وفى قلبهم الإخوان هم فصيل من فصائل الفوضوية anarchismالمنتشرة فى زمننا هذا. وقبل ذلك كانوا أقرب إلى الفاشية والنازية، فوفقا لما ذكره عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين محمود عبد الحليم فى كتابه الشهير عن تاريخ الجماعة، فقد ارتزق حسن البنا بالعمل مع السياسى الأنانى على ماهر باشا والمفتى الكارثى أمين الحسينى بالدعاية للفاشية. وفى مرحلة أقدم سوف تجد أن محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغانى اقتاتا على أفكار المفكر ورجل الدولة الفرنسى فرانسوا جويزو بعد أن انتهى زمانها وتجاوزتها الأحداث «بقت موضة قديمة» فى فرنسا، بوهم أنها أفكار ثورية. باختصار، لابد من فهم حركة التيار السلفى وفى قلبه حركة الإخوان المسلمين المناهض للنظام العام ولحركة التاريخ المصرى والعالمى على أنها بنت هذا الزمان. فكيف نفسر إذن مسألة رفع المصاحف فى التظاهرات؟ إنها تعنى أننا نرى حركة احتجاج لا مطالب لها. هذا احتجاج للاحتجاج، غضب بلا بصر ولا بصيرة. كان الروائى والصحفى ديفيد آجناثيوس يقول عن «ثوار» يناير 2011 إنهم يعرفون ما يرفضون ولا يعرفون ما يريدون. فهل ينطبق هذا الكلام على رافعى المصاحف وعلامات رابعة المعاصرين؟ أيضا الرجوع إلى ثلاث سنوات مضت أمر مضلل ،نحن أبناء اللحظة الراهنة والمتظاهرون الشباب اليوم غير متظاهرى 2011، فقبل ثلاثة أعوام كانت هناك حركة عامة تضم مختلف الأطياف واليوم نحن أمام طيف واحد تحرك عناصره منظمات سلفية فوضوية. ولابد من ضرب المنظمات الفوضوية ذات العناوين المعروفة بقوة شديدة لأن هذه الفوضوية سهلة للغاية لا تتطلب دراسة ولا بحثا ولا انتظاما فى حضور اجتماعات ولا فى القيام بواجبات تنظيمية، فهذا كله متروك للنواة الفوضوية التى تحرض وتحرك، ولا يبقى واجبا على القواعد سوى المشاركة فى الأحداث ذات الطابع الاستفزازى والاستعراضى. لن ننتظر حتى تؤتى المشروعات الكبرى ثمارها وتتخلق الوظائف ويستفيد الكل من ثمار التنمية، ولن ننتظر حتى ننتهى من الانتخابات البرلمانية ويكتمل بنيان الدولة، ولن نغرق فى الماضى باحثين عن تشابه بين فوضويى اليوم وخوارج الأمس البعيد :الهدف واضح ومحدد ولابد من توجيه كل القوى لإسقاطه،لابد من اقتلاع الفوضوية السلفية، من جذورها. أقول الفوضوية السلفية وليس السلفية ذاتها، وأعنى بذلك كل من دعا أو شارك فى محاولات الإيهام بوجود تناقض بين زحفنا للمستقبل وبين الإسلام برفع المصاحف فى وجوهنا.