من السابق لأوانه القول إن نتائج الانتخابات التونسية، التى أسفرت عن تقدم التكتل العلمانى «نداء تونس» بعدد 85 مقعدا على حزب النهضة 69 مقعدا من إجمالى 217 مقعدا- وهو النسخة التونسية من جماعة الإخوان المسلمين- هى هزيمة للتيار الإسلامى الذى يعد «النهضة» هو أكبرها وأكثرها تنظيما، وربما يكون هذا هو حاله،مقارنة ببقية الأحزاب التونسية. فواقع الأمر أن الفارق بينهما فى المقاعد كان بسيطا ولا يتجاوز نحو، 16 مقعدا، فضلا عن أن قادة حزب النهضة بدأوا فى الحديث فور إعلان النتيجة عن القيام بدور الثلث المعطل فى «مجلس نواب الشعب» القادم. وكان حزب النهضة الذى يتزعمه راشد الغنوشى عضو مكتب إرشاد التنظيم الدولى للإخوان، هوأكبر الأحزاب الفائزة فى الانتخابات التى أعقبت الثورة التونسية فى أكتوبر عام 2011 وتزعم بناء على تلك النتيجة،ائتلافا حكوميا ثلاثيا ضمه بجانب حزب «المؤتمر من أجل الديمقراطية» الذى يرأسه «المنصف المرزوقى» ذو التوجه الإسلامى العروبى، وحزب «التكتل من أجل العمل والحريات» بزعامة مصطفى بن جعفر ذى التوجه الاشتراكى الديمقراطى، ومن المعروف أن هذا الائتلاف الحكومى قد هيمن على تشكيلته وتوجيه سياساته حزب النهضة، مما أدى لتهميش شريكيه فى الترويكا الحاكمة، ودفع بنحو 25 نائبا للانسحاب من حزبى المؤتمر والتكتل احتجاجا على ممالأتهما لسياسات النهضة، ثم انضمامهم لأحزاب أخرى، وهو الأمر الذى أضعف هذا الائتلاف الحاكم، وصدع أركانه، وأفقدهم بجانب أسباب أخرى، ثقة ناخبيهم. فحكومة النهضة فشلت بامتياز فى إدارة أزمات البلاد الاقتصادية والأمنية، وفى صيانة الحريات الديمقراطية،ووجهت الأحزاب و القوى السياسية أصبع الاتهام لحزب النهضة الإخوانى بدعم المنظمات الداعية والمنفذة للإرهاب، وتعقب المعارضين واغتيالهم، وحل روابط حماية الثورة لزعم قادة النهضة أنها تروج للعنف، وسمحت بتدريب و بتهريب الإرهابيين إلى داخل تونس،، وتشجيع الشباب التونسى وتجنيده للمحاربة مع الجماعات المسلحة فى سوريا، فضلا عن تهريب الأسلحة بكثافة، مما أخل بالأوضاع الأمنية خللا فادحا، والتشجيع على استخدام المساجد كمنبر للجماعات التكفيرية لترويج آرائها المتشددة التى تكفر المواطنين وتتدخل بالعنف والقتل، كجماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى الحياة الخاصة للمواطنين لإكراههم على تغيير أنماط حياتهم، فضلا عن تصديهم لمنع حفلات غنائية وغلق صحف ومحطات تليفزيونية. وعلى نفس الوتيرة التى أدارت جماعة الإخوان فى مصر عامهم الفاشل فى الحكم،فقد سهر حزب النهضة –الذى صعد لحكم تونس بفعل ثورة لم يشارك فيها - على تمكين أتباعه وأنصاره فى مؤسسات الدولة والحكم، ومنحهم امتيازات تفوق قدراتهم وتستنزف موارد الدولة، لتحقيق هدف الحزب الأول والأخير المتمثل فى تغيير الطابع العلمانى الذى رسخه الحبيب بورقيبة فى مؤسسات الدولة التونسية منذ استقلالها عام 1956، وأسلمة الدولة والمجتمع، حتى لو تم ذلك ضد رغبة غالبية الشعب التونسى، وضد طموحاته فى إعادة بناء وطنه كدولة ديمقراطية حديثة، بعد ثورته على نظام استبدادى فاسد. ساهمت تلك السياسات الخرقاء لحزب النهضة الإخوانى وأنصاره فى التحالف الثلاثى الحاكم، وفى خارجه، على تدهور جماهيريتهم جميعا، لاسيما أن نسبة كبيرة من الأصوات التى حصل عليها حزب النهضة ليصعد إلى السلطة فى 2011،كانت بمثابة تصويت عقابى ضد مرشحى رموز النظام الذى سقط،،ولعلهم كانوا مثل غيرهم من « عاصرى الليمون» فى فندق فيرمونت فى القاهرة، الذين صوتوا لممثل جماعة الإخوان، بزعم اسقاط ممثل نظام مبارك،ومن أعاجيب الدهر المدهشة،أن بعضا من هؤلاء يتصدر الآن موقعه مستشارا رئاسيا فى قصر الاتحادية، بعد أن تم، اختياره- بفضل كفاءته فى عصر الليمون بطبيعة الحال – فى لجنة صياغة الدستور، التى وضعت حزمة من الألغام فى وجه خارطة الطريق،لانزال نعانى منها حتى هذه اللحظة !! ومع السقوط المدوى لحكم جماعة الإخوان فى مصر، ومع أعوام ثلاثة من التخبط والفوضى والارتباك وانعدام الأمن من حكم النهضة الفاشل فى تونس،كان من الطبيعى أن تتراجع، شعبيته البرلمانية التى صنعها الثأر والانتقام أكثر من أى شئ آخر. والمقارنة البسيطة بين نتائج انتخابات 2011 وانتخابات 2014 الحالية تكشف دلالات مهمة،فنسبة المشاركة فى الانتخابات الأولى تجاوزت بقليل 54% من بين نحو 5 ملايين ناخب، فيما ارتفعت نسبة المشاركة فى الانتخابات الحالية إلى 69% بما يعنى زيادة وعى الناخبين ورغبتهم العارمة فى التغيير، وفى اختيار من يحكمونهم بعيدا عن أى مؤثرات غير موضوعية. وفى الانتخابات االأولى حصل حزب النهضة على أغلبية مقاعد حزب المجلس الوطنى التأسيسى بواقع 89 مقعدا، انخفضت فى الانتخابات الراهنة إلى 69 مقعدًا، وفيما حصد حزب المؤتمر من أجل الجمهورية فى الأولى 29 مقعدا ليحل فى المرتبة الثانية بعد النهضة، تراجع فى الانتخابات الثانية إلى المرتبة السادسة وحصل على 4 مقاعد فقط،وحل حزب التكتل من أجل العمل والحريات فى المرتبة الرابعة بعد تيار «العريضة الشعبية» الذى كان يقوده الإعلامى «الهاشمى الحامدى» وحصل فى الانتخابات الأولى على 20 مقعدا، تراجع فى الانتخابات الراهنة إلى المرتبة الخامسة عشرة، وحصل على مقعد واحد فقط. تنطوى النتائج السابقة على حقيقة مؤكدة،هى لفظ جمهور الناخبين فى تونس لحزب النهضة وأنصاره فى الترويكا وفى خارجها،ممن يتاجرون بالدين ويخلطونه بالسياسة لتدعيم مراكزهم فى السلطة. وفضحت هذه النتائج رئيس الجمهورية « المنصف المرزوقى» الطبيب الحقوقى، الذى كان علمانيا أثناء النضال ضد حكم بن على، وصار إخوانيا بعد أن استمالته حركة النهضة ليصبح ذراعا مدنيا متحدثا باسمها، تماما، كما فعل « الاشتراكيين الثوريين» وحركة 6 إبريل مع جماعة الإخوان التى أغدقت على اعضائهم من خيراتها أموالا وفيرة، وقلدتهم مناصب رفيعة،فصاروا ذراعا ثورية وليبرالية لها.! أيام النضال ضد استبداد نظام بن على، كان المرزوقى يطالب نصا «بضرورة فصل الدين عن الدولة، لأن كل تجربة تاريخية لكل الشعوب، تثبت أن المزج بينهما ،يقع دوما لصالح الدولة التى تستعمل الدين كغطاء للاستبداد. فالدولة بطبيعتها سياسية، والسياسة صراع مصالح، والدين فى داخل هذه المنظومة ليس سوى ورقة فى يد الفرق السياسية». ولم يكن دعم حزب النهضة لرئاسة المرزوقى للجمهورية، سوى ثمن لصمته وتساهله مع سعى الحزب إلى أخونة الدولة التونسية بالقوة والعنف، وهو الثمن الذى عبر الناخبون التونسيون، عن ازدرائهم له فى صندوق الاقتراع بالنتيجة المزرية التى حصل عليها حزبه. ليس صحيحا أن الإخوان فى تونس قد هزموا، لكن المؤكد أنهم أكثر ذكاء من أقرانهم فى مصر، وأقرب إلى الذكاء الذى قاد به إخوان تركيا طريقهم للهيمنة على السلطة، فقبل أكثر من عشر سنوات حين شكل حزب العدالة والتنمية الحكومة، أكد قادته أنه حزب يلتزم بمبادئ الدستور العلمانى الذى وضع أسسه مصطفى كمال أتاتورك، وبعد 12 عاما من حكمه نجح الحزب فى أسلمة تركيا عنوة، وتعديل الدستور الذى التزم بصيانته، وتقليص سلطات الجيش، والتدخل فى شئون القضاء وتقييد حرية الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى، وتحويل البلاد من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية ينخر فيها الفساد ببركة الترويع والبطش والاستبداد. معركة بناء الدولة الديمقراطية الحديثة فى تونس بدأت، ولاتزال طويلة وممتدة،وحسم هذه المعركة لصالح التقدم نحو الأمام، مرهونة بمدى وحدة القوى المدنية، وحركتها لتوسيع أنصارها وتنظيم جماهيرها، ولعل نجاح تكتل «الجبهة الشعبية» الذى يضم قوى اليسار والقوميين والاشتراكيين الديمقراطيين وأنصار البيئة فى أن يحل فى المرتبة الرابعة من الكتل التى تشكل البرلمان الجديد،أن يؤهله لقيادة تلك المعركة.