تحدث فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، فى برنامجه اليومي، الذى يذاع طوال شهر رمضان المبارك، على الفضائية المصرية فى الساعة 18:30 قبيل الإفطار عن قيمة التواضع وأثرها فى تآلف النفوس وغرس المحبة وترسيخ السلام المجتعي. وفى بداية اللقاء: أكد فضيلته أن التواضع قيمة إسلامية عظيمة، وأدب من آداب النبوة - نبه إليه القرآن الكريم والسنة المطهرة، لما فيه من أثر بالغ فى تآلف النفوس، وغرس المحبة، وترسيخ السلام المجتمعي. وأوضح أن التواضع: هو انكسار القلب لله تعالى، وخفض جناح الذل والرحمة لعباده فى الأرض، بحيث لا يرى له فضلاً على الناس، بل يرى فضل الناس عليه، والأنبياء والصالحون هم أئمة التواضع، والقرآن الكريم احتفى به، وأثنى الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم؛ لتميزه برحمة من الله أودعها فى قلبه: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ" {آل عمران 159}؛ أى لو كنت جافياً قاسى القلب لَتَفَرَّقُوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم، ومع أنه صلى الله عليه وسلم متواضع بطبعه إلا أن الله تعالى أمره أن يتواضع لمن معه من فقراء المؤمنين وضعفائهم، قال تعالى: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" {الشعراء215}، ونهى سبحانه عن تصعير الخد كبرا واختيالا وتفاخرا، فقال: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إن اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" {لقمان 18} والصّعَر: مرض يصيب البعير فيلوى منه عُنقه؛ أي: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تُعطهم وجهك وصفحته كما يفعل المتكبرون "وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا" أي: فرحا "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ" وهو من يمشى متكبرًا (فَخُورا) وهو من يذكر مناقبه ليتطاول على سامعه. وتوقف فضيلته عند حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم له دلالة ومغزى عميق فى عدم احتكار الناس، والنظر إليهم بنظرة الاحترام أيًا كان هذا الذى تنظر إليه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، ثم قال: ألا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»، العُتُلّ: الشديد الجافى والفظ الغليظ من الناس، والجَوَّاظ: الكثير اللحم المختال فى مشيته، وهذه من صفات أهل النار، وأهل الجنة من صفاتهم أنهم ضعفاء مُتضعّفون يحتقرهم أهل الدنيا من المترفين والمنعمين، وفى رواية أخرى: "كل ضعيف متضعف أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ"، والأشعث: من كان شعره ملبّدًا ومغبرا، لا يهتم بتصفيفه ولا دهنه، والمدفوع بالأبواب: لا يؤذن له بالدخول ويحجب لحقارته ورثاثة ملابسه، ثم يأتى الوصف الأخير "لو أقسم على الله لأبره" هذا الشخص الذى نحتقره وننظر إليه باشمئزاز وبشيء من التعالي، قد يكون من أحباب الله تعالى، بحيث أنه لو أقسم على الله أن يصنع شيئًا، لأسرع الله سبحانه فى إجابة طلبه. وتابع فضيلته: أن هذا الحديث نص على وجوب التواضع للفقراء والبسطاء مهما تدنت درجاتهم فى الحياة الدنيا فهم أهل الجنة، فلا يجوز لأحد أن يتكبر عليهم، وإنما ينبغى التواضع لهم وللناس جميعًا؛ لأن الإسلام جاء ليهدم "الطَّبَقِيَّة"، ويُسَوِّى بين الناس، ففى الحديث الشريف: "النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمِشْطِ" وفى حديث آخر: "كُلُّكُمْ لِآدَمُ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ" إذن مبدأ الإسلام أن الناس كلهم سواسية، حتى فى الخِلقة، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)- {الحجرات 13}، فإذا كان الناس سواسية، فإنه من الضرورى أن يتواضع كلُّ أحد لأخيه. وأضاف فضيلته: أن فضيلة المساواة التى هى الأصل الإسلامى الذى يستند إليه التواضع تكاد تتلاشى وتذهب أدراج الرياح، وخاصة فى مجتمعاتنا التى تفشت فيها المفردات الطبقية: "البيه، والباشا، وأصحاب السمو، وأصحاب الفضيلة، وأصحاب السعادة"، ولو أنك أخطأت فى هذا من الممكن أن تُلام، وقد تلاشت هذه المفردات فى الدول الغربية، وأصبحوا أقرب إلى روح الإسلام من المسلمين أنفسهم فى مسألة "الطبقية" فآخر ما عندهم من الألقاب "سيد" لا يوجد لديهم ما نراه عندنا، فلدينا من قد يتعدى لقبه سطرين كاملين، انتهى هذا الكلام فى الغرب منذ زمن، ونتمنى أن ينتهى عندنا؛ لأن الإسلام جاء بقيمٍ فى منتهى الرُّقي، إذا طبَّقناها سنكون شعوبًا محترمة، يرحم بعضُنا بعضًا، ولا ينظر أحد إلى الفقراء والبائسين وأصحاب الحرف أو الأعمال المتواضعة نظرة دونية، فهذا ليس من الإسلام، ولا من حضارة الإسلام.