لا تقوم العلاقات بين الدول على التصريحات الدبلوماسية بين الزعماء والوزراء والمسئولين، ولكن هناك أمور أكثر عمقاً لا يعلمها كثيرون هي التي تحدد أسس تلك العلاقات ومدى متانتها، وتؤثر في كثير من الأحيان على قرارات سياسية مصيرية، يتم من خلالها تجاوز مصطلحات من بينها "الحرية والديمقراطية والشفافية". فبعد أن أعلنت الحكومتان المصرية والسعودية مؤخراً جماعة الإخوان المسلمين "تنظيماً إرهابياً" ، فإن بريطانيا أصبحت أول دولة غربية تتحرك ضد الجماعة، وهو ما كشفته الصحف البريطانية أمس، حيث أفادت تقارير أن الاستخبارات البريطانية تحقق في احتمال ضلوع أعضاء في تنظيم الإخوان في الهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة 3 سائحين كوريين وسائق مصري في سيناء في فبراير الماضي، إضافة إلى احتمال تورط عناصر إخوانية في هجمات إرهابية أخرى. التحرك البريطاني، الذي فاجأ قطاعاً عريضاً من الأوساط السياسية، كشف قلقاً متصاعدا داخل حكومة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون من "انقلاب السحر على الساحر"، وأن رعاية لندن للإخوان حالياً ربما تنقلب عليها مستقبلاً في صورة أعمال إرهابية. لكن هناك لاعب آخر مؤثر في تلك المعادلة، وتشير الدلائل إلى أنه لعب دوراً كبيراً في التحرك البريطاني، وهو النفوذ السعودي، أو تأثير السعودية على صناعة القرار في بريطانيا، إضافة إلى المصالح الاقتصادية التي تجمع بريطانيا بخصمي الإخوان في الخليج، دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، على الترتيب. التأثير السعودي على القرار في بريطانيا ليس جديداً، فهناك قضية شهيرة تعرف باسم "صفقة اليمامة" كان لها صدى كبير على العلاقات بين البلدين. تعود صفقة اليمامة إلى عام 1985، حيث وقّع وزير الدفاع البريطاني الأسبق مايكل هيزلتاين المرحلة الأولى من الصفقة مع السعودية، حيث تقوم بريطانيا بتزويد الرياض بطائرات حربية مقاتلة من طراز تورنيدو وبي أيه إي هوك، وتقديم الدعم الفني والصيانة للطائرات، إضافة إلى إقامة قاعدة عسكرية بريطانية عملاقة في السعودية، وبلغت قيمة الصفقة 43 مليار جنيه إسترليني، ما يعادل 86 مليار دولار. مرّت الصفقة بالعديد من المراحل، إلى أن جاء عام 2004، حيث كشفت صحيفة "الاندبندنت" البريطانية مخالفات مالية طالت مسئولين سعوديين بارزين وآخرين في شركة "بي إيه إي" البريطانية، أكبر شركات الأسلحة في المملكة المتحدة، ومن هنا بدأ التوتر في العلاقات بين البلدين. فقد لوّحت السعودية بوقف الصفقة، ولجأت إلى شركة "داسو" الفرنسية للحصول على طائرات حربية منافسة للطائرات البريطانية "يوروفايتر". لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد صعّدت الصحافة البريطانية حملتها ضد صفقة اليمامة، وبدأ مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة البريطاني Serious Fraud Office، في التحقيق في الوقائع التي نشرتها الصحافة. تصاعدت الحرب الكلامية "الخفية" بين السعودية وبريطانيا، وضغطت الرياض بشدة ب"كارت الإرهاب" و"المصالح الاقتصادية"، وهددت بوقف التعاون الاستخباراتي مع الحكومة البريطانية في مكافحة الإرهاب، وهو ما أجبر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير على إصدار قرار بوقف التحقيقات في تلك الصفقة، حتى لا تتضرر العلاقات الاستراتيجية مع السعودية في مجال الحرب على الإرهاب، وكي لا تفقد بريطانيا آلاف الوظائف التي ستنتج عن فشل الصفقة بين الطرفين. على الجانب الآخر، فإن إعلان السعودية لجماعة الإخوان "تنظيماً إرهابياً"، ورعاية بريطانيا للجماعة من شأنه حالياً أن يثير التوترات في العلاقات بين البلدين، إضافة إلى دولة الإمارات، وهذا له جانب اقتصادي أيضاً. فوفقاً لتصريحات المتحدثة باسم الحكومة البريطانية روزماري ديفيس في نهاية مارس الماضي، فإن الإمارات تتصدر دول الخليج والشرق الأوسط في حجم التبادل التجاري مع بريطانيا بقيمة 8.4 مليار جنيه إسترليني سنوياً، في حين تأتي السعودية في المرتبة الثانية ب 6.8 مليار جنيه إسترليني، أي أن إجمالي التبادل التجاري بين بريطانيا والسعودية والإمارات يصل إلى 15.2 مليار جنيه إسترليني، مقابل 4 مليارات جنيه إسترليني مع قطر، الراعي الإقليمي للإخوان بجانب تركيا. لا يزال من المبكر جداً الحكم على جدية القرار البريطاني، ومدى تحرك لندن ضد جماعة الإخوان، ولكن مجرد الإعلان عن بدء تحقيقات في أنشطة الجماعة يُعتبر ضربة قاصمة من دولة تُعتبر ملاذاً آمناً لمثل هذا الجماعات.