يقارن الكثيرون بين الرئيسين أيزنهاور وديجول وبين المشير عبد الفتاح السيسي ،كلما دار الحديث عن زعامة تنتقل من زنهاور وديجول الجندية إلى السياسة في لحظة فارقة من التاريخ. فلماذا أيزنهاور وديجول؟ يبدو لي أن الزعامة التي ألهمت القيادات السياسية في بلادنا والتي يجب أن تظل ملهمة لقيادات الحاضر والمستقبل المنظور تتمثل في الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت. أعرف أن المزاج العام اليوم ينفر من كل ماهو أمريكي لكن الفارق كبير بين «عقلنة» سياساتنا الخارجية وبين تجاهل حقائق العصر. والفارق كبير بين معارضتنا للحزب الديمقراطي الحاكم ومعارضتنا لأمريكا نفسها. نعود إلى فرانكلين روزفلت.بدأت أهتم بتاريخه منذ كنت أعمل في صحيفة باريسية ناطقة بالعربية وكان مكتبنا في شارع ماربوف المتفرع من الشانزيليزيه بالقرب من محطة المترو «فرانكلين روزفلت» على خط ناسيون – إتوال . فهمت مما قرأته أن معركة روزفلت الأولى كانت مع الاشتراكيتين الستالينية والهتلرية. ولكي يحمي جماهير بلاده من الانخداع بالدعايات السوفيتية والنازية فقد وضع سياسة اقتصادية اجتماعية حشدت حوله كل الطبقات والفئات مع اهتمام خاص بحقوق الأمريكيين السود، فخلق وحدة وطنية صلبة وأصبح حبيب الملايين من العمال والفلاحين والطبقات الوسطى الصغيرة والمتوسطة ،على نحو يجعلني أرى فيه نموذجا مبكرا للزعامة الناصرية. ولاشك أن شعبوية روزفلت فيها ملامح قوية من الشعبوية التي ولدت مع عبد الناصر والتي تتجدد اليوم ،وهي شعبوية كان لها مردودها الإيجابي في تنشيط الاقتصاد وفي تذويب الفوارق الطبقية وفي تمتين العلاقات بين فئات الشعب المختلفة وفي التصدي بقوة للتحديات الخارجية ،وهو ما حدث عندنا في زمن صعود الناصرية ،وما نتوقع له أن يتكرر اليوم ،ولكن عبر مسار لن نسمح له بأن ينتهي بنكسة كتلك التي لا تزال مرارتها في حلوقنا منذ 1967.ولعل أغنية «أيامنا الحلوة رجعت» التي كانت النغمة الرئيسية للحملة الانتخابية لروزفلت تذكرنا بأغنيات مشابهة في الزمن الناصري ،وبأغنية «تسلم الأيادي» هذه الأيام. هل يمثل تحدي آديس أبابا لحياة شعبنا ولحياة الشعوب الأثيوبية ،بالعبث غير المسئول بمياه النيل وبسلامة مصر والسودان وجنوب السودان وأثيوبيا نفسها تحديا مشابها للتحدي الياباني للولايات المتحدة وشعبها بعد الهجوم على بيرل هاربور؟ هل الفوضى والعنف على حدودنا الشرقية والغربية خطر على وجودنا ذاته ؟هل تمثل الأيديولوجية الإخوانية (إذا اعتبرنا خطابياتهم السطحية أيديولوجية) خطرا على استقرارنا السياسي والاجتماعي بمثل ما كانت الأيديولوجيتان الستالينية والهتلرية خطرا على الولاياتالمتحدة؟هل الظروف الداخلية والخارجية في مصر اليوم خطرة لدرجة تحتم ظهور شخصية روزفلتية في مصر اليوم كما حتمت ظهور شخصية روزفلتية في خمسينيات القرن الماضي ،وبعقلانية وبسلوك مؤسساتي يتجنب اندفاع الستينيات العاطفي وفردانيتها التسلطة؟ الإجابة هي نعم. وقواتنا المسلحة قادرة وجاهزة لتقديم أخلص أبنائها وأقدرهم على مواجهة كل هذه التحديات. لقد كافأ الشعب الأمريكي فرانكلين روزفلت الذي واجه التحديات بشجاعة وبشعبوية مثمرة (ليست كل الشعبويات عقيمة)بأن انتخبه لمنصب الرئاسة لأربع مدد متتالية ،محطما بذلك التابو الوهمي الذي يعتبره البعض من الأقانيم التي تعلو حتى على المصلحة الوطنية.ولولا الموت لأكمل روزفلت مدته الرابعة كرئيس للجمهورية ولبقي ربما لمدة خامسة.من يخرج بالشعب من أزمة تاريخية خانقة إلى أفق واسع من الإنجازات التي تعزز الوحدة الوطنية وترفع من شأن المضطهدين والمهمشين ،الذين سماهم أديب روسيا العظيم فيودورديستويفسكي «المستذلون المهانون» وسماهم الفيلسوف الفرنسي الأسود فرانتس فانون «معذبو الأرض» ،وتعيد لهم الحق الإلهي في الحياة الكريمة ،من يفعل هذا كله سوف يسمح له الشعب بأن يعلو على كثير من القواعد بل وبأن يضع هو ،بموافقتنا وبمباركة منا ، نحن الشعب،قواعد جديدة يتأسس عليها المستقبل. لكن يبقى أن روزفلت كان محاميا ولم يكن جنديا خلع زي الجندية ليعمل بالسياسة.هذا التمييز بين الخلفية المهنية العسكرية والمدنية لرئيس الدولة لا معنى له لأن كل رئيس دولة يصبح جنديا بمجرد توليه مهام منصبه . ولهذا السبب فكل أمير وأميرة من البيت المالك البريطاني ،مثلا وهو أعرق مؤسسة ديمقراطية في العالم،يحمل رتبة عسكرية بل وينخرط في تدريبات عسكرية مع الوحدة المقاتلة التي يتولى قيادتها بالفعل.وقد تدرجت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا من رتبة ملازم ثان عام 1945 ،إلى رتبة الأدميرال الأعلي بالقوات البحرية في العام 2011كماتدرج ولي عهدها الأمير تشارلز من رتبة ملازم طيار في العام 1971 إلى رتبة مارشال بالقوات الجوية في العام 2012 .والعبرة في كل هذا هي بمراعاة التوازن بين المؤسسات الدستورية وفقا لما نص عليه الدستور،والأهم من ذلك مراعاة مصلحة البلاد والمضي بها قدما للخروج من أزماتها إلى آفاق السلام والاستقرار والازدهار،في إطار من الوفاق الوطني الذي لاغنى عنه لشعب من الشعوب. الجيش أهم بكثير مما يدركه من يصنعون ثقافتهم بقراءة تقف عند عناوين الكتب ومانشيتات الصحف. وقبل أن ينعم علي الدكتور عمرو عبد السميع بمرافقته إلى بريطانيا حيث قضيت عشر سنوات ،أعطاني كتابا وضعه باحث من جامعة «السوربون-2»قرأت فيه أن الجيش ،في أي نظام ديمقراطي ،هو حصن الدستور. ساعتها فهمت ما قاله رئيس أركان الجيوش الإمبراطورية البريطانية في 1975عندما هدد التطرف اليساري استقرار البلاد ،بأن الجيش سيتدخل ما لم يتوقف عبث اليسار. وفي الظروف التي تعيشها مصر اليوم يبدو الحديث عن الجندية بالطريقة التي يدور بها ضربا من العبث ،فالأزمات المتلاحقة توشك أن تسقط الفارق بين العسكري والمدني ،وروح الزمن القادم ،بتحدياته الوطنية والإقليمية ،لن تجد تعبيرا عنها أفضل من أغنية أم كلثوم «كلنا جندي في كل ميدان». تلك كانت أغنية بناة السد ولابد أن تصبح أغنية بناة السدود الجديدة التي تنتظر همة أبنائنا وبناتنا.