بالنظر إلي استمرار موروثنا السياسي، دون تغير يذكر، فقد رحلت حكومة الدكتور الببلاوى فجأة، وفي صمت «مريب»، وكأن شيئاً لم يكن، الأمر الذي أثار جملة من التساؤلات المشروعة، ربما لا تقف عند حدود أسباب التغيير، بل تمتد لتشمل دلالات تجاهل الرأي العام في الوقت الذي يحرص «الكل» علي الحديث باسم الشعب. فليس من شك أن حكومة الدكتور الببلاوى حظيت بقدر مُستحق من سوء التقدير في الشارع المصري، فكان رحيلها مثار فرحة غامرة بين جموع الناس، غير أن مواصلة السير علي خطى الأنظمة التي نهضت الثورة في مواجهتها، قلل كثيراً من الفرحة، وأضاف إليها حيرة لا يمكن إنكارها. فغياب الشفافية عن الخطاب السياسي الرسمي، لا يمكن أن يُشير باتجاه المضي قدماً في تحقيق المطالب الثورية التي اعتلت حناجر الثوار بوضوح وإصرار؛ وبالتالي تتصاعد المخاوف المشروعة من وقوف نظام مبارك المستبد خلف هذه الممارسات التي طالما شكلت مرتكزاً رئيساً في نظام مبارك الفاسد، حيث أُديرت شئون الدولة بعيداً عن متناول الشعب. فواقع الأمر أن غضب الشعب نتيجة إخفاق حكومة الدكتور الببلاوى، ليس بالأمر الجديد؛ ومن ثم تسقط كل الدعاوي الذاهبة إلي أن التغيير تم فقط بناء علي رغبة شعبية؛ فرفض الشعب لسياسات الدكتور الببلاوى لا ينفي حق الشعب في معرفة الأسباب الحقيقية التي دعت إلي تغيير الحكومة بهذا الشكل المفاجئ، في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلي الاستعدادات الجارية بشأن تنفيذ الخطوة الثانية في خارطة المستقبل، والمتمثلة في إجراء الانتخابات الرئاسية. وفي هذا السياق ينبغي التأكيد علي أن المشهد الوطني لم تكن تنقصه حالة الضبابية، وسيولة المواقف، لنضيف إليه تأجيج مخاوف الارتداد إلي ذات النهج القديم في مخاطبة الرأي العام، وفي ذلك كثير من دواعي الإحباط التي ربما مهدت الطريق أمام الترويج لأغراض أعداء الوطن في المرحلة الدقيقة الراهنة، حيث لا يمكن تجاهل ما لرحيل الحكومة المفاجئ، وغير المبرر رسمياً، من أصداء سلبية علي المستويين، الداخلي والخارجي علي السواء. وقد كان الأمر يقتضي أن تعرض الحقائق علي الشعب، بشفافية وصدق، التماساً لتعاون الشعب، وكافة قواه السياسية، مع الحكومة الجديدة، وهو أمر لا بديل عنه إن أردنا أن نهيئ لها مناخاً داعماً، يمهد الطريق أمامها لتنجز، متى تفادت أخطاء الحكومة السابقة. فلا يمكن أن تبدأ الحكومة الجديدة، وكأن شيئاً لم يكن، فهناك ملفات مفتوحة بالفعل، لا يمكن تجاهلها لمجرد تغيير الحكومة، وبات علي الحكومة الجديدة مواجهتها بإبداع سياسي يبرر التغيير، فإن لم تفعل صدقت الرؤى المستندة إلي موروثنا السياسي القاضي بأن «تغيير الحكومة» أداة فعالة من أدوات امتصاص غضب الشعب، حيث يُفترض أن تُمنح الحكومة الجديدة «فرصة» تلتقط فيها أنفاسها، وتعيد ترتيب أوراقها، لتؤجل المشكلات إلي أجل غير معلوم، تتفاقم فيه وتنمو علي أنقاض طموحات الشعب وفرصه في حياة حرة كريمة، وهو نهج فكري لطالما عاني منه الوطن علي مدى عقود طويلة، تتجاوز عمر حكم مبارك! والحال كذلك، فإن درساً مضي لم نتعلم منه شيئا، ووقتاً أُهدر دونما التقدم نحو ترسيخ مفاهيم جديدة تعبر عن تغيرات نتمنى لو أنها طالت القيم السائدة في الحياة السياسية، كتجسيد حقيقي للثورة؛ فكما فشل الدكتور الببلاوى في مصارحة الشعب بحقائق الأوضاع؛ ومن ثم افتقد تلاحماً شعبياً لازماً لنجاحه، كان الفشل جلياً في طرح أسباب رحيله؛ وبالتالي تأتي الحكومة الجديدة في ظل ظروف ربما لا تهيئ لها مناخاً معاوناً بقدر ما تستلزمه المرحلة. غير أن الوفد لا يملك إلا أن يحمل كل الدعم لحكومة المهندس إبراهيم محلب، متى عبرت بصدق عن طموحات الثورة المصرية المجيدة؛ فليس الأمر يحتمل إلا ذلك، فمهما اختلفت الرؤى، فإن الوطن بات لا طاقة له في مواجهة تكرار الفشل، بيد أن الأمر يتجاوز النوايا الحسنة من الجميع، وصولاً إلي عمل جاد ومتواصل من أجل استعادة ما تشتت جراء غياب الشفافية والمصارحة، وعندئذ ندرك جميعاً أسباب التغيير... وتظل دلالات تجاهل الرأي العام توقظ الشعور الثوري لدى كل وطني شريف. الوفد