«لو كنت عايز أكتب، يوماتى ميت قصيدة، من غير شعور وروح، ومعانى تكون جديدة، كان كل يومين يكون لى، فى الشارع ميت ديوان، ساعتها حاحس إنى، مجرد بغبغان»، بهذه الأبيات التى تنطوى على دلالات عدة، يفتتح الدكتور «مدحت العدل» ديوانه الأول «رصيف نمرة 5» الذى صدر قبل أيام عن الدار المصرية اللبنانية. وفى هذه الإفتتاحية البليغة، يوجز «مدحت العدل» جوهر رحلته الإبداعية الممتدة لأكثر من ثلاثين عاماً، فى مجال الكتابة السينمائية والتليفزيونية، وشعر العامية، وهى تجربة مشحونة بلون خاص من الجمال والقوة والشاعرية التى تحفل بمشاعر فياضة صادقة ، تنتصر للإنسان وللحرية فى كل مكان وزمان، وتنصف المقهورين والمظلومين، وتضىء فى طريقهم شمعة، وتتسم بروح حساسة مرهفة، تعلى من عبقرية الإنسان العادى، وتكشف مواطن براعته وحيله ومكره وطيبته، وهو يجابه كل ما يتعرض له فى رحلة الحياة من إغراءات ومحن، من شقاء وسعادة، من ضعف وقوة، من ألم وفرح، وتمتلئ بعزيمة صلدة من الإصرار، والتحدى والرفض للقبح والدجل والخداع والشر والظلم، والمتاجرة بالأوطان، والأديان، لتكون النتيجة هى النكهة الخاصة التى تميزت بها هذه التجربة الخلاقة، التى فتحت آفاقاً جديدة تركت أثراً عميقاً ساهم فى تطوير شكل ومضمون المعالجات السينمائية والتليفزيونية والغنائية المصرية، وربما لكل هذه الأسباب، فضلا عن سؤال الصدق، والروح التى تنبض به وتهيمن على الكاتب، كان «رصيف نمرة 5» هو ديوانه الأول، رغم أغنياته الذائعة الصيت لمدحت صالح ومحمد فؤاد وعمرو دياب، و»آمال ماهر» وأعماله التليفزيونية، «قصة حب» و«الداعية»، ونحو أربعة عشرة فليماً، كان من بينها «آيس كريم فى جليم» و«أمريكا شيكا بيكا» و«قشر البندق» و «حرب الفراولة» و«أصحاب ولا بيزنس» و«أوعى وشك». ربما تداعى إلى ذهن «مدحت العدل» الصراع الضارى الذى كان يدور فى فيلم «رصيف نمرة 5» بين المواطن الشريف البسيط الشاويش خميس «فريد شوقى» أحد أفراد القوات البحرية، وبين عصابة لتهريب المخدرات تقتل زوجته وتسرق سلاحه، فيفصل من الخدمة، لكنه ينجح بنزاهته و بإصراره على كشف الحقيقة فى الإيقاع بالعصابة، لينتصر الخير على الشر، والعدل على الظلم، والحب على الكراهية، والدولة على من يخرجون عليها، ويعبثون بمصير مواطنيها، ربما تداعى إليه كل هذا، وهو يختار اسم الفيلم، عنوانا لديوانه، و«رصيف نمرة 5» هى القصيدة الأخيرة فى الديوان الذى يحتوى على ثمان وأربعين قصيدة من شعر العامية، وهى احدى أغنيات عمرو دياب فى فيلم «آيس كريم فى جليم» (1992) الذى يفضح تدهور القيم الاجتماعية، مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى، وشيوع ثقافة الاستهلاك، التى نهبت ثروات البلاد، ودمرت حياة الفقراء، وأطاحت بالطبقة الوسطى إلى قاع المجتمع، تحت دعوى سقوط الأيديولوجيا واللحاق باقتصاديات العصر، برغم نصر أكتوبر العظيم، تقول القصيدة: «رصيف نمرة خمسة والشارع زحام، وساكت كلامنا ما لاقى كلام، تسالى يا خالى تدخن ياعم، تتوه المعانى فلسانى لجام، كلاكس التروللى بيسور ودانى، وشحتة المزين بياكل ودانى، يانادى باريس تعالى وحاسبنى، وجدول ديونه عشانه وعشانى.. وجت واقعة سودا ف سوق الإمام، عشان عم لمعى بتاع الحمام، مقدرش يوصل لأى اتفاق، مع السبع أفندى فى قضية سلام، وأطفال عجايز ف مهد الطفولة، وأفلام قديمة وإعلان كاكولا، تبزنس تعيش لآخر حياتك، ولو باعوا خالتك حتاخد عمولة، ترماى بسنجة فى روض الفرج، وأعمار تعدى لا يجى الفرج، ولا الشط باين لآخره مراسى، ولا حد راسى منين الفرج، رصيف نمرة5، وكانت الهجرة غير الشرعية للشباب المصرى نحو وهم الحلم الأمريكى، هى أحد الآثار المدمرة لسياسات الانفتاح الاقتصادى التى حولت باعة جائلين إلى تجار عملة، وكان عم دهب واحداً منهم: «عم دهب بياع حكايات، كان عنده ربابة وفيها حاجات، كان من دشنا، وعشنا وشفنا، عم دهب بيبيع دولارات،.. عم دهب لقى ناس صعاليك، نازلين نهب ولا المماليك، قالوا انفتحت قام منفتح، بقى كسيب ومالهوش شريك، باع الناى، جاب زلموكات، عم دهب بيبيع دولارات! يمتد رصيف «مدحت العدل» فى مساحة الوطن، فى شوارعه وأزقته وحاراته، وأزمانه، يرصد بموهبته الشعرية، سليلة «بيرم التونسى» و«فؤاد حداد» و«صلاح جاهين» و«فؤاد قاعود» آلامه وأفراحه، قبحه وجماله، انكساره وانتصاره، مطوعاً الكلمات والمعانى، بأسلوب سهل ممتنع لدفقات من الأمل، وبعث الثقة بالنفس، وتوسيع نطاق الأحلام الممكنة، مهما بلغت أوقات الشدة والألم والضجر، ولأنه «رصيف» فهو قرين الحرية، والتحررمن الأغلال، وهو موطن للشكوى ورواية القصص، وللتأمل واللهو، وبيت من لا بيت له من فلول المهمشين، والضائعين، وعلى الرصيف تتدفق كلمات القصائد التى تذوب عشقاً فى تراب مصر وشموسها ونيلها وأهلها: «المصرى فى أى مكان وزمان، الوطنى الصح أبو الجدعان، جايز تلاقيه نايم سرحان، وتقول دا خلاص راح ف التوهان،وف لحظة يثور ويهب الشعب،ونلاقى الدم فدا الأوطان، المصرى رقيق وبديع وحويط، يستعبط لما تقول دا عبيط، لكن جواه عقل يا ولداه، مع حكمة وصبر تقولش محيط، ع السطح بسيط ولكنه غويط ،جامد وعصى على التفتيت، المصرى الحر أبوالتفانين، من فقره ومكره وكتر الدين، خرم التعريفة.. عيال حريفة.. دهنوا الهوا حتى كمان بلونين، الأبيض لون قلب المصريين، الأحمر للشهدا فى الميادين». وحين تغولت العشيرة فى مسعاها الفاشل لجرنا إلى عصور الظلام السحيقة، قال لهم مدحت العدل بجسارة ووضوح «احنا شعب وانتوا شعب»: «انتوا بتحبوا الجهامة، واحنا بنحب ابتسامة، احنا حرية وكرامة وانتوا سجن وشرع غاب.. احنا بنشوف الحقيقة، والعقيدة ف أى دين، كنت قبطى أو يهودى والا ضمن المسلمين، رب واحد.. معنى واحد، الرسالة يا مؤمنين،.. احنا عشاق الإرادة، والحقيقة واليقين، وانتوا تجار المنابر، والبخور والمجذوبين،.. احنا مصرى بسيط وراضى، عسكرى جاى م النجوع، يسمع الراديو الصغير، الأدان يملاه خشوع،..مش صوت جهورى ف ميكرفون، يصرخ يهدد بالوعيد، وكأنه واخد م السما توكيل يكفر بعضنا، يهدينا نرجع مسلمين، ياعم ما احنا مسلمين، ومؤمنين وموحدين، من قبل حتى ما تتولد، واحنا اللى وحدنا الإله، قبل الديانة ما تتوجد، ولأن مصرالمؤمنة، قبل التاريخ فى دمنا، عمرنا ما حنبقى زيك، ولا انت حتكون زينا». أخذنى ديوان مدحت العدل بعيدا عن ضجيج أصوات مؤلمة، احترفت إشاعة اليأس فى النفوس، كلما لاحت فى الأفق بشائر التغلب على أسبابه، واستمتعت بالديوان مرتين، مرة بقراءته ،والثانية بسماع القصائد بصوت الشاعر عبر الإسطوانة المدمجة المرفقة بالنسخة الورقية، لأدرك مجددا قدرة الإبداع الراقى على هزيمة اليأس، وإشاعة الأمل، وتخفيف الألم.