كانت الحرب العالمية الثانية هي السوق الرائجة لانتشار كافة الأفكار الفاشية ونشاط فكرة العادل المستبد.. وحينما روج أحمد حسين لحزب مصر الفتاة علي هدي أفكار النازية والفاشية- إيطاليا الفتاة، وألمانيا الفتاة- في أوائل الثلاثينات.. جاءت الحرب العالمية وقد استطاعت جيوش هتلر أن تبلغ مداها في أنحاء المعمورة لتعطي دفعة قوية لأصحاب الرؤي الفاشية الكارهين للحزبية... أما علي ماهر الكاره للوفد والمستقل بلا حزب ورئيس الديوان الملكي ورئيس الوزراء السابق فقد رأي في تقدم جيوش هتلر نحو العلمين ضالته في استعادة منصبه مستخدماً علاقاته الواسعة بحسن البنا وإخوانه الناقمين علي الوفد والحزبية... وموظفاً تحالفه مع الشيخ المراغي شيخ الأزهر في تحريك الطلبة الأزهريين في موالاة الملك ضد أعدائه. جاء هذا متوافقاً مع رغبات الملك الذي كان قد مد خيوط محادثاته مع الألمان عبر سفيرنا في طهران يوسف ذو الفقار والد الملكة فريدة والقريب من الملك... فكانت تظاهرات 31/1/1942 ثم تظاهرات «إلي الأمام يا روميل»... ونودي أيضاً «علي ماهر رجل الساعة».. وقد انطلقت التظاهرات بإيعاز من علي ماهر بمعاونة محالفيه... في وقت اقتربت فيه جيوش روميل واستفحلت أزمة القمح، وتخاطف الأهلون الخبز، فقدمت حكومة حسين سري استقالتها في 2/2/1942. في 3 فبراير طلب السفير البريطاني من الملك تشكيل حكومة يرضي عنها الرأي العام برئاسة النحاس، واجتمع الملك مع الزعماء والسياسيين ودعا لتشكيل حكومة ائتلافية ورفض النحاس الفكرة.. في مساء 3 فبراير دعا السفير البريطاني أحمد حسنين وأبلغه بأن انجلترا ترغب في أن يؤلف النحاس الوزارة، فرد عليه رئيس الديوان بأن المباحثات جارية لتأليف وزارة قومية... وفي صباح 4 فبراير سلم السفير البريطاني رئيس الديوان انذاراً نصه إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعي لتأليف الوزارة، فإن الملك فاروق يتحمل تبعة ما يحدث. أسرع فاروق بدعوة الزعماء والسياسيين الساعة الرابعة عصراً، وقال انه مستعد للتضحية بكل شيء وأنه لا تعنيه سوي كرامة مصر وقال «النحاس» انه لا يتلقي أمر تكليف الوزارة إلا من الملك واتفق الجميع علي ان الانذار يتنافي مع استقلال مصر، ووقع الجميع علي ذلك، وذهب أحمد حسنين بقرار الزعماء إلي السفارة وقبل التاسعة مساء حضر السفير ومعه جنرال ستون قائد القوات البريطانية وحاصرت الدبابات قصر عابدين وقدم السفير لفاروق خطاب التنازل عن العرش طالباً توقيعه وإلا فإنه لديه أشياء أخري غير سارة... معتبراً ان رسالة أحمد حسنين التي سلمها له عدم موافقة علي الانذار... وكاد «فاروق» يوقع لولا أن سارع «حسنين» بالتدخل لديه، فتطلع «فاروق» للسفير مؤكداً انه سوف يستدعي النحاس باشا فوراً لتشكيل الوزارة... وأظهر السفير تردداً متعمداً، ثم مط شفتيه ووافق، ويعقب لامبسون في مذكراته «لن يكون من العدل أن يفقد «فاروق» عرشه لتأخره ثلاث ساعات عن قبول الانذار». استدعي «فاروق» الزعماء والسياسيين وقال «أنا أكلف النحاس باشا بتأليف الوزارة كما يشاء» واعتبروا ما حدث في اجتماعكم السابق كأن لم يكن.. فاعتذر «النحاس» وتمسك بما وقعه مع الزعماء، فألح عليه الملك قائلاً له «إنك الوطني الوحيد وأن قبولك الحكم تضحية جديدة نضيفها إلي تضحياتك السابقة»، وهنا صاح أحمد ماهر ان قبلت الحكم فإنك تأتي علي أسنة الرماح الانجليزية... فأسكته الملك وتدخل إسماعيل صدقي فقال له الملك اخرس فقال النحاس «انتم الذين تتولون الحكم رغم ارادة الأمة وعلي أسنة الرماح بانقلاباتكم الدستورية، وأنا قبلت الحكم بأمر الملك لأنقذ البلاد مما أوقعتموها فيه من أخطار». نستطيع أن نستخلص مما سبق النقاط التالية: 1- ان تدخل السفير والدبابات البريطانية كان لخلع «فاروق» وليس لفرض حكومة «النحاس»، وفي هذا يقول عزيز فهمي «ان صاحب الجلالة كان في استطاعته لو شاء أن يرفض الانذار البريطاني وأن يعفي رفعة «النحاس» من تشكيل الوزارة ولو شاء أن يرفض الانذار للتف المصريون حول عرشه المفدي حتي تعتذر بريطانيا أو تسيل آخر قطرة في دماء المصريين» في اشارة واضحة الي انه لو لم يقبل «فاروق» الانذار لما تألفت الوزارة. 2- دائماً تتدخل بريطانيا ضد الحركة الوطنية لحماية العرش ولكن هذا التدخل جاء في صالح الأغلبية، فكان طبيعياً أن يقبل «النحاس» لا سيما في ظل أزمة الخبز وعدم وجود حكومة مدعومة من الشعب لمواجهة أخطار الحرب وإغراق الدلتا كما كان يريد الانجليز لمواجهة روميل. 3- ان الوفد بتراثه الديمقراطي كان طبيعياً أن يتحالف مع معسكر الديمقراطية ضد قوي الفاشية، فمن السذاجة تصور أن التحالف مع هتلر سبيلا لتحرير الإرادة الوطنية. 4- شروط الوفد في حكومة وفدية معلنة منذ حكومة 1928 وهل كان تأليف وزارة ائتلافية يشارك فيها الجميع هو السبيل لنفي التدخل البريطاني كما قال أحمد ماهر، ولكنه كان راغباً في الاستوزار. لاقي تشكيل حكومة الوفد بهجة شعبية واسعة لمجيء حكم الشعب ذلك ما حدث في حينه ولكن في أعقاب إقالة الحكومة مع «هتلر» سبيلاً لتحرير الإرادة الوطنية. في أكتوبر 1944، بدأت أخبار اليوم حملة منظمة ضد «النحاس» والوفد للحديث عن الضغط البريطاني لصالح «النحاس» وإشاعة فقدان الثقة في الوفد وضرب شعبية «النحاس» وفي هذا كله إجهاض للحزبية ولفكرة تداول السلطة التي تكاد تترسخ في الضمير الشعبي، وذلك تمهيداً للانقضاض علي التجربة الديمقراطية في ظل رغبة الاستعمار الأمريكي الجديد في تسلم العهدة من بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية، ويرغب في إعادة تشكيل المنطقة، فكان هدف اخراج مصر من الطريق الدستوري والقانوني وإدخالها في متاهة الفاشية العسكرية والدينية هو المطلوب، وكانت البداية حملة التشكيك في الحزبية وفقدان المصداقية لحزب الأغلبية وزعيم الأمة، ولما لم تؤت الحملة أكلها وجاءت حكومة الوفد ثانية بالانتخاب الحر المباشر في 1950 كان حريق القاهرة للقضاء المبرم علي تداول السلطة، ولتأتي حركة 23 يوليو وتدخل مصر في نفق الصراع المظلم بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية. جدير بالذكر ان بريطانيا قدمت انذاراً لفاروق بضرورة إقالة علي ماهر في 19/6/1940 فقبله طائعاً وذهب علي ماهر وجاء حسن صبري ولم يحتج الفاشيون، ولم يتحرك عزيز المصري رافضاً، ولم تكتب صحافة أخبار اليوم شيئاً عن هذا. وقد كانت الاتصالات بين المجموعات المبكرة للضباط الأحرار والإخوان قد بدأت علي يد أنور السادات وكانت تضم عبداللطيف بغدادي وأحمد سعود ووجيه أباظة، وقد أبدي هؤلاء احتجاجهم علي 4 فبراير لدي أحمد حسنين، وقد وضحت آثار فاشية الإخوان علي نظرتهم المتسرعة للأمر في مجافاة للروح الشعبية السائدة في ذلك الوقت، وقد كان لعزيز المصري أثر في هذا، وقد كان يحمل غصة في نفسه جراء طلب بريطانيا إحالته للتقاعد فمنحه علي ماهر رئيس الوزراء في ذلك الوقت اجازة مرضية طويلة مما دفعه إلي ابداء روح للتعاون مع الألمان، مما كان له أثره علي أفكار بعض الضباط مثل حسين ذو الفقار صبري وعبدالمنعم عبدالرؤوف وثيق الصلة بجماعة الإخوان.