يجوبون النجوع والقرى والمدن في ربوع مصر المختلفة حباً في رسول الله، محمد خاتم الأنبياء، حاملين سيرته العطرة، يتغنون بفضائله السمحة.. إنهم “مداحين النبي” كما تطلق عليهم الثقافة الشعبية المصرية. والذين يتواجدون في الموالد الشعبية المختلفة وأماكن الاحتفال بأولياء الله الصالحين. والمديح النبوي هو عبارة عن أشعار تهتم بمدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من خلال تعداد صفاته الخُلُقية والخَلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارته والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته، مع ذكر معجزاته الماديّة والمعنويّة ونظم سيرته شعراً والإشادة بغزواته وصفاته والصلاة عليه، وغالبا ما يتداخل المديح النبوي مع قصائد التصوف وقصائد المولد النبوي. ويحفل تاريخ الفن الشعبي المصري بأسماء عريقة لفنانين مصريين احترفوا المدح النبوي مثل الشيخ ياسين التهامي، والشيخ سيد النقشبندي، والشيخ أحمد التوني، والشيخ محمد الكحلاوي، كما لا يخلو هذا الفن العريق من منشدات نساء مثل خضرة محمد خضر وجمالات شيحة وفاطمة سرحان. ويحذر متخصصون في الفن الشعبي من تراجع هذا التراث العريق وانقراضه من على الساحة الفنية وخاصة مع غياب التوثيق الرسمي لهذا التراث الشعبي والذي ينشط الاحتفال به في ذكرى ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا خلال الأمسيات الرمضانية وكذلك في الموالد الشعبية الخاصة بأولياء الله الصالحين التي تجرى في أنحاء مختلفة من أقاليم مصر وخاصة في الصعيد، والتي لازال تراث المداحين حاضرا بقوة. ودفع ذلك عددا من المنشدين والمبتهلين وفرق الإنشاد الديني والمداحين إلى إشهار أول نقابة مستقلة للإنشاد الديني والابتهالات في تشرين أول/اكتوبر الماضي، وينتظر الإعلان عن تفاصيل أنشطتها في وقت لاحق من الشهر الجاري. وحول أهداف هذه النقابة، يقول المداح والمنشد محمود ياسين التهامي في تصريحات هاتفية لمراسلة الأناضول إن “هذه النقابة أنشأت بالأساس بهدف حماية وحقوق المداحين من أجل الحفاظ على التراث الديني من ابتهالات وتواشيح ومدائح نبوية واحياء هذا التراث الشعبي في ظل ما يواجهه من تحديات تهدد باندثاره”. وأضاف: “كما نسعى من خلال هذا التجمع الرسمي إلى رفع الوعي المجتمعي بالإنشاد الديني دينيا وفنيا؛ وذلك بإقامة الحفلات الفنية الإنشادية، وتشجيع البحوث والدراسات في مجال الانشاد الديني من أجل توثيق هذا الفن العريق”. من جانبه، يقول المخرج عبد الرحمن الشافعي ورئيس فرقة النيل للفنون الشعبية: “من أهم التحديات التي تواجه الفن الشعبي بشكل عام والمداحين الشعبين بشكل خاص هو التهميش الرسمي الذي يواجهه هؤلاء الفنانين حيث يتم معاملة المداحين والمنشدين كأنهم فنانين من الدرجة الثالثة”، موضحا أن “أجورهم قليلة والظروف التي يعملون فيها تعتمد بشكل كبير على الجهد الذاتي”. ويطالب الشافعي بضرورة حماية الموروث الشعبي من قبل الدولة حيث إنه يمثل “الذاكرة الشعبية لمصر وللمصريين”، مشددا على أن هذا النوع من الفنون “يروي التاريخ والحضارة المصرية وعلى الدولة أن لا تتجاهله”. ويعد الشيخ الراحل “سيد النقشبندي” من أبرز من ابتهلوا وأنشدوا التواشيح الدينية ورتلوا القرآن الكريم في القرن العشرين المبلادي، ويعد صاحب مدرسة متميزة في الابتهالات، ولايزال يستمع إليه كثير من المصريين عبر الإذاعات المصرية وخاصة خلال شهر رمضان وفي ذكرى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وترجع أصول النقشبندي إلى مدينة نقشبند بجمهورية أذربيجان حيث نزح جده النقشبندي الكبير إلي العراق والشام، ثم استقر في القاهرة خلال القرن التاسع عشر الميلادي. اسم آخر لمع في سماء الانشاد الديني والمدح النبوي في مصر، وهو الشيخ أحمد التوني، من أسيوط بصعيد مصر، وهو واحد من أشهر وأكبر منشدي صعيد مصر ويطلق عليه لقب “ساقي الأرواح” و”سلطان المنشدين”. وقد استطاع بأدائه المتميز الخروج بالغناء الصوفي من المحلية إلى العالمية، إذ دعي للمشاركة في العديد من المهرجانات الموسيقية الروحية. ويركز التوني في إنشاده على الكلام، لا على الألحان حيث تكون الألحان مجرد خلفية مرافقة، وهو ينشد بشكل فطري قائم بصورة أساسية على الارتجال مما يحفظه من أشعار كبار أئمة التصوف ومنهم: أبو العزايم وابن الفارض والحلاج، ويتبع الشيخ تختاً موسيقياً شرقياً بسيطاً مؤلفاً من “الرق والناي والكمان..”. أما أشهر المنشدات من النساء فتشتهر المنشدة الراحلة “خضره محمد خضر” بغناء التراث الشعبي وخاصة في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث اكتشفها الملحن المصري زكريا الحجاوي مؤسسس الفن الشعبي المصري الحديث في مطلع القرن العشرين. ومن أشهر القصائد التي اشترك في غنائها العديد من المنشدين المصريين قصيدة “البردة” وهي أحد أشهر القصائد في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كتبها محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري،/ الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي، والتي تقول بعض أبياتها: محمد سيد الكونين والثقلي ن والفريقين من عرب ومن عجمِ نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ أبر في قولِ لا منه ولا نعم هو الحبيب الذي ترجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصم فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم.