اليوم تقفل عقارب الزمن دورتها الرتيبة على العام الثالث والأربعين لرحيل الزعيم جمال عبدالناصر، رائد الفعل الوطني والقومي والإنساني، باني نهضة مصر ومنعش الآمال بوحدة عربية طال انتظارها، الحاضر الغائب وشاغل الدنيا في حياته ومماته. ظاهرتان متناقضتان تبرزان ونحن نعيش ذكرى حقبة ناصر الثورية في زمن هو الأشد وطأة على الأمة، بآلامها وآمالها، بأعلامها وإعلامها، وبكل ما يعنيه تراث ناصر للفقراء الذين مثّلهم في فكره وعيشه، ولم يكن يخجل من الاعتراف بأنه واحد منهم . ظاهرتان تعكسان صراعاً بين نهجين، أحدهما يستعيد الأحلام التي تكفّنت مع جسد ناصر، ويخرجها وسط جموع الملايين على شكل صور تقول لهم: لا تتعبوا أنفسكم في البحث والتفكير، فالطريق الذي رسمه زعيمكم ما زال متاحاً . والثاني يصرّ على محاربة عبدالناصر فكراً وممارسة ونهجاً وخياراً . وفق منطق الحياة وجدلية التألق، يصب وفاء الأوفياء وهجوم الحاقدين في خانة عظمة ناصر، فالأوفياء لا يخلو منهم المكان والزمان، والحاقدون يمنحون الأوفياء دليلاً إضافياً على عظمة من يحقدون عليه . لو أن أحداً لم يهاجم عبدالناصر، لكان هذا يعني أنه في المنطقة الرمادية، لكنّه لم يكن كذلك . ولهذا فإن من أطلقوا عليه الرصاص في ذروة اشتباكه مع الإمبريالية، لم يكفّوا نيران حقدهم عنه بعد مرور أكثر من أربعة عقود على رحيله . المضحك المبكي أن هؤلاء الحاقدين غازلوه في بداية مرحلة التمكّن في السلطة، واعترفوا بفضله عليهم إذ استفادوا من التعليم المجاني وتوزيع الأرض على الفلاحين، ثم ما لبثوا أن دفنوا الفضل والاعتراف وعادوا للهجوم . وبعد اختبارهم سنة كاملة في حكم الشعب كانت حصيلة إنتاجهم صفراً مكعّباً في البناء وامتيازاً في تقسيم الشعب وإرساء الأساس لدكتاتورية تبجّحوا بأن تستمر خمسمائة عام . في ذكرى رحيل ناصر، ليس ممكناً الحديث عن إنجازاته، فهي معروفة وأكبر من أن يتّسع لها مقال، إنما يكفي أن نلقي بالاً إلى عجائز يفترشون أرصفة مصر ويحملون صوره مبلّلة بدموع الحزن والافتقاد، وهؤلاء هم ملايين مصر التي خرجت تبحث عن كرامتها المفقودة التي لا تستعاد بالفئوية الضيقة والظلامية القاتلة، إنما بالفكر المستنير والدين السمح التصالحي الموحّد لا المفرّق، وبالعقل المفكّر لا المكفّر . بعد انتفاضتين في غضون ثلاث سنوات، مصر مقبلة على آفاق جديدة جوهرها استعادة كرامة الوطن والمواطن، وإنعاش دورها القومي والأممي الذي قتله النظام الأسبق ودفنه النظام السابق . مصر في هذه الأثناء خلية نحل تعمل على صياغة نظامها السياسي القادر على التأسيس لمستقبل يعيدها إلى موقعها الريادي والقيادي . العربي المخلص الذي يحب مصر الشعب والدولة، وليس هذا الطرف أو ذاك فيها، يتمنى أن يرى مصر تعود، لأن عودتها تعني أن الروح ستعود للأمة كلّها . العربي والمسلم والمسيحي الحق هو ذاك الذي يعتبر نفسه مواطناً، إيمانه وانتماؤه أرحب من التقوقع في جماعة ترى الوطن “قطعة من تراب عفن” . مصر التي في خاطر العرب نريدها ديمقراطية لا تقصي أي إنسان مخلص، وعروبية تقود إلى إعادة صياغة المشهد العربي بعيداً عن العلاقات مع شمعون بيريز وكيانه، ولا ترهن سياستها بحفنة “مساعدات” مسمومة من أمريكا . نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية