لم يكن الأربعاء الرابع عشر من أغسطس يوماً عادياً فى حياة «أبوكريم» حارس بيت أشهر كاتب سياسى ومؤرخ عربى وعالمى، ففى ذلك اليوم حُرم أبوكريم ولأول مرة من رى أشجار مزرعة القصر، وفتح نوافذه، لتهوية أعرق وأغلى مكتبة فى المنطقة. استيقظ الرجل على صيحات ترج أرجاء المكان، وألسنة من النيران تلتهم قصر هيكل، ومكتبته ومزرعته، وعبثاً حاول أهالى قرية «الخميسة» بمنطقة برقاش «شمال غربى الجيزة» إخماد الحريق الهائل الذى نفذته جماعة الإخوان، انتقاماً من الكاتب الذى فضح تاريخها بالوثائق والمستندات. على بعد كيلو مترات قليلة من أهرامات الفراعنة، زرنا بيتاً ليس عادياً، لنشهد بأم أعيننا على إرهاب الإخوان، ونروى للمصريين الى أى مدى يكره هؤلاء كل من يحتفى بهوية وثقافة وتاريخ مصر، وكل من يدعم ثورة العقل والمعرفة ويساند الحرية والديمقراطية ويحارب الإرهاب. بين بساتين عديدة لكبار مشاهير ونجوم مصر، دلفنا إلى بيت ريفى أنيق، تتصدره بقايا لوحة قديمة تحمل اسم صاحبه «محمد حسنين هيكل»، تحيطه من الخارج أشجار المانجو، وأحواض من الزهور والورود ترسم لوحة فنية طبيعية، وتعكس ذوقاً رفيعاً لصاحب القصر، الذى كان الرجل الأول فى عهد الرئيس عبدالناصر، والقابض بعقله ويده على عشرات الوثائق التى تدين الإخوان وتاريخهم مع العنف والإرهاب، منذ أن ظهروا كجماعة دعوية عام 1932، وحتى وصلوا الى الحكم عقب ثورة «25 يناير 2011»، ليعودوا مرة أخرى الى نقطة الصفر، والى سياسة «الأرض المحروقة» وقتل كل من يخالفهم الرأى. فى صباح ذلك الأربعاء تحركت قوات الجيش والشرطة لفض اعتصامى «رابعة والنهضة» وقبل أن تتعامد أشعة الشمس على سطح الأسفلت المؤدى الى قصر هيكل، فوجئ أبوكريم وأهل القرية التى تبعد كيلو مترات قليلة من ترعة المنصورية بوابل من قاذفات المولوتوف تصوب نحو المبنى فتحرق معظمه وتلتهم نيرانها مكتبة ضخمة تحتوى على «18» ألف مخطوطة ووثيقة ومئات الكتب التاريخية النادرة، فقد كان ذلك التوقيت مقصوداً ومتعمداً لحرق قلب الكاتب الكبير الذى وضعه قيادات رابعة ضمن قائمة الاغتيالات التى تضم مئات الكتاب والصحفيين والإعلاميين. ولذا لم يكن صعباً على الحارس أبوكريم أن يفهم ويستوعب دوافع هجوم بلطجية الإخوان. اتخذ الرجل ركناً قصياً، ونادى بصوت الفلاحين البسطاء على زميله سعيد، شاى للأفندية، وأسرع لإحضار ثلاثة كراسى، وأخذ يرمق زميلى المصور بنظرات المراقب، وبنبرة لا لتخلو من الخجل اقترب منا وقال «اعذرونى ممنوع الاقتراب والتصوير، تعليمات الباشا واضحة ومشددة، ولا يرضيكم قطع الرزق والعيش». استجبنا لرغبة الرجل وقبل أن يعود الى مقعده، استدعى سؤال المرشد محمد بديع «ما ذنب الأشجار» حرقوها ودمروا المكان منهم لله، حرقوا كتباً ووثائق وكتباً لا يمكن تعويضها ولا يعرفون قيمتها، وأخذ يروى أبوكريم لحظات الرعب التى عاشها والعمال والجيران، عندما هاجمهم بلطجية الإخوان بالسلاح الأبيض وزجاجات المولوتوف، وجراكن البنزين، قبل أن يسرقوا ما بداخل القصر من محتويات. صمت الحارس برهة، وعاد يضرب كفاً بكف مستنكراً الجريمة البشعة بحق مصر وتاريخها «حتى عربات الاطفاء منعوها من الدخول، واستدعوا البلطجية ليسرقوا ما تبقى من ثلاجات ومراوح وشاشات عرض وكتب لا تقدر بثمن». ورغم اتساع مساحة القرية وتعدد بساتينها وكثافة غابات الأشجار، إلا أن أهلها الذين يزيدون على «30» ألف نسمة يتميزون بشهامة أهل الريف، يتكاتفون عند الشدة، ويسرعون لنجدة الملهوف.. وهو ما أكده قولاً وفعلاً ابراهيم عبدالرحيم صاحب ورشة حدادة بالقرب من مزرعة الكاتب الشهير، فبعد ساعتين تقريباً من بدء فض اعتصام رابعة، وبينما كان يمارس عمله بإحدى السيارات سمع صوت صيحات متتالية «الله أكبر.. الله أكبر» وبتتبع مصدرها توقف امام مسيرة إخوانية يحمل أفرادها «الملتحون» السلاح الأبيض والشوم، تتقدمها سيارتان ميكروباص، ترجل منها عدد من البلطجية وقاموا بكسر السلاسل الحديدية للقصر والاعتداء على الحراس والعمال،وفى ثوان معدودة احترق القصر والمكتبة وملعب الجولف، وأسرع آخرون منهم بوضع حواجز حديدية وصخور ضخمة وسط الطريق لمنع دخول سيارات الاطفاء والاسعاف. وبعد ثلاث ساعات من الاحتراق، وحسب سامح فوزى.. تمكن الجيران من اخماد النيران رغم اعتراض عدد من بلطجية منشية رضوان ونكلا. وخوفاً على محل البويات الذى يقتات منه سمير السعداوى اضطر لإغلاقه أو كما قال «القادمون قرروا اقتحام وحرق وسرقة كل شىء يقابلهم». كان المشهد مروعاً ومأساوياً، جعل هانى ربيع سائق ميكروباص بالمنطقة يتحسر على حرق تاريخ مصر بهذه الطريقة الانتقامية، فالمبنى كان يشيد المزار العالمى وسبق وأن استقبل فيه هيكل كبار قادة العالم وعدد ليس بقليل من الرؤساء والزعماء، ومن داخله صدرت العديد من القرارات المصيرية والمهمة التى كتبت تاريخ مصر، وشكلت عصراً بأكمله، فى هذا المبنى كان يحط هيكل رحاله، ليقرأ أهم وأحدث الكتب التى ترد إليه من كبريات دور النشر العالمية، ويدرس ويحلل الوثائق النادرة. هنا عالم خاص شهدت جدرانه لقاءات بالزعيم عبدالناصر والرئيس السادات وكوكب الغناء العربى أم كلثوم وغيرهم ممن استقبلهم هيكل ومن بينهم المعزول محمد مرسى قبل ان يصبح فى غفلة من الزمن مسئولاً عن كل المصريين. ولحين تنتهى نيابة كرداسة من التحقيقات يبقى بيت هيكل ومكتبته ومزرعته شواهد تاريخية ثابتة على إجرام الاخوان، وعلى متاجرتهم بالدين والأخلاق، أو كما ودعنا الطفل الصغير سيد تامر «امسكوهم واحبسوهم.. الإخوان الحرامية، ولعوا مزرعة عمو هيكل وضربوا أبوكريم، الناس دى ما يعرفوش ربنا وهيدخلوا النار».