ما كان صندوق الاقتراع بالطريقة الراهنة محكاً صادقاً للاحتكام، لو توخيناه يفرز نتيجة دقيقة معبرة عن حقيقة نبض الجماهير تجاه المرشح الأفضل في سباق الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية إلا لو كان المقترعون من صفوة الأفهام النابهة أو نخبة العقول الراجحة، التي يمكنها أن تنقل نبض الرأي العام الواعي في تحقيق آمال المصلحة العامة للأمة. وأسترشد هنا بمقولة المفكر الوفدي الكبير الدكتور طه حسين، الناطقة بما ينبغي أن تكون عليه توجهاتنا القومية الرشيدة، إذ يقول: «إن الديمقراطية لا تتفق مع الجهل ولا يمكن للأمة أن تكون مصدر السلطات في بلد كثرته جاهلة غافلة»، وكان الدكتور المفكر يقصد بطبيعة الحال استبعاد ذوي الأمية الهجائية والثقافية من المنظومة السياسية أو عملية التصويت الانتخابي. ولعل الفشل الذي أصابنا من حل مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية، وفي الانتخابات الرئاسية من عزل الرئيس مرسي لأكبر دليل علي ذلك عندما أعطت الملايين أصواتها بالصندوق وهي مسّيرة من داخل أنفسها بدوافع الجهل والحيرة والجدب الفكري والضعف النفسي، أو التي سيقت مثل الأنعام إلي صناديق الاقتراع دون أن تملك قدراً ضئيلاً من النضج الفكري. ولسوف تتكرر المشكلة أيضاً في الانتخابات القادمة ما لم يستقر بنا الرأي الرشيد أو الفكر السديد علي ضرورة اختيار النخبة من ذوي الكفاءات الفكرية الثقافية الفاعلة والمستويات ليكونوا وحدهم المعبرين عن روح إجماع الأمة. وأن أمامنا في مصر مثلاً رائعاً تقوم به الكنيسة القبطية عندما لا يكون لمسيحي الحق في اختيار بابا الكرازة المرقسية، اللهم لأربعة آلاف من المسيحيين المميزين المختارين، ويتفق جموع المسيحيين ارتضاء بأن تمثلهم تلك الصفوة في انتخابات البابا. والحل الناجع لنا كمصريين لو نرتضي بعدد مختار كنخبة متفق عليها لتقوم نيابة عن الأمة بالتوجه لصناديق الاقتراع سواء للانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، وذلك بأن تتفق علي اختيار تلك النخبة بعدة طرق مطروحة. مثال أن نختار ذوي المؤهلات العليا أو المتوسطة - وكثير منهم من أبناء الفلاحين والعمال وذوي الحرف البسيطة والمهن المتواضعة - ليقوموا بالاقتراع حاملين هموم وأحلام ذويهم في العملية الانتخابية، وبذلك نصل إلي طريقة صائبة لضمان صحة الأصوات بصواب اختيارهم، وتمثيل كافة طبقات الأمة تمثيلاً ذكياً وعادلاً. أو مثال أن نتبع طريقة التصويت الإلكتروني، وهي بطبيعة الحال تضم كافة المثقفين والمتعلمين. أو مثال أن نختار من كل قرية خمسة ومن كل مدينة أو حي عشرة أو عشرين وحتي يمكن أن يجىء مجموع حاصل ضرب تلك الوحدات الجزئية «القرية والمدينة والحي» علي خريطة القطر المصري بعدة ملايين تقارب عدد أصابع اليد الواحدة أو أكثر لا مانع!، وبذلك نستطيع أن نعزل عشرات الملايين من ذوي الأمية الهجائية والثقافية أيضاً عن المشاركة في التعامل مع الصندوق. إنها تجربة فريدة لو قمنا بها لصفق لنا العالم أجمع، ولاتبعتها كافة الدول النامية أو التي لم تبلغ قدراً كافياً من الديمقراطية.. وسبحان الأعلم بما لا نعلم.