لم يكن متوقعا أن تبدأ أنظمة الحكم التي جاء بها الإسلام السياسي، في الانهيار أو مواجهة استحقاقات خطيرة تقودها لا محالة نحو الانهيار بهذه السرعة، كما حدث في مصر وكما يحدث في كل من تونس وليبيا. فقد توقع العديد من الكتاب والسياسيين أن تستمر حقبة الإسلاميين لفترة زمنية طويلة، طالما بقي الفراغ السياسي الذي خلفته انهيارات المشاريع العروبية والمشاريع اليسارية. والحقيقة أن هذا التراجع السريع الذي نشهده في الأنظمة السياسية ذات الواجهات الإسلامية في دول الربيع العربي، يتطلب التوقف عنده لأهميته على المستويين المحلي والدولي. فعلى المستوى المحلي أثبتت الأحداث السياسية الكبيرة التي نشهدها، أن إسقاط أنظمة دكتاتورية ذات نمط معين لم يكن يعني لدى الشعوب التي انتفضت أنها تتقبل دكتاتوريات جديدة ذات نمط مختلف. جاءت بها أحزاب الإسلام السياسي لتجردها من حقوقها وتتعامل معها بمستوى مختلف من الإهمال والتهميش. وفي هذا تعبير قوي وواضح عن جوهر ثورات الربيع العربي، وموقف مبدئي يمكن التعبير عنه بالقول إن الهوية التي يحملها من ينتمي إلى العالم العربي والإسلامي، لا تتعارض مع تطلعه نحو المستقبل في انتهاج طريق يلتقي فيه مع أبناء عصره على قيم العصر ومثله ومتطلباته. أما على المستوى الدولي فقد كشف عن مدى قصر نظر الإدارة الأميركية، التي راهنت على هذه القوى ودعمتها وباركت وصولها إلى سدة الحكم، وها هي تحصد ثمار ذلك وهي تبدو أمام العالم أجمع، محرجة مرتبكة حائرة ومترددة وغائبة عن تقديم أية مبادرة أو اتخاذ موقف واضح، وهي تشهد السقوط المدوي لنظام الإخوان في مصر. وتراقب بقلق ترنح وتخبط الأنظمة المشابهة في كل من تونس وليبيا. هذا على الرغم من أن الولاياتالمتحدة تمتلك مؤسسات ومراكز بحوث على درجة عالية من الرصانة والمهنية، وليس من الإنصاف اتهامها بالجهل والتقصير في التنبؤ بمسارات الأحداث، ولكن ما يصدر عن هذه المراكز من دراسات موضوعية رصينة لا يعتبر لدى الإدارة الأميركية أكثر من وجهات نظر قد تعيرها بعض الإهتمام أو قد تركنها في أحد الأدراج. وهذا يكشف حقيقة مهمة وهي أن الدعاوى التي تتبناها الولاياتالمتحدة حول الديمقراطية وحقوق الشعوب، لا تعدو أن تكون مجرد أدوات جذابة لا غير في استراتيجياتها للهيمنة الفكرية على العالم. جاءت أنظمة الإسلام السياسي إلى الحكم عبر الربيع العربي، رغم أن هوية ذلك الربيع لم تكن تحمل بصمات هؤلاء، فقد جسد الربيع العربي بحق حلم الجيل الجديد من شباب الأمة في أن "يكون"، وأن يتمتع بما يتمتع به الإنسان في معظم الدول المتقدمة من حقوق وحريات وكرامة تسمح له ببناء نفسه وتوسيع مساحات خياراته، وبالتالي بناء بلده بصورة تتفق مع ما للعصر الراهن من نكهة وسمات. إلا أن الأحزاب التي تلتحف بواجهات إسلامية، هي التي قطفت ثمار تلك الثورات في لعبة صناديق الاقتراع وشرعيتها. ولا تفوت الراصد ملاحظة التغير الذي طرأ في مواقف الحركات الإسلامية من الغرب عموما ومن الولاياتالمتحدة بشكل خاص، منذ أكثر من عقد من السنين، كجزء من استراتيجية فيها قدر من التوجه البراغماتي لدى هذه الحركات، من أجل تمهيد طريقها نحو السلطة. فالحزب الإسلامي العراقي، أي الإخوان المسلمون في العراق، لم يجد حرجا في انخراطه في العملية السياسية ولا في تقربه من الولاياتالمتحدة، ولم يجد الإخوان المسلمون في مصر حرجا في التوصل إلى بعض المشتركات مع الولاياتالمتحدة، ساعدتهم على تخطي صعوبات قبولهم من قبل الأسرة الدولية. لكن هذه الحركات لم تحصن نفسها بما يكفي من أردية ديمقراطية، ولم تستفد من التجربة التركية الناجحة لحكم الإسلاميين. أبرز ما يميز الأنظمة التي جاء بها الإسلامويون، هو عدم وجود برنامج عمل وطني لبناء دولة للجميع، بل وجود برنامج عمل لبناء ما يشبه إمارة تابعة لدولة في مخيلتهم، خلقتها الأوهام التي لا تنتمي إلى الواقع. لذلك عملت على الإحجام عن القيام بأية إصلاحات جوهرية في مجتمعات ينخرها الفساد. ولم تواجه سلبيات النظام السابق الذي سقط بأدوات تغيير حقيقية نحو المستقبل، وبدأت بتغيير الدولة ومؤسساتها وتحويلها عن نهجها المدني الذي يجد فيه كل مواطن موقعا فيها، نحو دولة خاصة بالجماعة. وكان متوقعا لهذه السياسة أن تصطدم بالواقع الذي لا يمكن تطويعه بهذا الشكل، لأنه لا يتفق مع ما فرضته سنة الحياة من تطور على جميع المستويات في المجتمع. وهنا اتسم معظم القرارات والإجراءات التي اتخذتها هذه الحركات، بالتخبط وضعف الكفاءة والعمل على الهيمنة والإقصاء، فحصدت خلال فترة قصيرة نفور وكراهية كثيرين جدا، ممن خدعوا بدعواتها وأسهموا بأصواتهم في إيصالها إلى سدة الحكم. وقد تعدى الأمر ذلك فأصبحت الأنظمة الجديدة حواضن رسمية للمنظمات الدينية المتشددة، التي لا يمكن تمييز ما تقوم به من عمليات عن العمليات التي تقوم بها المنظمات الإرهابية.