«التعليم العالي» يبحث مع وزير خارجية القمر المتحدة التعاون الأكاديمي والبحثي بين البلدين    بعد أسبوعين.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الأول الثانوي بالقاهرة    جوتي ساخرًا من برشلونة: أبتلعوا الأهداف مثل كل عام    محمد منصور: هدفنا في "مسار" تمثيل مصر في كأس العالم لأندية السيدات    الأرصاد الجوية تكشف حالة طقس الغد    رئيس "أزهرية الإسماعيلية" يشهد امتحانات النقل الإعدادى والابتدائى    بيلعب بمسدس والده فقتل صديقه بالخطأ.. التصريح بدفن ضحية لعب الأطفال بكفر الشيخ    بعد تجاوز أزمته الرقابية.. هل نجح فيلم استنساخ في الجذب الجماهيري؟    وزير البترول: التوسع الخارجي لشركة "صان مصر"على رأس الأولويات خلال الفترة المقبلة    البورصة تخسر 25 مليار جنيه في ختام تعاملات الأربعاء    طلعت مصطفى: 70 مليار جنيه مبيعات يوم واحد بالمرحلة الثانية من مشروع " ساوث مد"    الجبهة الوطنية يختار 6 أمناء مساعدين للحزب بشمال سيناء    بيان مشترك ل 6 دول أوروبية يحذر من «تصعيد خطير» في غزة    البابا تواضروس يستقبل وكيل أبروشية الأرثوذكس الرومانيين في صربيا    موعد انضمام أحمد سمير لجهاز الزمالك    مارتينيز لاعب برشلونة ينفي قيامه بالبصق على أتشيربي    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    عمر طلعت مصطفى: العمل الاحترافي يجذب 400 ألف سائح جولف لمصر سنويًا    الرياضية: مدرب فولام يوافق على تدريب الهلال    القومي للمرأة ينظم ورشة عمل تفاعلية لخريجات برنامج المرأة تقود    قرار هام من الحكومة بشأن الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا    قناة السويس تناقش مع عملائها تأثير التطورات الإيجابية بالبحر الأحمر على حركة الملاحة    بسبب الفلوس.. إصابة شخصين في مشاجرة بالوراق    مصرع شخصين في حريق نشب داخل مركز صيانة سيارات بالهرم    ب12 هاتفًا.. عصابة تخترق حساب سيدة من ذوي الاحتياجات وتنهب أموالها    محافظ الدقهلية يلتقي المزارعين بحقول القمح ويؤكد توفير كل أوجه الدعم للفلاحين    القائمة الكاملة لجوائز مهرجان أسوان لأفلام المرأة 2025 (صور)    أوبرا الإسكندرية تقيم حفل ختام العام الدراسي لطلبة ستوديو الباليه آنا بافلوفا    منها «السرطان».. 5 أبراج تجيد الطبخ بالفطرة وتبتكر وصفات جديدة بكل شغف    كندة علوش: دوري في «إخواتي» مغامرة من المخرج    شيرين عبد الوهاب تحرر محضرا بقسم البساتين ضد مدير صفحاتها    قطاع الفنون التشكيلية يعلن أسماء المشاركين في المعرض العام في دورته 45    منتج "سيد الناس" يرد على الانتقادات: "كل الناس كانت بتصرخ في المسلسل"    مجلس الوزراء يستعرض التقرير النصف سنوي حول أداء الهيئة العامة للرعاية الصحية    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    مدبولي يُكلف الوزراء المعنيين بتنفيذ توجيهات الرئيس خلال احتفالية عيد العمال    مجدي البدوي: عمال مصر رجال المرحلة.. والتحديات لا تُحسم إلا بسواعدهم    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    إصابة ضباط وجنود إسرائيليين في كمين محكم نفذته المقاومة داخل رفح الفلسطينية    وكالة الأنباء الفلسطينية: ارتفاع حصيلة القصف الإسرائيلي لمدرستين في مخيم البريج ومدينة غزة إلى 49 قتيلا    كيف يتم انتخاب البابا الجديد؟    بدء اجتماع "محلية النواب" لمناقشة عدد من طلبات الإحاطة    هل انكشاف أسفل الظهر وجزء من العورة يبطل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    الداخلية: ضبط 507 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    زيادة قدرتها الاستيعابية.. رئيس "صرف الإسكندرية يتفقد محطة العامرية- صور    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    أحمد سليمان: هناك محاولات ودية لحسم ملف زيزو.. وقد نراه يلعب خارج مصر    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عام الحزن
نشر في الوفد يوم 11 - 07 - 2013


وفاة أبي طالب
ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام‏.‏
وفي الصحيح عن المسيب‏:‏ أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال‏:‏ (‏أي عم، قل‏:‏ لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)‏ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏لأستغفرن لك ما لم أنه عنه‏)‏، فنزلت‏:‏‏{‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ [‏التوبة‏:‏113‏]‏ ونزلت‏:‏ {‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ [‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏
ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح‏.‏
ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك‏؟‏ قال‏:‏ (‏هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏).‏
وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال‏:‏ (‏لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه‏).‏
خديجة إلى رحمة الله
وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام على اختلاف القولين توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره‏.‏
إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها‏).‏
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ‏.‏
تراكم الأحزان
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه‏.‏ فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته، أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه‏.‏
وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها‏:‏ (‏لا تبكي يابنية، فإن الله مانع أباك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ويقول بين ذلك‏:‏ (‏ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب‏)‏‏.‏
ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سمي بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ‏.‏
الزواج بسودة رضي الله عنها‏‏
وفي شوال من هذه السنة سنة 10 من النبوة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديمًا وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها أخيرًا‏.‏
عوامل الصبر والثبات
وهنا يقف الحليم حيران، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم‏:‏ ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات‏؟‏ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة‏؟‏ ونظرًا إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة‏:‏
* الإيمان بالله:‏
إن السبب الرئيسي في ذلك أولًا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت يراها في جنب إيمانه طحالب عائمة فوق سَيْل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالي بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه، وطراوة إذعانه، وبشاشة يقينه {‏ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ‏}‏ [‏الرعد‏:‏17‏]‏‏.‏
وتتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابرة وهي‏:‏
* قيادة تهوى إليها الأفئدة‏:‏
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية، بل وللبشرية جمعاء يتمتع بجمال الخلق، وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة، والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبَّبُ لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل‏.‏ وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلًا عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها‏.‏
اجتمع ثلاثة نفر من قريش، وكان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرًا عن صاحبيه، ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل وكان من أولئك الثلاثة‏:‏ ما رأيك فيما سمعت من محمد‏؟‏ فقال‏:‏ ماذا سمعت‏؟‏ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كَفَرَسي رِهَان قالوا‏:‏ لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه‏؟‏ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه‏.‏
وكان أبو جهل يقول‏:‏ يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:‏‏ {‏ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله ِ يَجْحَدُونَ‏}‏ [‏الأنعام‏:‏33‏]‏‏.‏
وغمزه صلى الله عليه وسلم الكفار يومًا ثلاث مرات فقال في الثالثة‏:‏ (‏يا معشر قريش، جئتكم بالذبح‏)‏، فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده‏.‏
ولما ألقوا عليه سَلاَ جَزُورٍ وهو ساجد، دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون‏.‏
ودعا على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى أنه حين رأى الأسد قال‏:‏ قتلني والله محمد وهو بمكة‏.‏
وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل‏.‏ فقال‏:‏ (‏بل أنا أقتلك إن شاء الله )‏، فلما طعن أبيًا في عنقه يوم أحد وكان خدشًا غير كبير كان أبي يقول‏:‏ إنه قد كان قال لي بمكة‏:‏ أنا أقتلك، فو الله لو بصق علي لقتلني وسيأتي‏.‏
وقال سعد بن معاذ وهو بمكة لأمية بن خلف‏:‏ لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ (‏إنهم أي المسلمين قاتلوك‏)‏ ففزع فزعًا شديدًا، وعهد ألا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته‏:‏ يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي‏؟‏ قال‏:‏ لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا‏.‏
هكذا كانت حال أعدائه صلى الله عليه وسلم، أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحُدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس‏.‏
فصورته هيولى كل جسم ** ومغناطيس أفئدة الرجال
وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة‏.‏
وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يومًا بمكة، وضرب ضربًا شديدًا، دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير‏:‏ انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول‏:‏ ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لا علم لي بصاحبك، فقال‏:‏ اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت‏:‏ إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت‏:‏ ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت‏:‏ نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت‏:‏ والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال‏:‏ فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ هذه أمك تسمع، قال‏:‏ فلا شيء عليك منها، قالت‏:‏ سالم صالح، فقال‏:‏ أين هو‏؟‏ قالت‏:‏ في دار ابن الأرقم، قال‏:‏ فإن لله علي ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وسننقل نوادر الحب والتفاني في مواضع شتى من هذا الكتاب، ولاسيَّما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله‏.‏
* الشعور بالمسؤولية‏:‏
فكان الصحابة يشعرون شعورًا تامًا ما على كواهل البشر من المسؤولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررًا عما هم فيه من الاضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم وتلحق البشرية جمعاء بعد هذا الفرار لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل‏.‏
*الإيمان بالآخرة‏:‏
وهو مما كان يقوي هذا الشعور الشعور بالمسؤولية فقد كانوا على يقين جازم بأنهم يقومون لرب العالمين، ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا {‏يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ [‏المؤمنون‏:‏60‏]‏، وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالًا‏.‏
* القرآن‏:‏
وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام التي كانت الدعوة تدور حولها بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشري في العالم وهو المجتمع الإسلامي وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم {‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله ِ قَرِيبٌ‏}‏ [‏البقرة‏:‏214 ]‏ {‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ [‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏.‏
كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردًا مفحمًا، ولا تبقي لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وَخِيمَة إن أصروا على غيهم وعنادهم في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدي حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين‏.‏
وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينًا لا يقوم له أي عقبة‏.‏
وكانت في طي هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها {‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ [‏ التوبة‏:‏21 ]‏، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم {‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ‏}‏ [‏القمر‏:‏48‏]‏‏.‏
*البشارات بالنجاح‏:‏
ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد بل ومن قبله أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف منذ أول يومها إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض، والسيطرة على الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله .‏
وكان القرآن ينزل بهذه البشارات مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضي على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تمامًا أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحين الأرض والديار‏.‏ فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية‏.‏
وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى‏:‏ {‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ‏}‏ [‏الصافات‏:‏171‏:‏ 177‏]‏، وقال‏:‏ {‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ [‏القمر‏:‏45‏]‏، وقال‏:‏ {‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ‏}‏ [‏ص‏:‏11]‏‏.‏ ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة‏:‏ {‏وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ [‏النحل‏:‏41‏]‏‏.‏ وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها‏:‏ {‏لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ‏}‏ [‏يوسف‏:‏7‏]‏‏.‏ أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل‏:‏ {‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ [‏إبراهيم‏:‏13، 14‏]‏‏. وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان لكونهم مؤمنين بالله والرسل والوحي والكتب واليوم الآخر، وكان الفرس يغلبون ويتقدمون، أنزل الله بشارة بغلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى، وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال‏:‏ {‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله}‏ [‏الروم‏: 4، 5‏]‏‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى، فكان إذا وافى الموسم، وقام بين الناس في عُكاظ، ومَجَنَّة، وذي المَجَاز لتبليغ الرسالة، لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة‏:‏ (‏يأيها الناس، قولوا‏:‏ لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكًا في الجنة‏)‏‏.‏
وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام‏.‏
وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم بها العرب، ويملكون العجم‏.‏
وقال خباب بن الأرت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت‏:‏ ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال‏:‏ (‏لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله زاد بيان الراوي والذئب على غنمه‏)‏ وفي رواية‏:‏ (‏ولكنكم تستعجلون‏).‏
ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا‏:‏ قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون‏.‏
وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ليست إلا‏:‏ (‏سحابة صيف عن قليل تقشع‏)‏‏.‏
هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسموات، ويذكي جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل، وقهر النفس‏.‏ فازدادوا رسوخًا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيًا في سبيل المرضاة، وحنينًا إلى الجنة، وحرصًا على العلم، وفقهًا في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهرًا للنزعات وغلبة على العواطف، وتسيطرًا على الثائرات والهائجات، وتقيدًا بالصبر والهدوء والوقار‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.