قرأت لصديق وزميل العمر الأخ صلاح منتصر قصة قديمة منقولة عن كتابين.. كتاب «فاروق ملكا» وكتاب جلال أمين «مصر والمصريون في عهد مبارك».. وهي قصة تؤكد أن السلطة دائما تحارب القضاء المصري العادل الشامخ حتي قبل ثورة يوليو ومذبحة القضاء وضرب السنهوري باشا. ففي عام 1951 وقد اشتد الهجوم علي الأسرة المالكة وامتدت الحملات الصحفية الي شخص الملك ووالدته.. ضغط الملك علي وزارة الوفد لكي تقوم بمصادرة هذه الصحف.. وبالفعل صدر قرار المصادرة فقرر مجلس الدولة في جلسة عاجلة إلغاء هذا القرار.. ثم في جلسة عاجلة أيضا لمجلس الوزراء بالإسكندرية دخل مصطفي النحاس قاعة المجلس في بولكلي يلهث في قلق ظاهر وألقي علي الوزراء نبأ خطيرا.. الملك فاروق طلب منه شخصيا وبأمر صريح أن تصدر الوزارة مرسوما بإلغاء مجلس الدولة!! عقابا له علي هذا الحكم!! بهت الوزراء. دارت مناقشة عنيفة بين الوزراء لم ينطق النحاس باشا بكلمة واحدة خلالها وفض المجلس. وفي الاجتماع التالي عرف الوزراء أن رسولا أتي من كابري يحمل مرسوما ملكيا مكتوبا وموقعا عليه من الملك بإلغاء مجلس الدولة ومطلوبا توقيع الحكومة علي المرسوم لكي يكون نافذ المفعول!! كتب الدكتور محمد صلاح الدين استقالته وأعطاها للنحاس باشا علي الفور وقال إنه يستقيل من وزارة الشعب قبل أن تصدر مرسوما ضد الشعب.. قرأ النحاس باشا الاستقالة فثار ثورة عارمة: يا صلاح إنت عاوز تقتلني.. عاوز تعمل بطل علي حسابي. صمت الجميع.. لأنهم يعرفون النحاس باشا جيدا إنه يثور ويتنرفز ويضرب المائدة بقبضة يده.. ثم يهدأ تماما بعد فترة قصيرة. هنا تكلم صلاح الدين بكلام مؤثر يؤكد حبه وإخلاصه للنحاس باشا.. قائلا له: «أنا عاوز أحميك مش أقتلك».. هنا انهمرت دموع النحاس باشا وبكي بحرقة، فقام الوزراء والتفوا كالأطفال حول أبيهم مدركين الموقف الدقيق بين ماضٍ جليل ومستقبل يحاول النحاس باشا أن يكون أكثر إشراقا.. ولكنه قد لا يستطيع. وأخيرا.. صاح النحاس باشا بعد أن جمع نفسه وقال: خذ استقالتك يا صلاح.. وآدي المرسوم في الدرج ولن أمضيه قط.. «انتهي مقال صلاح منتصر». وللحقيقة.. وليس دفاعا عن الوفد والنحاس.. وليس ردا علي صديق العمر الكاتب الكبير صلاح منتصر الذي أراد أن يؤكد أن السلطة الغاشمة غير الواثقة من نفسها ومن كفاءتها وشفافيتها دائما تحارب القضاء المصري العادل الشامخ ذا التاريخ.. حتي في أيام الملك وخلال وزارة شعبية.. ولما كنت قريبا من السلطة والصحافة في ذلك الوقت بالذات 1950 بعد تخرجي في الجامعة.. أريد أن أوضح أمرا مهما. عندما تولي النحاس باشا الوزارة في يناير 1950 كان مصمما علي إلغاء معاهدة 1936 التي سبق له أن وقعها هو من قبل.. وكان يخشي من أن يعارض الملك.. بل كان هذا الاحتمال الأقوي.. لذا كان من خطة النحاس باشا التقرب للملك بكل السبل والطرق.. حتي قيل يوما إن النحاس باشا بعد أن حلف اليمين قبّل يد الملك.. وهو ما لم يحدث طبعا ولكن الذي حدث إنه أحني رأسه وجزءا من صدره عند المصافحة وكانت هذه أول مرة في تاريخ النحاس باشا الذي كان معروفا عنه أنه دائما يصافح الملك بكبرياء وتعالٍ.. وكعادتنا في تضخيم الأمور قالوا إنه قبّل يده!! بل أكثر من هذا.. عندما هاجم الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر الملك في سفرياته الكثيرة وقال: إسراف هناك وتقتير هنا!!! طلب الملك إقالة شيخ الأزهر فورا.. وهذا ضد القانون.. ولكن النحاس باشا وافق من أجل إلغاء المعاهدة.. وكان أول وآخر شيخ أزهر تتم إقالته.. وحرص النحاس باشا علي مقابلة الشيخ عبدالمجيد سليم «وهو قريبي» سرا ليشرح له الأمر. بل كان النحاس باشا مستعدا لإلغاء مجلس الدولة وهي جريمة لا تغتفر ولكن كان يري كل شيء يهون في سبيل إلغاء معاهدة 36.. وكل شيء ممكن إصلاحه فيما بعد.. تماما كما فعل النحاس باشا بعد أن فشل سعد زغلول وعدلي وإسماعيل صدقي والنقراشي في التفاوض مع الانجليز للحصول علي الاستقلال.. وافق النحاس علي كل شروطي الانجليز بلا مناقشة عدا حكاية السودان ليحصل علي الاستقلال.. ثم بعد التوقيع ألغي الشروط المجحفة في المعاهدة شرطا شرطا وحصل علي الاستقلال.. النحاس باشا سياسي عالمي من طراز تشرشل.