من أخطر الأمور وأكثرها جدية والتي توجب »الحذر« و»الدقة« والحيطة هو الخوض في مسائل الهوية.. والأصالة.. والتقاليد الموروثة.. والدين والمسائل التي اجتمعت عليها الأمة.. فغير مقبول الخوض بلا أي خبرة وبتسرع ضاربين عرض الحائط بالمنهج العلمي السليم الذي يقضي بأن الآراء إنما تبني علي أساس من التاريخ والملاحظة للواقع والتجارب.. فليس من الحرية في شيء أن يأتي أي شخص ويقول في هذه المسائل »هذا رأيي«؟!! وهذا لا يعني أننا نصادر علي التفكير النظري والتأمل المتأثر بالحالة النفسية أو العاطفية القوية ولكن لابد من وجود معيار تاريخي وأدبي واجتماعي وتجريبي لمن يريد أن يطرح رأيه في مثل هذه المسائل؟؟ فليس هكذا تعامل مواد الدستور. وأعود مرة أخري إلي ما كنت قد كتبته عن هذه الفكرة في »الوفد« يوم 18 فبراير 2007.. لعل الذكري تنفع المؤمنين يومها قلت: في الأسبوع الماضي تكلمنا عن كيفية انتقال المرجعية الدينية للدولة إلي الدستور المصري »المادة الثانية« كتطور طبيعي لنظام الحكم المدني الديمقراطي في الفقه السياسي الغربي وأوضحنا أن الإسلام لا يعرف الدولة »الثيوقراطية« التي ترجمها البعض خطأ إلي »الدولة الدينية« وأثبتنا أن الدين الإسلامي براء من هذه التهمة! وكان عنوان المقال: »أرحتنا يا دكتور كمال«.. إشارة إلي تصريح سيادته متحدثاً باسم أمانة السياسات بالحزب الوطني د. محمد كمال ل»أهرام« 2007/2/4 جاء فيه: »نفي الدكتور محمد كمال أن الاتجاه لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة في مصر يعني تبني العلمانية.. أو الفصل بين الدين والدولة.. أو إفراغ المادة الثانية من الدستور من مضمونها، كما يردد البعض، وهي المادة المتعلقة بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فكان هذا التصريح الصادر عن المتحدث الرسمي باسم أمانة السياسات وما لها من ثقل أراح كثيراً من المهتمين بأمر هذا البلد والحريصين علي أصالته والواعين لحركة التاريخ وعلم الاجتماع علي أرض مصرنا الغالية، حيث ساعد هذا التصريح علي »مواربة الباب« أمام »لغط« ما كان له أن يثار وخاصة أن تلك المادة »2« لم تطرح أصلاً للمناقشة سواء بالتعديل أو غيره؟! ذلك فإن من أخطر الأمور وأكثرها جدية التي توجب »الحذر« و»الدقة« و»الحيطة« هو الخوض في مسائل الهوية والأصالة والتقاليد الموروثة والدين والمسائل التي اجتمعت عليها الأمة نقصد الخوض بلا أي خبرة بل وتسرع ضاربين عرض الحائط »بالمنهج العلمي« السليم الذي يقضي بأن الآراء إنما تبني علي أساس من التاريخ والملاحظة للواقع والتجارب، فليس من الحرية في شيء أن يأتي أي شخص ويقول »هذا رأيي« في مسألة بهذا القدر من الخطورة!! وهذا لا يعني أننا نصادر علي التفكير النظري والتأمل المتأثر بالحالة النفسية أو العاطفية القوية ولكن لابد من وجود معيار تاريخي وأدبي واجتماعي وتجريبي لمن يريد أن يطرح رأيه في مثل هذه المسائل، ذلك ولعل الذي حدث في الخفاء أو العلن في هذا الموضوع »المادة2« كان في مصلحة بلادنا حتي نغلق هذا الموضوع ذا الحساسية الفائقة في مصرنا الغالية والذي يعتبر إحدي دعائم أمنها القومي بمفهومه العام والشامل، ذلك لأن المادة 2 لا تنص فقط علي أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للدستور ولكن علي أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ولا أريد أن أطيل أكثر من هذا لأن الإطالة هنا غير مفيدة!! واليوم وبعد المقدمة السابقة التي طالت ولعل القارئ يعذرنا! نتحدث اليوم عن نفس الموضوع: »المرجعية الدينية للدستور المصري« ولماذا كانت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للدستور.. وكما بدأنا المقال السابق بتصريح الدكتور محمد كمال ل»أهرام« 2007/2/4 نجد أنفسنا نبدأ بتصريح الدكتور مصطفي الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب، والرجل غني عن التعريف في حوار مع »الوفد« الذي أجراه مع سيادته الأستاذ أنور الهواري، رئيس تحرير »الجريدة«، وبعض الإخوة الأفاضل من صحيفة الوفد في 2007/2/8 والدكتور مصطفي معروف لدي الجميع بأنه من »المفكرين« العدول ذوي الإحساس المرهف والعميق بآلام وأحلام هذا الشعب الطيب، حيث عرفناه د. مصطفي من خلال كل المحافل جوالاً صوالاً بآرائه الحرة والمستقلة والمتعمقة ونظرته البعيدة والعملية ووزنه للأمور بوعي شديد لما حوله وكل ذلك يجعل الرجل لا يطلق الكلام والتصريحات علي عواهنها في دولة كبيرة عريقة مثل مصر لها حساسيتها الخاصة جداً بالنسبة لموضوع الدين والعقيدة والوحدة الوطنية. كان عنوان الحوار مع الدكتور مصطفي الفقي: »المساس بالشريعة الإسلامية غير مقبول«، المادة 2 لا تمس الأقباط في شيء ولا تضع عليهم قيداً علي الإطلاق فشريعتهم مرعية وديانتهم محترمة، أما المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية وكونها المصدر الرئيسي للتشريع فأكدت أنها تحدد هوية مصر والمساس بها غير مقبول ولا علاقة لها بقضية الوحدة الوطنية وإننا نتمسك بمفهوم المواطنة وأن المساس بالمادة الثانية أمر غير قابل للحوار، نكتفي بهذا القدر فقد أرحتنا يا دكتور مصطفي والحمد لله تعالي. ما علينا.. نستكمل الموضوع: »المرجعية الدينية للدستور المصري« تحت عنوان جديد »الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للدستور«، كما نصت المادة 2 من دستور مصر 1971 والمعدل 1980 ولم أجد في المراجع التي قرأتها في هذا الموضوع أبلغ مما كتبه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر المرحوم الشيخ عبدالحليم محمود إمامنا الكبير والولي من أولياء الله الصالحين الذين يكرم الله بهم مصرنا المؤمنة الغالية من حين إلي آخر.. رحم الله شيوخنا الأفاضل ووفق منهم من يعيش بيننا وتلك الأيام الصعبة التي تمر بأمتنا الإسلامية والعربية من تربص قوي البغي والظلم، ويشرح فضيلته هذه المسألة مبتدئاً بالآية الكريمة »بسم الله الرحمن الرحيم«: »ثم جعلناك علي شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين، هذا بصائر للناس وهدي ورحمة لقوم يوقنون«.. صدق الله العظيم (الجاثية). ثم يكمل فضيلته: نزل الدين هادياً للعقل ولا نقول إن الدين نزل هادياً للنقل في مجال الماديات، فالدين أطلق للعقل الحرية الكاملة فيما يتعلق بالبحث والكشف في عالم المادة.. لكننا نقول إنه نزل هادياً للعقل في أمور المجتمع ومجالاته وفي العقيدة وفي الأخلاق.. وفي التشريع وهداية الدين في التشريع تأتي أحياناً مفصلة تفصيلاً دقيقاً كالميراث وتأتي في أحيان أخري كليات تضم تحتها جزئيات كثيرة وأحياناً كليات يترك للعقل الإنساني أن يتصرف فيها بحسب الظروف فمبدأ »الشوري« ما يقابل الديمقراطية وتحقيق الحريات العامة، في نظام الحكم الديمقراطي مبدأ لا يتغير.. ومادام الدين هادياً للعقل.. فإن العقل لا يتحكم فيه.. وإنما يهتدي به.. إننا نؤمن بأن الدين من قبل الله سبحانه وتعالي، ولذا فإننا نؤمن بأن هداية الدين »معصومة«، فالشريعة معصومة ولا مناص من اتباعها.. ومن أجل ذلك جاءت الآيات التي تدل علي وجوب الاتباع في غاية الصراحة، وفي غاية القوة.. بسم الله الرحمن الرحيم: »فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً«.. صدق الله العظيم. لماذا جاء هذا التحديد وهذه الدقة فيما يتعلق بضرورة وجوب اتباع مبادئ الشريعة الإسلامية في الدستور المصري؟ فللحديث بقية لنستكمل كلام فضيلة الإمام الراحل شيخنا الفاضل المرحوم الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر، رحمه الله. وسيكون المقال الثالث إن شاء الله عن الأخلاق وعلاقتها باتباع النظام السياسي وبتطبيق ذلك النظام لننتقل فيما بعد إلي أفق أوسع.. وهو موضوع »الديمقراطية بين النظرية والتطبيق« وعلاقة نظام الحكم أو أنظمة الحكم بطبيعة الشعوب.