قَل أن خلا بلد عربي اليوم من توترات تتعلق بهوية الأفراد والجماعات من سكان المنطقة. ويتخذ الصراع على الهوية الدينية والمذهبية والثقافية والسياسية طابعاً دموياً قاسياً في بعض البلدان العربية كما هو الحال اليوم في سوريا . ويضع هذا النوع من الصراعات مصير الوحدة الترابية على المحك كما هو الأمر في السودان والعراق وعدد من بلدان المنطقة، ومن هنا فإنه من الطبيعي أن تتطرق أية محاولة لإصلاح النظام الإقليمي العربي إلى هذه المسألة . وهذا ما فعلته اللجنة العربية المستقلة لإصلاح الجامعة العربية التي شكلها أمينها العام نبيل العربي ويترأسها الأخضر الإبراهيمي . تضمنت الفقرات التي خصصها تقرير اللجنة لهذه المسألة المهمة تمييزاً ضمنياً بين الهوية والوطنية والجنسية . فالهوية تتشكل من الخصائص المميزة للأفراد الذين تتكون منهم الجماعات وكذلك لهذه الجماعات نفسها . أما الوطنية فهي ترسم طابع العلاقة بين الفرد/المواطن والدولة التي يعيش فيها فتحملها مسؤولية حمايته من كل ضرر وأذى يهدده من داخل البلاد أو خارجها، مقابل تحديد واجباته ومسؤولياته تجاهها وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه . وتتقاطع الجنسية مع الوطنية في أكثر من موضع خاصة من حيث الحقوق السياسية والجمعية التي يتمتع بها الفرد عندما يكتسب جنسية بلد معين مثل حقه في الانتخاب وفي ترشيح نفسه للمناصب السياسية وفي تشكيل الجمعيات الناطقة باسمه وباسم المجموعات التي ينتمي إليها . إلا أن هذا الفرد قد يكون منتمياً أساساً إلى هذا البلد بحيث يتطابق الانتماء الوطني مع الجنسية أو قد يكون الفرد مهاجراً إلى بلد جديد فيكتسب جنسيته بعد أن تتوافر له الشروط الضرورية للحصول عليها، ولكنه في الوقت نفسه، قد يحافظ على جذوره الوطنية وعلى علاقاته بالبلد الأم مثل العديدين من المهاجرين العرب في بلدان الاغتراب . يوفر التمييز بين المفاهيم الثلاثة، كما يرتئي التقرير، مدخلاً مناسباً للتفتيش عن طريق للحد من الصراعات المتعلقة بالهوية التي استنزفت وتستنزف المجتمعات العربية وضربت وحدة الدول الترابية، كما ذكرنا أعلاه . ويخطئ من يظن أن هذه الظاهرة محصورة بالبلدان العربية التي توصف أحياناً بأنها معمل للفتن والاضطرابات وهلال للأزمات . فمثل هذه التوترات، تطل على مسارح السياسة من جديد في بلدان أوروبية مثل بريطانيا حيث يحكم اسكتلندا حالياً الحزب الوطني الاسكتلندي الذي يعمل على تحقيق استقلال هذه المنطقة عن بقية المناطق البريطانية، ومثل إيطاليا التي باتت “رابطة الشمال” التي تدعو إلى انفصاله عن الجنوب “المتخلف” و”المتوسطي”، شريكاً مهماً في الحكم تستثمر وجودها فيه من أجل تيسير مشروعها الانفصالي . وهكذا يمد البعدان العالمي والإقليمي التوترات الفئوية إلى البلدان العربية بزخم مضاعف . على خلفية التمييز بين المفاهيم المشار إليها أعلاه، يقترح التقرير “تعريف العربي بأنه كل من يحمل جنسية دولة عربية، وترى اللجنة أن هذا التعريف يتجاوز الجدل حول الهوية الذي يأسر العلاقة بين الجماعات والفئات العربية، ويدمج تقريباً المواطنة والجنسية في بوتقة واحدة بحيث تقل أو حتى تزول الفروق بين المتجنس والمواطن . ويتطلع التقرير إلى هذه الصيغة التضمينية كأساس لحل مشكلة الهوية الجامعة ولتحويل الأرض العربية إلى فضاء يلتقي فيه التنوع والوحدة . وتبدو هذه الصيغة مقنعة إلى حد بعيد، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض التجارب المشجعة في المنطقة العربية لجهة التشابك والتقاطع بين الجنسية والمواطنة وصولاً حتى إلى الهوية المشتركة . ومن أبرز هذه التجارب في هذا المضمار تجربة الأرمن في لبنان . فهذه الفئة اللبنانية جاءت إلى لبنان هروباً من الاضطهاد الذي عانته، واكتسبت الجنسية وحقوقها بسرعة بسبب ظروف تاريخية مناسبة . واندمج المهاجرون الأرمن بالمجتمع اللبناني خلال زمن قصير . وكوّن الأرمن أحزابهم المستقلة التي أثبتت إخلاصها للبنان وحرصها على مصلحته العليا خلال حروب السبعينات والثمانينات على نحو فاق ولاء بعض الأحزاب اللبنانية للبلد . وكما أثبت الأرمن اللبنانيون ولاءهم للبنان، فقد تصرفوا “كعرب” أيضاً، إذ أتقن الجيل الثاني منهم اللغة العربية على أفضل وجه، وتمثلوا بصورة فاعلة في مفاصل العلاقات اللبنانية - العربية كافة، وأيدوا دون تردد تثبيت انتماء لبنان العربي في دستوره . فهل لنا أن نعتبر هذه التجربة دليلاً على صواب الاقتراح الذي تقدم به تقرير اللجنة عن تعريف العربي؟ حبذا لو كان باستطاعتنا الوصول إلى هذا الاستنتاج، وحبذا لو تعددت هذه التجارب التي تؤكده وترسخه . ولكننا لا نستطيع الاعتماد على تجربة أو حتى على عدد محدود من التجارب المماثلة لكي نستنتج أن التعريف الذي وضعته اللجنة يحقق الغاية المطلوبة منه . فهذا التعريف بحاجة إلى المزيد من البحث وإلى التأمل وهو يثير أسئلة تبحث عن أجوبة . إنه يقول إن العربي هو من يحمل جنسية الدول العربية، وفي ذلك منطق سليم، ولكن التقرير لا يقول لنا كيف تكتسب الدولة هي نفسها جنسيتها العربية؟ هل تكتسب هذه الجنسية من خلال انتسابها إلى جامعة الدول العربية؟ ربما كان هذا الأمر ممكناً لو أن الجامعة تتمتع بمكانة وقدرات تسمح لها بإضفاء الصفة العربية على الدول الأعضاء بمجرد انتسابهم إليها وإعلانهم الالتزام بمبادئها . وربما كان هذا الأمر مستطاعاً لو أن للجامعة في المنطقة العربية من المكانة المعنوية ما للفاتيكان بين المسيحيين الكاثوليك . ولكن هل هذا هو الواقع؟ لعلنا نجد في الحوارات التي دارت في بغداد بين زعماء العراق الحاليين على مسألة الهوية العربية للعراق ما يجيب عن هذا السؤال . فقد كان أكثر هؤلاء الزعماء يميلون إلى شطب هذه الهوية وعدم الإشارة إليها في الدستور العراقي، إلا أنهم مراعاة لبعض الشركاء في الحكم وافقوا على استبدال هذا الموقف بإدخال نص على الدستور يقول إن العراق بلد مؤسس للجامعة العربية ويلتزم بميثاقها . فهل شكلت هذه الخطوة تراجعاً عن موقف الأكثرية الأصلي؟ هل أريد بها القول نعم إن العراق بلد عربي بدليل أنه يلتزم بميثاقها؟ أو أن زعماء الأكثرية أرادوا تأكيد رفضهم عروبة العراق، ولكن بصورة غير مباشرة، عن طريق تضمينهم الدستور إعلاناً بالالتزام بميثاق قل أن ألزم أعضاء الجامعة بأي موقف؟ الأرجح هو أن التفسير الأخير لموقف الزعماء العراقيين هو التفسير الصحيح . والأرجح أن مسألة الصراع على الهوية العربية للأفراد والجماعات التي استنزفت المشاعر والعقول العربية، تحولت إلى صراع على هوية الدول أيضاً . فبعد الفيتو على عروبة العراق مؤسس جامعة الدول العربية، استمعنا إلى فيتو جديد على عروبة سوريا . وليس من المستبعد أن تتكرر هنا وهناك الفيتوات فتشمل جامعة الدول العربية، بحيث يطالب البعض بنزع الصفة العربية عنها فتكون جامعة دول فحسب . الجواب عن هذه المخاوف هو أن التقرير الذي وضعته اللجنة لايتناول مسألة الهوية العربية بصورة معزولة عن الجوانب الكثيرة المتعلقة بالمصير العربي المشترك . إن المقترحات المتعلقة بهذه الناحية هي جزء من كل أي من عملية ترميم وتحديث شاملة وعميقة للبيت العربي، وما يضعف الهوية - ولو شكلاً- في مجال سوف تعوضه في مجالات أخرى تطرق إليها التقرير . وهذا صحيح . فاللجنة تضع نصب أعينها تعزيز الرابطة العربية وليس إضعافها . رغم ذلك فإننا نعتقد أن مسألة العلاقة بين الهوية والمواطنة والجنسية تستحق المزيد من البحث والتبصر . نقلا عن صحيفة الخليج