حسن جدا أن تفتح كل ملفات الفساد في العهد السابق، حتى نتعلم من سلبيات هذه التجربة المريرة ونتلافى تكرارها في المستقبل. لكن ليس حسنا أن تفتح كل ملفات الفساد في السياسة والاقتصاد وغيرها، بينما يظل ملف الفساد الثقافي مغلقا،مع أن هذا الفساد لا يقل خطرا عن ألوان الفساد الأخرى ان لم يزد عليها، فكل أنواع الفساد الأخرى يمكن تداركها بسهولة أما الفساد الثقافي فمن الصعب علاجه لأنه يصيب الروح والوجدان في مقتل وربما كان المدخل الطبيعي لكل أشكال الفساد. ولقد بدأ الفساد الثقافي في عصر مبارك مع اختيار فاروق حسني وزيرا للثقافة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بل يمكننا القول أن هذا الاختيار كان في حد ذاته اشارة اكيدة أن عهد الفساد الشامل قد بدأ، بدءا من الثقافة وانتهاء بكل المجالات الأخرى. والحقيقة أن المثقفين قد فزعوا بمجرد اختيار فاروق حسني ولعلنا لازلنا نذكر تلك المقالات الساخنةالتي امتلأت بها أنهار الصحف في تلك الفترة هجوما على هذا القرار بدءا من صحف المعارضة وانتهاء ببعض الكتاب الموالين للنظام من أمثال ثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي حيث لم يتورع البعض أن يقتحم أخص خصوصيات الرجل وأن يخوض في سلوكيات معينة نربأ بأنفسنا أن نذكرها في هذا المقام لدرجة أن ظن البعض وقتها أن النظام يمكن أن يستحي وأن يتراجع في قراره لكن النظام لم يتراجع رغم علمه الأكيد بكل سلوكيات فاروق حسني اذ يبدو أن النظام وجده الرجل المناسب تماما للمرحلة. وظل فاروق حسني يتربع على عرش الثقافة المصرية (حتى خربها وقعد على تلها) لمدة تقارب ربع القرن وقد كانت تلك الفترة من أسوأ الفترات التي مرت على الثقافة المصرية خاصة والعربية عامة وتركت آثارها المدمرة على الثقافة والمثقفين وهي آثار تحتاج الى سنين طويلة حتى يتم التخلص منها فقد تحولت وزارة الثقافة في عهده الميمون الى ادارة تابعة لأمن الدولة تتبع ما يلقى اليها من تعليمات ضباط المباحث وتأتمر بأوامرهم وتنتهي بنواهيهم. كما تحولت كل الأنشطة الثقافية الى مؤتمرات صاخبة لا يكاد ينتهي مؤتمر حتى يقام آخر ولا تسل عن الجدوى فكل ما يريده فاروق حسني هو احداث "فرقعة" اعلامية و"صهللة" ثقافية على حد التعبير الشائع للوزير الفنان. كما استخدمت في ذلك العهد أحط الوسائل والأساليب لجذب المثقفين الى "الحظيرة" (والحظيرة تعبير شائع آخر للوزير الفنان) ولعلنا لا نجد توصيفا يصدق على تلك المرحلة أكثر من قول كاتبنا الكبير صنع الله ابراهيم : " لم يعد لدينا مسرح أو سينيما أو بحث علمي أو تعليم ، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب." قال صنع الله هذه الكلمات الصادقة في مواجهة سدنة النظام وحراس البوابة الثقافية لأمن الدولة حين رفض جائزتهم المشبوهة سنة 2002 فكان هذا الرفض أشد لطمة وجهت للأقفية الغليظة لسدنة النظام الفاسد. والحقيقة أن فاروق حسني ليس مسئولا وحده عما جرى للثقافة في عهده من فساد وافساد وانما المسئولية الحقيقية تقع على عاتق مجموعة من المثقفين الذين نذروا أنفسهم لخدمة النظام وساروا في ركابه. وكان في مقدمة هؤلاء المسئولين الكبار الدكتور جابر عصفور والمرحوم الدكتور سمير سرحان والكاتب الكبير صلاح عيسى. وقد كان هناك كثيرون غيرهم بالتأكيد لكن هؤلاء الثلاثة – خاصة جابر عصفور – هم المسئولون عن كل الكوارث الثقافية في عهد مبارك. وهذا ما سوف نتناوله في حلقات قادمة باذن الله.